أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
أمين علم تجمع عقول
كنا حددنا السياسي الفاسد بالحكّام الذين تولوا السلطة في العراق بعد عام 2003،وقادة الاحزاب والكتل التي لها دور فاعل في العملية السياسية ،والأشخاص الذين يتولون مراكز ادارية في مؤسسات الدولة المتهمين بالفساد من قبل هيأة النزاهة والذين تدور حولهم شبهات فساد.وحددنا المرض النفسي بأنه لا يعني هنا الخبل او الجنون،بل افكارا غير عقلانية و عقدا نفسية تتحكم في شخصية الفرد،وتجبره على تحديد اهدافه،وتفرض عليه طريقة تفكيرمحددة في تحقيقها..وسنثبت هنا ان السياسي الفاسد مصاب بأخطرها نوجزها بالآتي:
1.
اكدت الأحداث ان العقل السياسي الفاسد في الزعامات العراقية مصاب بـ(البرانويا ) التي تعني بمصطلحات الطب النفسي اسلوبا او شكلا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع شديد وغير منطقي ودائم من الشك وعدم الثقة بالاخر،ونزعة ثابتة نحو تفسير افعال الاخرين على انها تهديد مقصود.ولهذا فأنه يحمل ضغينة مستديمة لمن يخالفه الرأي(العلماني مثلا) ويرفض التسامح عما يعدّه اهانة اعتبار جسدها المتظاهرون باهزوجات موجعة( الله واكبر ياعلي الأحزاب باكونه،ما نريد حاكم ملتحي نريد حاكم يستحي..)، وانه على استعداد للقتال او المقاومة والاصرار بعناد على التمسك بالسلطة بغض النظر عن الموقف( احتجاجات تموز 2018).
ودليل ذلك ان تظاهرات( 2011) طالبت بمحاسبة الفاسدين ،فحماهم السيد نوري نوري المالكي بمقولته الشهيرة التي ستدينه تاريخيا(لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها)وواصل حمايتهم بتخدير بالوعود خلفه السيد حيدر العبادي الذي وعد بضربهم بيد من حديد وما فعل.ولأن المتظاهرين هتفوا في شباط 2011( باسم الدين باكونه الحراميه)..فأن الفاسدين أضمروا لهم العقاب بمزيد من الأهمال..ونترك لحضراتكم ما جرى من التعامل الشرس والمهين مع المحتجين في انتفاضة تموز 2018.
2.
ومن عام( 2010 ) كنّا شخصنا العقل السياسي الفاسد في السلطة بأنه مصاب بـ(حول عقلي)، ناجم عن تعصب طائفي او اثني..يجبره على تصنيف الناس الى مجموعتين:(نحن) و (هم)،وأنه يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار ويرى انها على باطل،ويرى جماعته انها على حق مطلق حتى لو كانت شريكاً بنصيب اكبر في أسباب ما حدث.وقلنا بالصريح ان شخصا بهذه الصفة المرضية لا يصلح أن يكون قائدا لمجتمع تتنوع فيه الأديان والمذاهب والقوميات.
3.
وأضفنا أيضا أن الاحداث أثبتت عبر السنوات الخمس عشرة الاخيرة ان العقل السياسي العراقي منتج للأزمات،وانه غير قادر على حل المشكلات،لأن الادمان على الازمات كالادمان على المخدرات..ففي الحالتين يحدث للعمليات العقلية في الدماغ برمجة ثابتة تجعله يعتاد على تفكير نمطي محدد يجبره على تكراره.وبما ان المشكلات الاجتماعية تتطلب حلولا مبتكرة وان العقل السياسي في السلطة انشغل بانتاج الازمات،عليه فان بقاءهم فيها سيلحق المزيد من الاذى بالناس بما فيها استهداف حياتهم وامنهم..وسيبقى الحال على سوئه ما دام السياسي الفاسد يبقى هو صاحب القرار.
4.
والعقل السياسي الفاسد مصاب بالدوغماتيةDogmatism التي تعني الجمود العقائدي او الانغلاق الفكري الذي يفضي الى تطرف ديني،مذهبي،قومي او قبلي،وتعدّ بحسب دراسات علمية انها – الدوغماتية- احد اهم واخطر اسباب الأزمات السياسية والاجتماعية،وانها(مرض)خالقي الأزمات من القادة السياسيين.
ومن عام 2008 كتبنا عبر (المدى) وقلنا عبر الفضائيات ان قادة العملية السياسية العراقية لن يستطيعوا ان يتحرروا فكريا من معتقدات ثبت خطؤها،ولن يستطيعوا ان يجدوا حلّا او مخرجا لما هم فيه،بل انهم سيعرّضون ملايين الناس الى مزيد من الأذي،وقد حصل ما كنّا حذرنا منه.
وسيكولوجيا،نعيد التوكيد بأن المضطهد سياسيا يتحول الى جلاّد حين يستلم السلطة ويعتبر ثروة الوطن ملكا له ولجماعته الذين يحمونه،وأن هذه السيكولوجيا تجبره على ان يعتمد مبدأ (الثقة الطائفية)في التعيين الوظيفي حتى لو كان شاغل الوظيفة لا يحمل شهادة الاعدادية،فمن لقبه (موسوي،حيدري،ساعدي،سوداني،جحيشي…)صار عند سياسيي شيعة العراق افضل من حامل دكتوراه وبروفيسور في الاقتصاد السياسي.وكان هذا خطأهم القاتل،لأن الدولة التي تستبعد الكفاءات والخبرات تتحول مؤسساتها الى ملكيات افراد،وهذه حقيققة واقعة..فالوزارات العراقية،ومعظمها شيعية، تابعة لكتلها السياسية لا للدولة،وكأنها دويلات او ملكيات طائفية او عشائرية وحتى شخصية..يتلقى وزيرها التعليمات من رئيس كتلته ويتم التوظيف فيها على اعتبارات حزبية اوعشائرية.ومع ان هذا هو مرض السلطة في العراق منذ عام 1963،الا ان سياسيي الشيعة بشكل خاص والفاسدون من الحكّام افرطوا في ذلك واسندوا وظائف بمسؤليات كبيرة الى جهلاء معرفة وفقراء خبرة.
لا عقلانية خطاب الفاسدين
بمنطق السيد همام حمودي (فأنكم- يخاطب العراقيين- تعيشون فرصة تاريخية،فانتم تعيشون نعمة ما بعدها نعمة)..فلو كان الحال كما يصف،فلماذا خرجت جماهير الشيعة تطالب بابسط الخدمات..الماء والكهرباء!.ولكنه صادق في وصف الحال الذي يعيشه هو وجماعته،وهذا انموذج من الأفكار اللاعقلانية التي تسيطر على تفكير السياسي الفاسد،والسياسي الساكت عن فضح الفساد.
وبنفس المنطق غير العقلاني يصرح مسؤول في البنك المركزي بأن( مقبوضات وزارة المالية من العملة الأجنبية للسنوات من 2005 الى 2017 بلغت 706,23 مليار دولار خرج منها 703 مليار دولار صرفت على العراقيين)..وهو صادق بان هذا المبلغ خرج فعلا..ولكن من خانة التنمية العامة الى خزائن احزاب السلطة وحسابات الفاسدين في بنوك العالم،لأن ذلك المبلغ يكفي لأعادة اعمار بلد خرج من حرب كارثية،فيما محنة العراقيين تعدت الماء والكهرباء الى تدهور مريع في الزراعة،الصناعة،الصحة ،البيئة،النقل،والتعليم..فضلا عن تزايد حالات الجريمة والطلاق والانتحار والالحاد والعنف المجتمعي.في زمن حكم الفاسدين.
وبنفس (المنطق) ايضا اعلن السيد نوري المالكي (تموز2012)ان العراق دخل مرحلة الأزدهار وهو يدشن اكبر ميزانية في تاريخه( 102 مليار )دولار امريكي ،فاين ذهبت والعراقيون يدخلون في جمعة آب 2018الجمعة الخامسة والعشرين بعد المئة في تظاهرات تتطالب بتوفير ضرورات الحياة لا متعة الأزدهار..اي في السنة التي اعلن المالكي انها سنة ازدهار!..وهو صادق ايضا في وصف ازدهار حاله بعد ان كان يبيع (الخردوات )في الأسواق الشعبية.
وتتوضح حقيقة الفاسدين اكثر بان صرفيات العراق للمدة من 1920 الى 2003 بلغت- بحسب السيدة ماجدة التميمي- (220)مليار دولار ،فيما بلغت مصروفاته من 2003 الى 2018 ( 862)مليار دولار!..فأين ذهبت والعراقيون في أسوا حال والوطن خراب!
تلك الارقام تؤكد ان الفاسدين نهبوا المليارات،وان من يكنز المليارات ويترك شعبه يتضور جوعا،ليس سليما نفسيا.ولهذا فان المعركة ضد الفساد ستكون شرسة جدا،لأن الفاسدين يمتلكون السلطة والثروة،يعني القوى الأمنية والحمايات الخاصة،ورجال اعمال ومقاولين ومدراء شركات ومسؤولون بالدولة والمنتمين لأحزابهم والمتملقين ورافعي شعار (الشين اللي تعرفه احسن من الزين اللي ما تعرفه).
ان الحوار مع عاقل يفضي الى حلّ فيما الحوار مع مريض نفسيا يضعك أمام خيار واحد..ان تؤمن بما يراه هو أنه الحق بعينه،فيما هو وهم وخبل.ولأن الغالبية المطلقة من قادة أحزاب السلطة ومكونات الحكومة مصابون فعليا بعقد نفسية وتتحكم بهم افكار غير عقلانية..فان الحوار معهم لن يجدي نفعا. ولأنهم تحولوا الى مستبدين وسقطوا اعتباريا واخلاقيا بنظر جماهيرهم،ولأنهم مسكونين بالخوف والرعب من الشعب والمتظاهرين..فانهم سيستميتون من اجل البقاء في السلطة،وليس للجماهير والقوى الوطنية والتقدمية الا التفكير بحل غير تقليدي يحقق الحياة الكريمة في وطن يمتلك كل مقومات الرفاهية لأهله.