شاعِرُ النَّواعِير
الدكتورة أمل سلمان حسّان
لم أسمع به من قبل ، ربُّما بسبب غلبة المركز على الهامش ، أو لأنه لا يحبُّ الظهور الإعلامي ، فكان أوّل معرفتي به يوم التقيته في مهرجان نقابة المعلمين المنعقد في العاشر من آب لسنة ، ٢٠٢١ لاختيار شاعر النقابة ، كنت حينذاك أحد أعضاء اللجنة التحكيمية ، وقد فاز بالمرتبة الثالثة ، على الرغم من أنّي تمنيتُ في قرارة نفسي أن يكون بالمركز الأوّل ، فقد أسرتنِي شاعريته المنفتحة على جميع الجهات وصوره البديعة ورقة أسلوبه وجمال إلقائه الاخاذ وإيماءاته الهادفة ، ذاك هو الشاعر خلف دلّف الحديثي .
ما اعجبني أكثر هو ذلك السَّر الذي سرّنِي إياه ، ربُّما ليس من حقّي أن أبوح به للقارىء الكريم ، إلا أنّي أرى أنّه لا يُّعد مثلبةً للشاعر بقدر ما هو سيمياء تميز وتحسب له وتفوق قال : أنّي لا أُجيد شغلة العروض ولستُ مُتمرساً في بحور الشّعر وعلله وزحافاته ، وهنا تفتق في بالي سؤال مفاده :
هل أن الوزن الشّعري والنّظم على البحور الشّعرية المعروفة شرط للشاعر ؟ ثم إن الشعر كتابة إبداعية حرّة وإحدى أهم طرق ممارسة الحرية هو الابتعاد عن القيود التي تتعارض مع السليقة .
فالشّعراء منقسمونَ على قسمين ، أحدهما : شاعِرُ لُّغة ، يعمل على تنمية موهبتهِ الشّعرية بالتّمرّس والدّراسة وتتبع البحور الشّعرية والأوزان المختلفة والتفعيلات والزحافات والعلل ، ويجعل من اللُّغة عجينة بين يديه يشكلها كيفما يريد وحسبما تُمليه عليه مقاصِده وهذا طبعا شاعر متمكن .
والآخر : شاعرُ حياة يقولُ الشّعر على سليقته يصغِي فقط لإيقاع روحهِ وحالات نفسهِ ، فهما يشكلان الوزن الذي ستخرج عليه قصيدته ، وعلى نحو ما هو معروف ، فإن كبار الشّعراء كتبوا أجمل القصائد وأبدعها من دون الإتكاء على مرجعية موسيقية أو إيقاعية .
وقد اتفقت جميع الآراء على أنّ الفراهيديّ اكتشف الأوزان التي كتب بها الشعر العربي قبل أن يضع عِلم العروض ، فالشّعر سابق على العروض ، وهو بذلك يكشف لنا عن فطرة الإيقاعات النفسية التي انبثق منها الشعر ، ولا اعتقد أن الفراهيدي وضع علم العروض ليعلّمنا كيف نكتب الشعر ؛ لأن الشّعر موهبة ولا يمكن تعلّمه أو اكتسابه بالتدريب والتقادم والحفظ ، ولو كان الشعر يكتسب أكتسابا لكان الفراهيدي نفسه من أكبر الشعراء ، فهو عملية مركبة ومعقدة يسهم في تكوينه الوعي واللاوعي .
أقول قولي هذا ، وبين يدي المجموعة التاسعة والعشرين للشاعر العراقي ، خلف دلّف الحديثي والتي عنونها بــ (لا شيء يا أنت) عنوانٌ صادمٌ ومشاغبٌ ومبهمٌ تركيبيا ودلاليا ، يحتاجُ قارئا مغايرا يقتحم الفضائين معا ،ويقيمُ علاقة تفاعليّة تشابكيّة بينهما، فعلى المستوى التركيبي نلحظ أنّه متكوّن
من جزأين وعلى النحو الآتي :
_ لا شيءَ : وهو تركيبٌ نحوي متكون من لا النافية للجنس ، وشيءَ إسمها مبني على الفتح في محل نصب وخبرها محذوف تقديره موجود .
والجزء الآخر ، يا أنت : جملة نداء وقد منع أغلب النّحاة نداء ضمير المخاطب ، والعلة في ذلك أن النداء في حد ذاته خطاب ، وعليه فهذا التركيب لا يصح ولم يرد إلا مسموعا كقولهم : يا إياك ، وإذا أردنا إعرابه يجوز القول : الياء حرف نداء والمنادى محذوف تقديره هنا في عنوان الشاعر ، يا امرأة أنت والضمير يمكن أن يكون توكيدا لفظيا .
تأسيسا على ما سبق يمكن قراءة العنوان وإرجاعه إلى أصله اللغوي فنقول : لا شيءَ أقدسُ أو أكرمُ أو أعظم منك يا امرأة .
أقدسُ أو أكرمُ أو أعظم منك يا امرأة انت ، لكن الشّاعر هنا اختزله في أداتين وكلمتين فقط ، وأجاز لنفسه ما لم يجزه النّحاة ، وفي هذا دلالة على تمكّن الشاعر من عنواناته بوصفها منظما لغويا ، يكشف رؤية النصوص المتضمنة ويُبئر دلالاتها صوب المتن .
الذي جاء هو الآخر مُوّجها نحو المرأة عامة والطبيعة خاصة ، مزاوجاً بينهما وبين الماء وتجلياته المختلفة بوصفه كلَّ شيءٍ ، يقول في قصيدته أبصرتني فيكِ :
قد ابتغيكِ وإنّي فيكِ ألمَحُنِي
غيثا يُدثّرُ صحراءَ الهوى ثَمَدا
فاطلقِي صوتكِ النَّهري في مُدنِي
ليخْصِف الشَّوق في ضِلع السّنا غَيَدا
وداعِبي أنّة النَّاعورِ حافية
لِيركضَ الماءُ نحو الماءِ مُنْجِردا
يا كلّك الآن في كُلي أراكِ أنا
كُلّي وكُلّك في كُلي قد انعقدا .
وأمّا عن المستوى الدلالي للعنوان فقد ألقى بظلاله على مجمل النصوص الأخرى التي بلغت اكثر من ثلاثين قصيدة ، تنوعت الرؤى واختلفت الدلالات إلا أنّ ثيمتها الرئيسة كانت هي الماء ، وبهذا يمكن أن نطلق عليها القصائد المائية ، وهو مصطلح متداول في الشعر العربي والعالمي ويشتمل على مجموعة القصائد التي شكل فيها الماء نسبة أساسية في مضمون القصيدة ،
ولا تخرج المرأة عن أن تكون انثى الماء لارتباطها برمزية الماء وتحولاته وعناصره من قبيل ، الخصب والنماء والتطهير والزرع والأمومة والوطن والعشق وما إلى ذلك من رموز ودلالات :
أُنثى من الماءِ مِنها الماء صيّرنِي
طفلا وأدركنِي في أوّلي الكِبرُ
وقد حملت اغلب عنوانات نصوصه الأخرى هذا المضمون نذكر منها ، جدار الماء ، وذاكرة الماء ، وشواطىء الليل ، وقطرات الظل ، وملامحها والماء ، ونهر العُلا ، وقمصان النهر وضباب الأحلام ، ولوحات مائية … وغيرها .
المتأمل لمجموع هذه النصوص يلحظ الصور الشّعرية الخلابة البديعة المستمدة من بيئة حديثة تلك المدينة الغافية على
بينِي وأنتِ علاقة ورديّةٌ
فمتى ستجمعُنا لها الشّطآن ؟
فحصيّرة القصبِ التّي رتبتُها
تاقتْ إلى شهقاتِها الألحان
وسقيفتِي قالتْ هناك سَنلتقِي
فَتجيئنا في مَوجِها الغدران
أنا لا أميلُ إلي لكّن نَخلتِي
تعبتْ فمدَّ بساطه الرُّمان .
فصور الطبيعة وتجليات الماء والنظر إلى الأنثى بوصفها الوطن والأرض والأم بل هي الحياة كلها ، كانت المهيمن السائد على هذه النصوص نقرأ في قصيدته أنثى الماء :
على عيونِك ألقى لونه البحرُ
وحاورَ الماء في كأس الضُّحى السّكرُ
هواك غصنٌ حكى للبرد عن قلقي
فمدّ وجهكِ في أنساغه الجذرُ
دُنيا مِن العشبِ كم راودت سُنبلها
ولي مآرب فيها والعصا السّحرُ
مُلطخٌ بغبار التينِ ثغر غَدي
والتوت جرّده من لونهِ الخمرُ .
وهو يتألم بصمت على ما آل إليه الوطن من تمزق وضياع وهجرة الأبناء بسبب الحروب البائسة التي اكلت الأخضر واليابس وحتى نواعيره التي عُدّت رمزا تراثيا ووطنيا لمدينته امتدت عليها يد الطغيان والزمان فأوقفت دورانها. نقرأ في قصيدته اتيت خلفي :
على كَفِي نقشْتُ سنين جوعي
وأطعمْت المُشردَ والسَّبايا
وَحولي قد حفرْتُ بظفر كفي
فخيطتُ الرَّغيفَ إلى الرّعايا
وألبستُ الصَّباحَ ثِياب شَهد
وقدمتُ العُطورَ مع الهدايا
وتوّجْتُ الفراتَ بماءِ شَوقِي
فدارتْ بِي نَواعير السّرايا
فدعنِي لا تَسلنِي حين أبكي
ولا تسأل ضَياعي عن أنايا
وأخيرا أقول : الحديث عن الحديثي يطول فقد استطاع أن ينفذ إلى جوهر الشعر واللغة معا ، فزاوج بين الطبيعة والمرأة في هدوء وسلالة مع إدراك فطري لموسيقى الألفاظ ، حتى لتغدو الألفاظ في نصوصه ، نواعير عذبة تأنس لها النفوس ، وترن لها المسامع ، وتطرب لها الأذن فتنفذ إلى وعي القاريء الذي لا ينفك يستزيد من جمال الإيقاع ، وعذوبة اللغة ورقتها بتشبيهاتها البكر ، واستعاراتها اللطيفة ، فنلحظ الجزالة والسّلالة والتآلف والبعد عن الإغراب والتكلف وإصابة المعاني وانسيابيتها .
*