أ.د.سمير عبدالرحمن الشميري
( أستاذ علم الاجتماع-جامعة عدن )
((شاعر وناقد من طراز رفيع ))
نعيش حياة كلها خبص في خبص مغموسة بالجوع والزفرات الحزينة والمضض الروحي وويلات التناحر والاحترابات والعذاب الغليظ والتشظي ومثخنة بجراح النزاع وسهام الاتهامات :
إننا نموت بشكل متجزئ ! يموت الفرح ، تموت الذاكرة ، تنحني الأشواق ، ندخل في الرتابة ، ثم ننسحب ، نشيخ بسرعة ، وبشكل مذهل ، شيئ ما يتآكل يوميا داخلنا ولانشعر ” واسيني الأعرج ” .
الكاتب والشاعر والناقد والمثقف مقيد بأصفاد مادية ورمزية يكتب ليتجاوز الألم العظيم والأوضاع الزميته وفي قلب المحنة والعذاب تصعد من أعماقه قوة تجعله يدوس بقدميه على الأوجاع :
ويمشي مبتسما أمام كل من ينتظر سقوطه ” نزار قباني ” .
أكتب تجنبا للموت، أكتب تفاديا للنسيان ، أكتب على أمل ضئيل لاترك أثرا ، ظلا ، خربشة في رمال متحركة ، في غبار متناثر ، في صحراء شاسعة ” آسيا جبار “.
يمكن القول دون سهو أو لغط ، إن الشاعر والناقد والأديب الدكتور/عبدالعزيز المقالح
(2022-1937م) ، صنع مجده بالعمل والصبر والمثابرة فمن الشفق إلى الغسق كان يقرأ ويكتب:
يقرأ كل شيئ ، ويسمع كل شيئ ، ويناقش كل شيئ ” أحمد بهاء الدين ” ، حتى أصبحت المنضدة جزءا من جسده- حسب تعبير الروائي العالمي أورهان باموق :
اللافت للانتباه أن هناك الكثير ممن يتجرؤون على الكتابة بانتظام من دون أن يفهموا جيدا ، صهيل الحروف ، ولاهديل الكلمات ، صحيح أن نصوصهم وكتاباتهم خالية من الأخطاء النحوية والإملائية ، إلآ أنها محرومة أيضا من الجرس الجميل ، والبناء المستقر ، فالعبارة عند هؤلأ مرتبكة تتأرجح على حبل من أفعال وأسماء وأحرف لاانسجام بينها ، ولا ارتياح موسيقيا في ايقاعاتها ، مايجعل قارئها ينفر منها وينصرف عن متابعة النص أو إكماله “ناصر عراق ” .
المبدعون حملة الأقلام وأهل الذكاء والكيس من أمثال د. عبدالعزيز المقالح :
هم أولئك الذين عرفوا الهزيمة والكفاح والعذاب والخسارة ، ووجدوا طريقهم الخاصة للخروج من الأعماق السحيقة ، هؤلأ الأشخاص لهم رؤويتهم وحساسيتهم وفهمهم للحياة . يملؤهم التعاطف والتواضع والبساطة ، والقلق والحب العميق .الأشخاص الجميلون لايأتون من لاشيء ” الزبت كويلر روس ” .
الشاعر والناقد والمثقف الدكتور/عبدالعزيز المقالح مليح الأدب واللفظ يحمل بين دفتيه الفطرة والبداهة وبلغ أرقى مدارج الرقي الشعري والأدبي ويكتب بحبر عليم وموهوب حتى أطراف أصابعه .
والشعر – حسب تعبيره – كتابة متقدمة تحاول استحضار العالم وإيقاظ التاريخ ورسم صورة الإنسان من الداخل . وكل شاعر حقيقي يأتي إلى الحياة يحاول انجاز شيئ جديد في اللغة والمعنى ويسعى إلى إضافة أنهار وجبال ووديان لاوجود لها في الجغرافيا.
وقد لا أكون بحاجة للقول ، أنه صاحب ثقافة ثرية ومتين في اللغة والشعر والأدب يحسن صناعة الكتابة وله في اللسان ملكة ويكتب بأسلوب أدبي فخيم وبلغة بليغة وفريدة تملئ الفم وتقرع الأذن .
من مشرق عمره وحتى آخر شهقة في حياته سكن الوطن روحه ووجدانه وكتب قصائدا تفيض روحانية بأيقاعات جميلة وتعابير باهرة خارجة من الأعماق بنغمات حارة كثيفة الإبهار وبصور شامخة في الوجدان في غاية العمق والتجلي :
في لساني يمن
في ضميري يمن
تحت جلدي تعيش اليمن
خلف جفني تنام
وتصحو اليمن
صرت لا أعرف الفرق مابيننا
أيُنا يا بلادي يكون اليمن ؟!
لقد غرس المقالح في نفوسنا حب الوطن وعزز روح الانتماء وكنا نشغف كل الشغف بقراءة قصائدة الوطنية والقومية والإنسانية ونحفظها ضمن المقررات المدرسية ونتابع بلهفة وشوق قصائده المنشورة في المجلات والصحف السيارة ونبتهج بصدور مؤلفاته ودواوينه الشعرية المشحونة بالطاقة الشعرية واللذة الفنية والعاطفية والحسية والصفاء الروحي والتي ترتفع إلى الذروة العليا في السبك والوصف والتصوير الفني البديع الزاخر بالذوق والجمال :
-1-
أنت ما أبصر الأن
ما كنت أبصر بالأمس
عيناك ضوئي
ووجهك نافذتي
ودليلي
إذا سألوني عن اسمي أشير إليك ،
وإن سألوني الجواز نشرت على جسدي
وجهك العربي المرقع بالجوع
أنت أنا
يتكلم في شفتي صوتك الوهن
الحرف
لاصوت لي ،
صرتِ وجهي وصوتي ،
وعين غدي
يا أميرة حبي وحب الزمان
في مغرب عمره هده المرض وزعزعته الهزات النفسية العظيمة وغاص في أخاديد عميقة من الحزن بعد أن غرق المجتمع اليمني في الحروب وأنواع المقاتلة وتسعرت الفتن وكثرت التصدعات والتشققات في فضاء كالح وكئيب وبزغت أفكار ومعتقدات صعبة الهضم متناشزة مع روح الانتماء للتراب الوطني وارتفع منسوب الكره الاجتماعي وتمزيق صواميل لحمة التعاضد والتسامح والتساكن مع كم هائل من السفه والتسفل :
أنا ليس لي وطن
أفاخر باسمه
وأقول حين أرى
فليحيا الوطن
وطني هو الكلمات
وبعض من مرارات الشجن
باعوه للمستثمرين وللصوص
وللحروب
ومشيت على أشلائه
زُمر المناصب والمذاهب
والفتن
الأديب والشاعر والناقد والمثقف الدكتور/عبدالعزيز المقالح طيب القلب رقيق الحاشية يملك فيضا هائلا من الثقافة وصاحب منزلة محمودة في قلوبنا وله باع طويل في الإبداع الشعري والنقدي والثقافي والتنويري ومن الراسخين بالعلم والناطقين بالفهم ، لقد أثرى حياتنا الثقافية بجرعات ثمينة من الثقافة والمعرفة والوعي النقدي وخصب ذائقتنا الشعرية بقصائد شعرية راقية ووضع بصمته الشعرية والثقافية والتنويرية في جبهة الزمن ووقف شامخا في قمة الهرم الأدبي برصيد ضخم من الثقافة والفكر والإبداع .
لقد مات الدكتور/عبدالعزيز المقالح الذي ترك فراغا عظيما في فضائنا الثقافي والمعرفي والتنويري .
إني أشعر بغصة ألم في حنجرتي ، أشعر بوجع موحش ودموع حرى في العين وحسرات لاذعات في الفؤاد وبعطب في كياني:
أشعر أن شيئا تحطم في أعماقي غير الأضلاع ، شيئ أهم من العظام لايمكن ترميمه على الإطلاق ” محمد الماغوط ” .