علوان السلمان
لقد قرن الشاعر الامريكي (تشارلز سيميج) الادب النثري بالخط المستقيم الذي يستمر الى ما لانهاية فيصعب على العين الالمام به والنظر اليه نظرة واحدة جامعة لبدايته ونهايته.
.بينما قرن الشعر بالدائرة اذ الكل مرئي بنظرة واحدة..ونحن نرى ان القصة القصيرة جدا مركب من الاثنين(الخط المستقيم والدائرة) وبالتالي خلق كوة ككوة (بيكاسو) في جورنيكته..أي خلق المربع الذي يخترقه الضوء فينير كل اجزاء المساحة عبر هذه الكوة.. لان كاتب القصة القصيرة جدا يحاول اقتناص اللحظات الحياتية ليصورها ويضعها بين يدي قرائه ببناء متماسك..متقن فن اللعبة القصصية المبنية على الدقة والتناسب في اختيار مفرداته مع فعل درامي خاطف .. واعتماد عنصر المفاجأة والدهشة في نهايتها ..فهي تتطلب اقل عدد من الكلمات واقل الشخوص والامكنة..كونها تولي اهتمامها بالموضوع والفكرة..وفن القصة القصيرة جدا كما يرى الدكتور جابر عصفور فنا صعبا لا يبرع فيه سوى الاكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزوائها على اسطح الذاكرة.. وتثـبيتها للـتأمل الـذي يكشـف عن كثافتها
الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في اكثر من اتجاه..)
اما الناقد ياسين النصير فيرى ان(الشيء المميز في مثل هذا النوع من القصص ميله الى الكثافة والعرض الواضح والكلمات الموحية) اما الناقد فاضل ثامر فيقول (القصة القصيرة جدا عمل اختزالي مكثف يعتمد على الاحساس المباشر بالحياة)..لذا استطاع هذا النوع من القصص اثبات وجوده وجوهر مادته وعضويته في شجرة الابداع باعتبار مهارته الابداعية ورسالته المنهجية..كونه قريب من الواقعية التسجيلية..اذ يتسم بالسرعة والفوتوغرافية دون ان يكشف عن التفصيلات التي يتركها للقاريء..لذا فالقصة القصيرة جدا تحمل في دواخلها وبين طياتها قاعدة صلبة ثابتة وبذور التمرد .. راسمة مدينتها الافلاطونية التي تطمح اليها..بعيدة عن الرومانسية الذليلة التي لاتهدف الا لاستدرار الدمع وخلق الانعكاسات السطحية لقارئها..فالخطوة الفنية للفن القصصي ظهرت في روسيا وامريكا خلال النصف الاول من القرن التاسع عشر على يد الكاتبين الكبيرين اللذين لعبا دورا كبيرا في تطور الفن القصصي الا وهما الروسي (نيكولاي غوغول) والامريكي(ادجار الن بو) مع فارق بين مزاجيهما ومجتمعيهما..اذ كتب (غوغول) قصة المعطف التي نقلت الفن القصصي الروسي نقلة كبيرة في الاهتمام بالمجتمع وهموم والناس البسطاء وتبيين حالتهم النفسية حتى قيل: ان الرواية الروسية خرجت من معطف غوغول..وهذا يعني ان اثر غوغول وقع على كتاب الرواية بالدرجة الاولى..
اما(بو) فقد اطلق عليه بعض النقاد(ابا القصة القصيرة) لكونه بقي يخوض في عوالمها عمليا ونظريا.. اضافة الى انه ينطلق في كتاباته من واقع اجتماعي يعايشه ويعيشه بوعي..فهو يختار موضوعه ويحرص على تقديمه لقرائه على الوجه الذي يدرك معه الاثر الذي سيتركه فيهم..ابتداءا من العناوين التي تدلك احيانا على غرابتها مثلا(الرقاص والبئر) و(مخطوطة وجدت في قنينة)..وحقيقة الامر انها تساعد على شد القاريء للقصة ومضمونها..مع تحريك الخزانة الفكرية ونبشها
و(ادجار الن بو) القاص والشاعر والناقد يشترط في النص الادبي احداث اثر في المتلقي مع سيطرة صاحبه عليه سيطرة تامة مع وحدة البناء فهو يقول:لاتدون الكلمة ان هي لم تؤد بصورة مباشرة او غير مباشرة الى اعطاء الغرض المقصود معناه..وبهذا القدر من العناية والحذق وعن هذا السبيل تـبرز الصـورة كاملة للفكرة وتترك مخيلة من يتأمله باحساس فني متقارب شعورا بالرضا التام..وتستمر القصة القصيرة شاقة طريقها مخترقة الافاق..ففي فرنسا كان الاديب (موباسان) قد رفع من شأنها وثبت اركانها بعد ان جعلها لصيقة بالحياة الاجتماعيـة فاقترن اسمه بتاريخ القصة القصيرة كـونه دخل بها عالم الواقع والجد..وتصويرها ما يحدث ويجري تصويرا فنيا مع لغة محكمة البناء ..
اما في روسيا فيظهر(تشيخوف) الذي تأثر بالقاص الفرنسي (موباسان) واظهر اعجابه به وقلده لفترة..ثم يهجر التقليد ويتمرد عليه و يشرع مجدا في عمله متأملا في كتاباته التي اخذت حيزا كبيرا في النشر حتى اطلق عليه(سيد القصة القصيرة)..وضرب به المثل في الاخلاص لفنه كونه ساهم باصرار في سبيل خلق الانسان وجعله كأسمى قيمة في الحياة داعيا بقوة الى رفض كل القيود التي تكبله..فانسانه واع..عميق الفكر حتى في اقصى حالات عذابه وبؤسه يحاول باصرار ان يتجاوز واقعه..فصور معاناة الفلاحين وتعاطف معهم ساعيا لهم في مستقبل افضل فرسم بذلك صورة روسيا في اواخر القرن التاسع عشر وما يكتنفها ويغلي فيها من صراع افكار..وعمت شهرته البلاد وصارت كتاباته محط انظار
النقاد فاخترقت الحدود.. فكان انموذجا يقتدى به .. وصار ظاهرة اطلق عليها(التشيخوفية) كعالم انساني مضيء ساهمت بوعي واصالة في كشف انبل المشاعر والاحاسيس الانسانية واعمقها..وحاولت ربط الانسان في عذاباته وافراحه بالعالم والموجودات بخيط رهيف من النقاء والحب..فالقصة عنده عدد محدود من الاسطر ذات بناء محكم مع سلاسة اللغة..نافذة وراء حروفها حياة نفسية ونبضات فكرية حتى يجعل من قارئها يحس بروح شاعرية تخاطبه..فالحدث عنده هو الذي ينطق عن نفسه..والشخوص يتحركون في حدود كياناتهم مع سخرية راقية تتضمن الضربات النهائية لقصصه..
وكتب بعده كثيرون..وجودوا في كتاباتهم فكانوا اسماء لامعة تضيء معالمها منهم (بيراندلو وسالنجر وموران وبولانجة)..وغيرهم..واخير كان ظهور(ناتالي ساروت) الفرنسيةو(ارسكين كالدويل) الامريكي اللذين كتبا في القصة القصيرة جدا والتي كانت وليدة القصة القصيرة..واطلق عليها(ومضة القصصية)او(الضربة الخاطفة غير القابلة للتأجيل)او(اقصوصة الحلم والدعابة)..
ان ظهور هذا النوع من الفن القصصي يعني تجديد العلاقة بين القصة القصيرة والواقع بحكم عوامل تاريخية وحضارية اعتمد على التكثيف والايجاز والتقاط الذروة الدرامية وخلاصة اللحظة المكتظة بالحياة الانسانية .. اللحظة لاكبر متسع من المعنى بسبب تعقيدات العصر المتمثلة بالتكنولوجيا الحديثة التي وسمت العصر بعصر السرعة..وميل الناس الى البساطة والايجاز بسبب حالة القلق التي تسود الواقع مع تأزم الحالة النفسية واشتغال الفكر مع تنوع المعارف الحديثة والرؤى الابداعية التي اخذت تتناسل من بعضها..والخروج من الوحدات الاغريقية الثلاث (وحدة الزمان والمكان والحدث) اذ فيها تحل الكلمة محل عشر كلمات كما يقول(روبرت فيرست) ..لذا كان ظهور هذا الجنس الادبي استجابة لواقع جديد وحياة متجددة فصار اسلوبها المكثف يقترب من الشعر في ومضته المشحونة بالخيال الموسيقي.. لكنه مختلف عنه في الحدث وعنصر الفعل والمحيط مع اضاءة سريعة للحظة المكانية المكتفية ذاتيا او المستغنية عن التفاصيل التي تفسدها وهدفها..فطريقة العلاج عند كاتب القصة القصيرة جدا ترتبط مباشرة بالموضوع وتهتم بالفكرة دون الاهتمام بالشخوص والسرد..وهذا يعني ان الشخصية تتصرف وفقا لفـكرة الكاتـب لاتبـعا لتكوينها الخاص وبالنتيجة فقدانها للحرية امام التوجيه الذي يوجهها القاص..فمن قصص ارسكين كالدويل :
(بلغت حرارة الشمس درجة جعلت طائرا يهبط
ليتفيأ في ظلي)..
انها تذكرنا بالشاعر محمد الماغوط الذي يتخذ من الومضة اسلوبا في بناء قصائده ..
لقد نسج قصاصونا كثيرا في هذا الفن كان في مقدمتهم(نوئيل رسام) الذي نشر اولى قصصه عام 1930 لكنه لم يحدد جنسها الادبي فجعلها ضمن القصة القصيرة..وظلت تسميتها عائمة حتى عام 1974 اذ نشر القاص والروائي احمد خلف مجموعته(نزهة في شوارع مهجورة) ضمنها خمس قصص قصيرة جدا..تبعه القاص محمود شقير في مجموعته(الولد الفلسطيني) والتي ضمنها ثلاث قصص قصيرة جدا تبعه زكريا تامر ويوسف ادريس وابراهيم احمد وخالد الراوي واحمد خلف وحنون مجيد ومحمد سمارة وحسب الله يحي وهيثم بهنام بردى وحميد عمران وجبار سهم السوداني وكريم الوائلي وسلمان العبد وعلوان السلمان وجابر محمد جابر وكاظم الميزري..وغيرهم اذ نشروا مجاميعا قصصية اقتصرت على القصة القصيرة جدا باعتبارها حـالة مضيئة تعتمد التكنيك الحديث لانها تقنع باشارة من حركة الواقع وبحدث صغير..لكنها طاقة لرؤى خاطفة تطرح تجربة على نار ملتهبة مع دقـة التـصوير الفني لحركة الواقع..انها صياغة الانموذج القصصي المنفرد في جو رومانسي يدخل القلب بلغة شعرية مكثفة تعتمد المزاوجة بين الحلم والواقع على شكل هندسي محدد الابعاد يعتمد المشهد الذي يعرض جانبا مهما من جوانب الواقع معتمدا الاختزال في الامتداد الزمني اللامحدود ..
فهي ليست اقصوصة تتبعها احداث موجهة الى نهايتها المنطقية بل قصة تمد جذورها في الصمت المجهول .. تعتمد الجهد الفكري للكاتب ليتحرر من هذا السكون ..
يقول وليم هارس(ان كثيرا من الكتاب ينأون عنها لصعوبة تكنيكها وللقيود الخاصة بها) فما بين الزمان والمكان وحركة الشخوص تظهر الحادثة التي يخلق منها القاص بعينه الثاقبة قصصه منطلقا من واقعه محلقا في اجواء خياله..خالقا ابداعه الذي يلامس شغاف القلب ويشبع رغبة قارئه..