سيمياء العنوان لكتاب “في حضن التوت… رسائل خانها البريد” للكاتبة الفلسطينية “أنوار الأنوار”
بقلم الناقد عبد المجيد جابر
أهمية انتقاء العنوان:
لعنوان أي كتاب أو قصيدة أو قصة أو خاطرة أو مقالة أو أي عمل أدبي أهمية كبيرة، ولقد وفقت كاتبتنا أنوار في اختيار عنوان كتابها كثيرا، مما يلفت انتباه المتلقي بشغف ويقوده لمعرفة محتواه ولغته وفصاحته ومكوناته.
و”لقد شكلت السميائية منذ الخمسينات من القرن الماضي في المجال الأدبي خاصة، تياراً فكرياً أثرى الآراء النقدية المعاصرة، وأمدها بأشكال جديدة بغية، فهم وتأويل النص الأدبي في جميع أشكاله. فمع بداية القرن الماضي بشر عالم اللسانيات السويسري (فردناند دوسوسير) بميلاد علم جديد، أطلق عليه اسم (السميولوجيا) مهمته هي: دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، فالهدف من هذا العلم كما هو واضح تزويدنا بمعرفة جديدة لفهمٍ أفضل عن الحياة الإنسانية في جانبها الاجتماعي، وفي الوقت نفسه خرج الفيلسوف الأمريكي (شارل سندرس يورس) علينا برؤية جديدة في التعاطي مع الشأن الإنساني، أطلق على هذه الرؤية اسم (السميائية) وقد كان لهذين الرأيين رأي (دوسوسير) و(بورس)، أثر كبير على الوعي المعرفي وعلى العلوم في مجملها، خاصة ما يتعلق منها بالآداب والفنون. فقد ساهمت هذه السميائية في تجديد الوعي النقدي وتطويره، من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى. (1)
و”لقد اهتم علماء السمياء اهتماماً واسعاً بالعنوان في النصوص الأدبية، باعتباره علامة إجرائية ناجحة في مقاربة النص بغية استقرائه وتأويله، فتحدث (رومان جاكبسون) عن وظائف أساسية للعنوان هي: ” المرجعية، والإفهامية والتناصية”(2).
ولقد نجحت كاتبتنا في تحميل عنوان كتابها رسائل مهمة للمتلقي، فهو يحمل في ثناياه دلالات رمزية معبِّرة أيّما تعبير عن محتواه من حيث إنّه حمولة مكثفة من الإشارات والشيفرات التي إن اكتشفها القارئ وجدها تطغى على النّص كله، “فيكون العنوان مع صغر حجمه نّصًا موازيا(Paratexte)، ونوعا من أنواع التعالي النّصي (Transtextualité)، الذي يحدد مسار القراءة التٌي يمكن لها أن “تبدأ من الرؤية الأولى للكتاب” (3)
فاهتمت أنور الأنوار في اختيارها عنوان كتابها؛ لأنه “يمثل العبارة المفتاحية للنص، وهو أول ما يفاجئ القارئ، وعليه فإما أن يجذب القارئ أو يبعده، أو يبقيه على الحياد مع نص قد يكون غنياً أو عادياً، إضافة لما في العنوان من دلالات معرفية ذات أبعاد مختلفة الأطياف، تكشف عن ثقافة صاحب النص، وغوصه في المكنون الفكري الذي يستلهمه أو يعيشه أو ينتظره، من الماضي والمعاش إلى الحالة المستقبلية، لذا أولى النقاد مسألة العنوان أهمية كبرى، وكانت له مكانته في الدراسات النقدية النصية.(4)
وقد رأى الدكتور جميل حمداوي عند حديثه عن النص الموازي لدى جيرار جينيت، إلى اعتبار العنوان مظهرا وقسما من أقسام النصية يعتبر بمفرده جنسا أدبيا مستقلا كالنقد والتقديم. . . الخ، ويعني هذا أن له مبادئه التكوينية ومميزاته التجنيسية(5).
فالعنوان في الأدب الحديث صار مكونا قائم الذات، منسجما يحقق مجموعة من الأهداف والوظائف سواء تعلق الأمر بما بينه وبين خطاب النص، أو بالتأثير الذي يحدثه في نفس المتلقي الذي يحاول فك شفراته وإعطائه دلالات وأبعاد، سعيا وراء فهمه واستيعابه.إن الشعر الحديث جعل من العنوان نصا ثانيا موازيا للقصيدة، فأصبح بالإمكان الحديث عن شعرية العناوين كما كنا نتحدث عن شعرية القصيدة .(6)
وللعنوان أسس جمالية يحملها ويعين المتلقي على فهم النص ويشوقه ويجذبه لمحتوى الكتاب، كما عنوان كتاب “في حضن التوت… رسائل خانها البريد” للكاتبة الفلسطينية أنوار.
ومن خلاله نستطيع دراسة الأسس الجمالية التي يحتويها العنوان، ولقد جعلت الكاتبة من العنوان مرتكزا أساسيا نسعى إلى دراسته وجعل منه مكونا نستطيع به استنباط الرسالة التي تؤديها المؤلفة وتودعها في أعماقنا ودواخلنا بما فيه من الجمالية التي يكتسيها، نابعة من كونه يتألف من عناصر فنية وجمالية تتجلى في نصيته ولغته الشعرية.
وللعنوان أكثر من وظيفة تلعبها في النص الأدبي الحديث “وهذا ما يمكن أن ندلل به على ما تعرفه الساحة الأدبية – بخصوص الإبداع الشعري – من نزوع العنونة الشعرية نحو التعمق والوسم والبحث عن الوسائل التي بإمكانها أن تجعل من العنوان أكثر شاعرية، وأكثر دلائلية على النص خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما له من وظائف كثيرة يسهم « تحديدها في فهم النص وتفسيره وخاصة إذا كان نصا معاصرا»(7).
ويستطيع المتلقي الانتقال من العنوان إلى قراءة النص الذي يمثل اختبارا لتوقعات القراءة، واستكشافا للطرائق التي يتعالق فيها النص وعنوانه، ففي مرحلة تلقي النص تكتشف القراءة صدق أو خيبة توقعاتها.
وفي عنوان كاتبتنا لكتابها “في حضن التوت… رسائل خانها البريد ” مجموعة من الانزياحات العذبة أثْرت الكتاب وأمدّته بالجمالية الفنية.
“وفي عصرنا الحديث نظر إلى الانزياح نظرة متقدمة، تخدم التصور النقدي القائم على أساس اعتبار اللغة الشعرية لغة خرق وانتهاك للسائد والمألوف، وبقدر ما تنزاح اللغة عن الشائع والمعروف تحقق قدراً من الشعرية. (8)
ومن جماليات هذا العنوان وفرة الانزياح أو الانحراف فيه و”رصد ظواهر الانحراف في النص يمكن أن تعين على قراءته قراءة استبطانية جوانية تبتعد عن القراءة السطحية والهامشية، وبهذا تكون ظاهرة الانحراف ذات أبعاد دلالية وإيحائية تثير الدهشة والمفاجأة، ولذلك يصبح حضوره في النص قادراً على جعل لغته لغة متوهجة ومثيرة تستطيع أن تمارس سلطةً على القارئ من خلال عنصر المفاجأة والغرابة.(9)
جاء تركيب العنوان: “في حضن التوت… رسائل خانها البريد” مكونا من جملتين اسميتين يزخران بالانزياح ففي “في حضن التوت” انزياحان، انزياح بالحذف، “في حضن” جار ومجرور وشبه الجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره “هذا”
و الانزياح يدلل على قدرة كبيرة عند المبدع على “استخدام اللغة وتفجير طاقاتها وتوسيع دلالاتها وتوليد أساليب وتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة في الاستعمال، فالمبدع يشكل اللغة حسبما تقتضي حاجته غير آبه بالحدود والأنظمة والدلالات الوضعية، فهو يعمد إلى الانتقال مما هو ممكن إلى ما هو غير ممكن من خلال استخدامه الخاص للغة.(10)
ومما لا شك فيه أن العنوان الأدبي إنتاج فريد من نوعه، كما هو الحال عند أديبتنا أنوار الأنوار، إنه يختلف عن الخطاب اليومي الذي نستعمله للتواصل العادي في لغتنا، ويختلف كذلك عن سائر الخطابات بمختلف أنواعها..
ومن أهم من تنبه على الأبعاد الجمالية الكامنة وراء ظاهرة الحذف عبد القاهر الجرجاني، بل إنه عد الحذف من عوامل الإجادة والإبداع، وانظر إليه يقول معلقاً على أبيات ذكر فيها حذفاً معيناً “فتأمل الآن هذه الأبيات كلها، واستقرِها واحداً واحداً، وانظر إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف وإذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النفس عما تجد، وألطفت النظر فيما تحس به، ثم تكلَّف أن ترد ما حذف الشاعر، وأن تخرجه إلى لفظك، وتوقعه في سمعك، فإنك تعلم أن، أي إن الحذف الذي قلت كما قلتُ، وأن رب حذف هو قلادة الجيد، وقاعدة التجويد..
والانزياح بالحذف لا يعدو كونه محاولة أسلوبية من أجل الرقي بالخطاب إلى مستوى تعبيري قادر على شد انتباه المتلقي والتأثير فيه، أي الإقناع، فضلاً عن استغلال سمات جمالية تضفي على الخطاب سمات الجمال، أي الإمتاع. (11)
والانزياح الثاني عند كاتبتنا أنوار في عبارة “حضن التوت” وهنا انزياح إضافي، فالمتلقي عندما يسمع كلمة “حضن” يتوقع مضافاً إليه مناسباً ككلمة “الأم” مثلاً، لكنه يتفاجأ بمضاف إليه “التوت” مما يولد الإثارة في نفسه، وهذا من جماليات الانزياح بمختلف أشكاله.. وذلك بخلخلة بنية التوّقعات ولإحداث فجوة، تعمّق حسّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا أكسب النص توتّراً وعمقاً دلالياً خاصاً، فقد تفجّر المرًكَّب الإضافي بالشعرية باعتباره نقطة التحوّل ومنبع الإدهاش، وهذا التركيب غير المتوقع خلق فجوة أي تنافرًا دلاليًا، ومسافة توتّر حادة بين المضاف والمضاف إليه.
والانزياح لم يكن عند كاتبتنا أنوار اعتباطياً، وإنما قصدت به قصداً، أي “إنه يقوم باستعمال طوعي وواعٍ للغة. . . وهو ثانياً، وفوق كل شيء يستعمل اللغة بقصد جمالي ويناضل من أجل إبداع للجمال بوساطة الكلمات كما يفعل الرسام بالألوان والموسيقي بالموسيقى. ” (12)
وفي الجزء الثاني جاء عنوان كاتبتنا أنوار: “رسائل خانها البريد” ففيه ثلاثة انزياحات، الأول: انزياح بالحذف، والتقدير: “تلك رسائل خانها البريد” فرسائل: خبر لمبتدأ محذوف تقديره “تلك”.
والانزياح الثاني انزياح تركيبي حيث قدّمت الكاتبة ما حقّه التأخير، وهو المفعول به “الهاء” في خانها على ما حقّه التقديم وهو الفاعل “البريد”.
والانزياح الثالث يتمثل في التركيب، فالبريد لا يخون والرسائل لا تخضع للخيانة، فقد تتأخر الرسائل في البريد أو قد يهمل العاملون فيه إرسالها.
ومن سمات هذا العنوان خصيصة الفصاحة:
وكاتبتنا فصيحة في مكونات صوامت وصوائت وكلمات عنوانها و”الفصاحة إذن ليست ميزة تتفرد بها كلمات دون أخرى. هذا ما قاله عبد القاهر الجرجاني، مخالفا معظم النقاد العرب، الذين جعلوا الفصاحة للألفاظ في ذاتها. الفصاحة عند عبد القاهر تكون للكلمات المنضوية في تأليف معين، أي تكون للتركيب النحوي، فتكون تالية للمعني. ذلك أن عبد القاهر قد وحد بين التركيب والمعنى في العبارة، وقال إن كل تغيير في الأول, هو تغيير في الثاني، ألا يمكننا إذن أن نقول إن الفصاحة للكلمات هي مرآة لا تتجلى من خلالها صفات ذاتية لهذه الكلمات، وإنما تتجلى لها صفات مكتسبة عبر تاريخ من الاستعمالات؟ وما أراد عبد القاهر التنبيه إليه هو أن كل مؤلف عليه أن يمتلك الإحساس بذلك التاريخ لكي يتمكن من إنشاء العلاقات الجديدة والمبتكرة في تعابيره الخاصة، الكلمات ليست علامات فارغة أو محايدة، واللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار. إن اللغة هي ذات مفكرة كما يقول الشاعر والناقد الفرنسي بول فا ليري :”يرى فاليري أن اللغة، بمعنى من المعاني، تفكر أكثر من الفكرة نفسها ويقول إن قيمة الشعراء هي في قوة التقاطهم بالكلمات لما يرونه باهتا في أفكارهم…الكلمات إذن ليست منفصلة عن الأفكار، بل إنها عل العكس من ذلك تمتلئ بالأفكار تنطوي عليها، وفي وصف الكتابة الشعرية هناك من يفضل القول إن الكلمات هي التي تفكر، بدلا من القول إن الأفكار هي التي تتكلم . هذا ما عبّر عنه الشاعر الفرنسي مالا رميه في قوله: “إن الشعر لا يكتب بالأفكار ، بل بالكلمات “(13).
اللغة الشاعرية والكلمات المفاتيح:
فلغة كاتبتنا أنوار لغة شاعرية هي بنت التجربة الشعورية والإحساس المرهف، يتجلى ذلك في اختيارها لحرف وكلمات عنوان مؤلفها الجديد و”لكل كلام _ مقولا كان أو مكتوبا _ مفاتيحه، أو كلماته الأساسية التي تحكم مقاطعه وأجزاءه . وفي النصوص المكتوبة تتجلى العلاقة بين الكاتب وكلماته الأساسية أكثر متانة ورسوخا منها في الأقوال المرتجلة بين القائل وكلماته. وذلك لأنها في حالة الكتابة وليدة تدبر وتأمل لا يتأتيان للكلام المنطوق ارتجالا. والنصوص الشعرية هي – من بين النصوص المكتوبة – الأصدق في تجسيد العلاقة القوية بين المتكلم وكلماته ، لأن طبيعة الشعر تضفي على هذه العلاقة طابعا حميما، هو نتيجة التناقض الناشئ بين التدبر والتأمل من جهة ، وبين العفوية والانسياب من جهة ثانية.
الكلمات الأساسية في حقل معين في زمن معين ، لدى شخص أو جماعة ، هي أشبه ما يكون بحكومة لغوية . فهي التي تتحكم بغيرها من الكلمات . توزع عليها الأضواء والظلال داخل السياقات أو العبارات كل كلمة أساسية هي مجهر نستطيع من خلاله أن نكشف كلمات أخرى. هذا ما ذهب إليه الناقد الانجليزي ريتشاردز I.A. Richards وقد استعان بأفوله الباحث مصطفى ناصف في كتابه “اللغة والتفسير والتواصل “(14)
فكلمات عنوان أديبتنا أنوار أولتها عناية كبرى فجاءت كلماتها مفاتيح.