# سيارة سوداء وقبعة زرقاء #
قصة قصيرة
صلاح زنكنه
في منتصف الطريق وأنا عائد الى بيتي, بعد أن قضيت أسبوعا كاملا مع أصدقائي المتظاهرين والمعتصمين في ساحة التحرير, لاحظت بهاجسي الصحفي الذي لا يخطئ عادة, سيارة سوداء تسير خلفي مباشرة منذ ربع ساعة, وتحديدا بعد مغادرتي مرأب السيارات في منطقة باب الشرقي, ولما راودني بعض الشك زدت من سرعة سيارتي كي أتحاشى هذه السيارة اللعينة التي تنذر بسوء الفال, لكنها راحت تتبعني بالسرعة نفسها, خففت من سرعة سيارتي عسى أن تتجاوزني بيد أنها تباطأت خلفي, ولم تبارحني.
دب القلق في رأسي وأنا أسرع حينا وأبطئ حينا, وأتفحص عبر المرآة السائق الذي يقود السيارة السوداء خلفي أحيانا, لكنني لم أتبين ملامحه جيدا, كونه يعتمر قبعة زرقاء ويضع نظارة شبه معتمة على عينيه, بالرغم من ظلام الليل مما ضاعف قلقي وريبتي.
ومع ازدياد القلق والريبة, ضغطت على دواسة البنزين وانطلقت بسرعة جنونية شديدة أشق عباب الشارع شبه الخالي من السيارات كي أصل الى بيتي وزوجتي التي كانت تعاتبني وتشكو غيابي وفراقي لها طوال الأسبوع المنصرم, إلا إن السيارة السوداء كانت تنطلق خلفي بوتيرة سرعة سيارتي, حتى كدت أن أفقد زمام نفسي جراء القلق المتزايد الذي داهمني وشتى الأفكار والهواجس التي انتابتني وشلت حواسي, وراحت تنهشني نهشا, ترى من يكون هذا الرجل صاحب القبعة الزرقاء والنظارة الداكنة وهو يتبعني كظلي في هذا الليل البهيم؟!
غيرت مجرى مسيري, فغير مجرى مسيره, استدرت وعدت من حيث أتيت, فاستدار خلفي وكأنه رجل آلي مبرمج خصيصا لمتابعتي بمهارة جاسوس محترف, فأينما أسير يسير, ومثلما أجري يجري, وكلما أبطئ وأسرع يفعل مثلي, كأنه يلعب معي لعبة القط والفأر من دون كلل أو ملل.
وأنا في خضم قلقي وهلعي تذكرت فجأة صديقي وزميلي الصحفي عبد الستار الذي يسكن على مقربة من الشارع الذي ولجته توا, خرجت من الشارع العام ودخلت شارعا فرعيا يؤدي الى زقاق بيت صديقي هذا, فتبعني بلا هوادة, وما أن وصلت أمام باب بيته حتى توقفت, فتوقف خلفي, وكاد قلبي أن يتوقف ويقفز من قفصي الصدري وهو يخفق كالطبل بين جنبات أضلعي, والخوف والهلع أخذا مني كل مأخذ, وأنا أنظر بفزع عبر المرآة صوب صاحب القبعة الزرقاء والنظارة الداكنة الذي لم يحرك ساكنا ولم يهبط من سيارته لكي يقتلني بمسدسه الكاتم كما خيل لي في هذه اللحظة الحرجة الصاخبة هلعا ورعبا, بل وجدته مسترخيا في مقعده خلف مقود سيارته, منشغلا بهاتفه النقال وهو يصورني على ما بدا لي.
أنزلتُ زجاج باب سيارتي, ومددت ذراعي بتوجس مشوب بألف احتمال واحتمال ودست على زر جرس الباب بأصبع مرتجف, وما أن فتحت زوجة صديقي الباب وهي ترتدي ثوبا منزليا قصيرا حتى قفزتُ كالملسوع الى داخل الدار من دون أن أنبس بكلمة أو ألقي عليها التحية, وأطبقت الباب خلفي بقوة, وشعرت بالاطمئنان بعد أن تنفست الصعداء قليلا, في هذه الأثناء وأنا كلي ارهاق وارباك خرج زوجها من مدخل الصالة مندهشا وهو يحمل طفله الصغير على كتفه وعلامات الاستغراب بادية على وجهه جراء زيارتي غير المعهودة وفي هذا الوقت من الليل.
– ما الذي ذكرك بيّ يا …
وقبل أن يكمل جملته, وقبل أن أجيبه, سمعت طرقا شديدا على الباب وصوت امرأة يزبد ويرعد.
– افتح الباب يا خائن يا حقير يا …..
ميزت الصوت الغاضب بسهولة وحدثت نفسي في دخيلتي متيقنا من صاحب الصوت .. يا إلهي أنه صوتها .. صوتها الذي أعتدت سماعه منذ سنتين.
عدت الى الخلف وفتحت الباب مسرعا, وإذ بزوجتي ترمي القبعة والنظارة أرضا وتدلف البيت مثل اعصار مدمر أو وحش هائج وهي تصرخ وتندد …
– أين هي عاهرتك التي تزوجتها سرا أيها الخائن الجبان ؟
أجابها صديقي عبد الستار مندهشا :
– أية عاهرة تعنين يا سيدة سماح ؟
نظرت سماح الى عبد الستار ببرود, ثم الى زوجته, ثم إليّ, ثم أجهشت في البكاء بحسرة وندم بعد أن شعرتْ بالخجل جراء الموقف المحرج والمهين الذي أوقعت نفسها فيه, وهي تردد بلوعة وأسى.
– لقد أتعبتني, أتعبتني والله.
صرخت في وجهها بغضب.
– لقد جعلتِني في رعب حقيقي خلال ساعة, خلته دهرا وأنت تتبعيني كظلي, لماذا؟ لماذا يا مجنونة؟!
– لأني أحبك, ولأني كنت أشك بك, ولأني كنت أعيش في كابوس منذ أسبوع.
ثم أردفت بصوت متهدج.
– سامحني يا حبيبي, سامحني رجاء.
سألتها محتجا :
– ومن أين لكِ هذه السيارة؟
أجابتني متوددة :
– أعرتها من صديقتي نهى.
قلت ساخطا :
– اللعنة عليكِ, وعلى صديقتك, وعلى غيرتكِ الحمقاء أيتها المجنونة, لقد خلتكِ قاتلا مأجورا.
قالت مبتسمة :
– والله أقتلك لو خنتني يا حبيبي.
قهقه صديقي عبد الستار عاليا, وقهقهتْ زوجته معه, فيما أصبتُ أنا بالإجهاد والإعياء بعد هذه المطاردة البوليسية التي طالما شاهدتها في أفلام الهوليود الأمريكية حصرا.
16 / 5 / 2020
…
القصة منشورة في العدد الأخير من مجلة الأقلام الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة مع قصتين أخريتين سأنشرهما تباعا.
شكري وتقديري لصديقي القاص عبد الستار البيضاني الذي حفزني على النشر الورقي في مجلتنا العتيدة.