حين طلب مني محمد رشيد القاص والمثقف الناشط الميساني “العمارتلي” نسبة إلى محافظة – ميسان /العمارة، أن أقرّض قصّته القصيرة “سمفونية الرماد” ليضعها في صدر المطبوعة التي ستصدر عنها موشّاةً بنقد 12 مثقفاً، تردّدت كثيراً وقلت مع نفسي، ماذا سأضيف إلى قراءات سبقتني لعدد من الأدباء والنقاد وهي جميعها غنية وعميقة؟ ولكني استجبت أخيراً لإلحاح محمد رشيد الذي سبق وأطلقت عليه لقب ” المثقف الانتحاري” والذي يخطط لعشرة مشاريع في آن واحد دون أن يكون له مستلزمات أوليّة لأي منها، لكنه في نهاية المطاف وقد يكون بقدرة قادر، يتمكّن من إنجاز أغلبها فكيف يحصل ذلك لا أدري؟ ربما بالإرادة والإصرار وحُسن النوايا وبالعلاقات الواسعة بالوسط الثقافي التي كوّنها خلال العقدين المنصرمين، ولكن لا يعني دون خسارات وتضحيات كبيرة.
وزال تردّدي بعد أن قرأت القصة القصيرة أو القصيرة جدّاً أو الأقصوصة كما يطلق عليها الصديقان أبو كاطع “شمران الياسري” الذي مرّت ذكرى رحيله الأربعين (17 آب/ اغسطس 2021 )، ومحمود البياتي الذي غادرنا إلى الرفيق الأعلى في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.
وأول ما استوقفني في سمفونية الرماد حبكتها الدرامية المُحكمة وفضاء خيالاتها الخصبة، إضافة إلى الصور المعبّرة التي ازدانت بها وجمعت فيها اللون بالصوت حتى بدت الألوان كأنها ناطقة. وفي البدء “كانت الكلمة”، والكلمة مرّت عبر اللسان، أي بالصوت تكون اللغة قد أدّت مفعولها بالوصول إلى الآخر وحسب الروائي الأرجنتيني الكبير إستورياس ” الإنسان إله بسبب من صوته”، فما بالك حين يكون الصوت صورة أيضاً وتكون الصورة صوتاً واللون متحرّكاً مع حركة المايسترو في السمفونية ذات الألوان المتناقضة والأصوات المتناسقة، خصوصاً حين تكون لغتها جميلة وشفيفة وأنيقة، وهكذا هي حروفها منسوجة بخيط رقيق ولكنه قوي ومتماسك.
استطاع محمد رشيد أن يوظّف لغته وصوته وموسيقاه وألوانه وصوره في هارموني متفاعل ومتعاشق متّحد وإن كان مستقلاً أيضاً، وعلى نحو بارع وذكي ومتصاعد ليصل به إلى المدى الذي أراد أن يوصِل القارئ إليه، بإشاراته الجنونية ورمزيّته العالية وتكثيفه التلقائي : إنها الحرب بكلّ بشاعتها ومأساويّتها، والحرب لها وجهان: إحداهما – عسكري تدميري خارج إطار النصر والهزيمة ، والآخر – سياسي يخدم الهدف الأول، وكما يقول الخبير العسكري النمساوي كلاوزفتز :”الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى”. فتصبح السياسة بهذا المعنى حرباً وإن بوسائل غير عسكرية، لكنها في الكثير من الأحيان لا تقلّ خبثاً ومكراً وألماً عنها، سواء بوسائل ناعمة أو خشنة.
وحسب دستور اليونسكو “إذا كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام” ، ولعلّ جوهر تلك الفكرة هي التي كانت وراء محاولة رشيد تبشيع الحرب وتقبيح نتائجها وتنغيل ولادتها بعد أن يتّمت الحب وكدّرت المزاج وحقنت الناس بالكراهية والحقد، فحتى كلمات التعاطف مع الضحية تكون أحياناً باردة وبائسة، “خطية…مسكينة … كانت تحبه …كانت تنتظره… “، هذه الكلمات كما جاءت في النص “راحت تثقبني حين سمعتها، شاهدتها مسجاة فوق الأرض تعلوها قطعة من القماش ملطخة ببقع من الدم”، وحين جثا أمامها على ركبتيه… فوجئ بتطاير الريش الذي فقده الطائر نحو السماء وهو يتراقص مع نوتات سمفونية الرماد، بل سمفونية رمادها.
وقد شهدت البلاد دماراً بعد الحروب، وحتى لو كانت القصة قد كتبت قبل نحو ربع قرن، فإنها ما تزال راهنة بأحداثها وتفاصيلها ومأساوياتها وإن أصبحت الدراما اليوم أكثر اتساعاً وأعمق تأثيراً وأوضح معنىً. السياسة والاقتصاد والحرب النفسية والإعلام والدبلوماسية هي حروب ناعمة وطويلة الأمد حتى وإن كانت بوسائل مخملية، لكنها تصبح بحكم استمرارها وشمولها أكثر ألماً وأكبر ضرراً على الناس من الحرب العسكرية، وهو ما عاشه العراق خلال فترة الحصار الدولي الجائر، وقد عبّر عنها بالفداحة والفقدان والفجيعة.
وعكس رشيد ذلك عبر ثلاث صور حيّة طبعت القصّة من أوّلها إلى آخرها، أعني بها طول الانتظار، سواء بطول الطريق أو بالقلق الذي يصاحب من يسعى للقاء محبوبته في ظلّ المتغيّرات التي عصفت بالبلاد، بالحرب وما بعدها أو بالذكرى والذاكرة، وهي وإن بدت بإيقاع منفرد، لكن حركيتها الداخلية ونسيجها المتفاعل، صنعت منها مفاجآت من خلال قوّة التعاطف والانكسار،ولعلّها حالة جماعية أو شبه جماعية، وبالتردد والضياع والكوابيس التي كانت أحلاماً يوماً ما.
وبهذه الصور المتراكبة والمتداخلة والمتفاعلة أراد محمد رشيد إدانة كلّ ما يتعلّق بالحرب عبر تفاصيلها الدقيقة: بقع الدّم والعجلات التي تدور والريش المتطاير وانكسار الحلم والخسارة والفقدان، وهو ما نجده معلناً ومستتراً، صامتاً وناطقاً في قلب النص منذ بدايته وحتى نهايته، مندغماً في حيثياته على نحو عضوي يتعلّق بقبح الحرب ولا إنسانيّتها وانكسار الأحلام والموت الذي يظهر لنا بصور مختلفة.
كلّ ذلك عرضه محمد رشيد برمزية ولباقة هائلة، فربطة العنق من القنّب هي عبارة عن مشنقة لطائر ميّت، والجسد المسجّى هو الضحيّة المتكررة بسبب الحرب، وهذا ما ينبعث عن رائحة الماضي، الذي حفر في سردية متداخلة بأصوات وبوح متفاعل في طريقة قص باهرة “من اقتناص لحظة الحلم إلى امتطاء صهوة الواقع”، بحيث يظهر في سمفونية قهر وانسحاق وحزن متوالد، فيتصاعد الهارموني بخطاب سردي حسب تعبير القاص محمد خضير في كتابه “الحكاية الجديدة” .
يستخدم محمد رشيد مونولوجه الداخلي على شكل متصاعد في السلّم الموسيقي بانسجام كامل في آلاته، فينتقل من ضربة موسيقيّة خاطفة إلى أخرى ذات رنين أكبر، ويريد إيصالنا إلى الذروة في فيض من الشعور، ليتركنا في حيرة وذهول وحزن، ونحن وسط سمفونية رماده الذي يعفّر الوجوه ويزكّم الأنوف.
إنها الحرب بلا رحمة، والعنف بلا حدود.
________________
* مقدّمة للقصة القصيرة بذات العنوان، والتي صدرت بقلم الأديب محمد رشيد مع 15 دراسة كتبت عنها والموسومة “سيمفونية الرماد في مرايا المثقفين”، منشورات العنقاء الذهبية، 2021.