حسن متعب
يقال في الحديث عن الديمقراطية أنها تعني في ما تعنيه حكم الشعب لنفسه، وأن الشعب له السلطة المطلقة في اختيار من يراه مناسباً ليتولى إدارة السلطة وشؤون البلاد خارجها وداخلها، وهذا لا يعني بالضرورة أن الذي يتم اختياره عبر صناديق الانتخاب هو أفضل المرشحين، أو أفضل أبناء الشعب من حيث الكفاءة والقدرة والقابلية لقيادته، وليس بالضرورة أفضل الأثرياء، وليس أفضل السياسيين أو الأكاديميين أو المثقفين بل وليس أفضل المناضلين إذا كان له تاريخ في النضال أو الكفاح الثوري في عقود خلت، ولكنه يمكن أن يكون أفضل اللصوص والانتهازيين والمتملقين والمتآمرين والفاسدين، فالسياسة مع لعبة الديمقراطية لا علاقة لها بالمبادئ التي عرفنا وقرأنا عنها سابقا، وإنما لها علاقة بالمصالح سواء كانت شخصية أو فئوية أو حزبية أو طائفية كما في العراق وغيره من البلدان المشابهة لوضعه، لذلك لا يمكن للفقراء والمعدمين أن يجدوا متسعا لهم في هذه اللعبة، ولكنهم يقومون بدور فعال وكبير وحاسم فيها، فهم بعمومهم وكثرتهم إنما يخدمون مجموعة صغيرة من الأشخاص أولئك هم من يتسيد الساحة السياسية ويتقاسم المناصب ويحوز الامتيازات سواء معنوية أو مادية، لذلك فان حقيقة اللعبة هي أن يقوم العامة من الناس بتقديم أسهمهم وحقوقهم لفئة قليلة، ظاهر واجباتها خدمة الشعب والبلاد وضمان إدارتها بعدل وسلام وكرامة وتشريع القوانين التي تضمن التقدم والبناء، أما باطن اللعبة وحقيقتها فهي استثمار المناصب والامتيازات لتوسيع الثروة وضمان النفوذ، وهذا يجري في مختلف دول العالم إلا أن الفارق بين الدول ذات الديمقراطيات المستقرة وبين الدول ذات الديمقراطيات الناشئة هو أن الذين يتسلقون سلم صناديق الاقتراع في الأولى حتى وان كانوا من الانتهازيين لا يضعون مصالحهم في تصادم مع مصالح المجتمع، ويحاولون قدر إمكانهم خدمة ناخبيهم لضمان استمرار وجودهم وترشحهم لدورات قادمة، مقابل ذلك فان المواطن هناك لا يهمه من يتسيد الموقف، ومن يعتلي هرم السلطة، الذي يهمه فقط هو أن يعيش بسلام وأمن وعدل وكرامة، وهي أمور مضمونة له بفعل النظم والتشريعات التي تقدس الإنسان وتحترم حريته وحقوقه، أما في الثانية فالأمر مختلف تماما إذ أن العملية كلها تجري وفق حسابات المصالح والصفقات والتنافس الشديد على الامتيازات التي قد تفقد الكثير منهم توازنه فالمناصب هنا مصدر استثمار وارتزاق أما المواطن وهمومه واحتياجاته والبلاد ومستقبلها ومستقبل أجيالها فهي في آخر سلم الاهتمامات، وفي العراق تحديدا، تأخذ اللعبة منحاً متفردا فالذي انتخبه العامة لحفظ العراق وإدارته وقيادته إلى بر الأمان، والى خدمة الناس وتقديم الخدمات لهم وحفظ المال العام ومحاربة الفساد وتسريع عجلة الاستقرار والأمن والتقدم والنمو، هو الذي يسعى بكل السلطة الممنوحة له إلى تدمير هذا البلد، والى سرقة أمواله وتبديد ثروته ثم إلى تقسيمه أو أقلمته، رغم أنهم جميعا اقسموا بداية عهدهم بكتاب الله وبشرفهم أن يحفظوا وحدة البلاد وان يخدموا الشعب، إلا أن خدمة الشعب بالنسبة لهم لا تتعدى كلمات في مطبخ إعلامهم وفي جولة صراعاتهم الحزبية والطائفية، فهم يتحدثون دائما عن أهم ما يحتاجه المواطن، وهم غالبا إما يطلقون الوعود الكريمة بتحقيق المنجزات والمشاريع وإنهاء الأزمات إذا كانوا في السلطة التنفيذية أو من المستفيدين منها أو أنهم نكاية بالآخرين يلقون اللوم على العملية السياسية والفساد المستشري والمحاصصة الطائفية رغم أنها هي التي أنجبتهم وجعلت منهم نجوما للفضائيات، ويبقى عامة الناس الذين يملكون السلطة المطلقة بحسب المفهوم الديمقراطي، حيارى إزاء ما يسمعون من خطب رنانة وتصريحات طنانة وانقسامات حزبية وانشطارات في الكتل النيابية لتصحيح المسار، ولكن العامة لا يأخذون بالمقابل من هؤلاء وأولئك سوى الوعود الجوفاء، فالكهرباء والخدمات والأمن والعدل والمساواة ليست سوى وسائل للاستثمار وملء الجيوب بالسحت الحرام وليست سوى شعارات انتهت أهميتها ولم تعد تشغل بال السياسيين بقدر ما يشغل بالهم كيف يستثمرون الأزمات الجديدة التي تمثل هي أيضا مشاريع جديدة تضمن بقائهم لأطول فترة ممكنة حتى وان كانت على حساب مصالح الشعب ومستقبل أجياله.. وفي النهاية فان الشعب استخدم سلطاته المطلقة التي منحها له النظام الديمقراطي بتدمير نفسه بنفسه إذ انتخب أشخاصا لا يعرفهم ولا يعرف تاريخهم ولا يعرف أهدافهم ومطامحهم الشخصية في نفس الوقت فإن هؤلاء المنتخَبين الذين يطلق عليهم صفة ممثلي الشعب لا يعرفون أيضا ناخبيهم وبالتالي فإن الصلة مقطوعة تماما بين الناخب وممثله ولهذا السبب تحديدا لا يشعر السياسيون بأية أهمية لرأي ناخبيهم أو مشاكلهم أو احتياجاتهم فهم في واد وعامة الناس في واد آخر، ولهذا ينتشر الفساد وتتجه اهتمامات السياسيين إلى مصالحهم الشخصية ومصالح أقربائهم وعشيرتهم وأحزابهم فتراهم يقدمون الوظائف والمناصب المرموقة إلى ذويهم دون أية اعتبارات أو حتى خوف من رقيب أو ضمير.
ولكن مرة أخرى فان الشعب على موعد دائم لاستخدام سلطاته وحينها عليه أن يعرف كيف يستخدمها وأن يتعلم الدرس جيدا وأن يتذكر أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
كاتب وإعلامي مقيم في استراليا