سلسلة قراءات من كتابي “لسنغ والعالم العربي الإسلامي” … رؤية الأديب ورائد حركة التنوير الألماني غوتهولد أفرايم لسنغ عن الإسلام وحوار الحضارات والأديان
الحلقة الأولى: بقلم الدكتور زاحم محمد الشمري
يقودنا موضوع “لسنغ والعالم العربي الإسلامي” الشيق في الرجوع قليلاً الى الوراء لنبحثَ في ثنايا التأريخ الإنساني وكنوزه العلمية، حيث إحتفظَ الموروثُ الثقافي العربي الإسلامي للقرون الوسطى بتقاليد الدعوةِ الحقيقية للحوارِ المتسامح مع الثقافات والأديان الأخرى، وذلك حين حدد العلماء المسلمون في التجمع الثقافي المعروف بـ”الأصدقاء الأوفياء” في مدينة البصرة ـ أحد المراكز الأدبية المشهورة في القرن العاشر الميلادي بالعراق، بعد التفاهم مع التجمعات الثقافية الإسلامية الأخرى، الخصال الإسلامية والمسيحية واليهودية التي يجب أن يتصف بها “الإنسان المثالي” صاحب الخلق الرفيع، ويرونها جزءاً من صفات المجتمع الإنساني المتسامح. لقد اجمعوا على القول بانه ليس هناك كتاب أو علم أو نمط حياة غريب يحول دون المرء ورغبته في بناء نفسه بناءً صحيحاً … وتأسيساً على هذا الرأي اصبح لزاماً على العلماء البصريين وضع اللبنة الأساسية الأولى لمشروع “الإنسان المثالي”، وذلك بعد أن أكد كل تجمع ثقافي إسلامي في القرون الوسطى الصفةَ التي ينشدُها، فعكس هذا الرأي الارادة العظيمة والتصور الرائع غير المنحاز لمجتمع عالمي متسامح، يَحترمُ فيهِ أتباع الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام بعضهم بعضاً، ويعيشون بسلام جنباً الى جنب، على الصورة التي عبر عنهم فيها لسنغ في مسرحيتهِ الشهيرة “ناتان الحكيم” (1779). وبناءً على هذا التصور دونَ العلماء المسلمون البصريون هذه الصفات، وكما جاء في المجموعة القصصية “الفن يحيا بعقلانية” للأديب والمترجم الى اللغة العربية الاسباني (بيتروس الفونسي)، الذي عاش بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، بقولهم:
“ينبغي أن يكون الإنسان المثالي النزيه صاحب الخلق الرفيع شرقياً …، عربي العقيدة، من أنصار مدرسة الحقوق الحنفية، عراقي الثقافة، واسع المعرفة كالعبراني، شاباً كالسيد المسيح في سلوكه، متديناً كالراهب السوري، يونانياً في علومه الشخصية، هندياً في تفسير الأسرار، واخيراً صوفياً في حياته الدنيوية.”
إن هذا التصميم لفهرس صفات “الانسان المثالي” هو تعبيرٌ عن الادراكِ والفهم الراقي للعناصر الحقيقية للثقافة الإسلامية، وإشارةٌ واضحة الى التعايش السلمي في الدولة الإسلامية السابقةِ بين المسلمين واليهود والمسيحيين، والشعوب من ديانات اخرى، ويبين أيضاً إن الاندماج الإجتماعي بين الأقليات انذاك لم يكن صعباً في امبراطورية الخلفاء المسلمين. وكان هذا التعايش الإنساني السلمي الفريد من نوعه محط انظار المفكرين والفلاسفة الأوروبيين، كما يتضح في قول الفيلسوف ورائد حركة التنوير الفرنسي (فولتير) في كتابه “إطروحة التسامح” Traité sur la tolérance (1763-65): “حكم السلطان الكبير بسلام عشرين شعباً من دياناتٍ مختلفة.” إنَّ خاتمة هذا القول تقدم لنا نموذجاً بارزاً للجهد الفكري والنفسي الذي قام به الإنسان في المجتمع الجمعي الحديث، الذي يتطلب التسامي العقلي العالي عن عدم التمييز في القدرة على تقديم الرعاية وتجاوز الإشكالات كما كان في الماضي. وبناءً على رأي العلماء المسلمين الذي ورد في المجموعة القصصية للاسباني (بيتروس الفونسي) يترتب على الانسان في المجتمع المنفتح ان يكتسب البديهية في البعد النقدي العقلاني، وتوظيف هذا الجهد من خلال الموقف في الدور الذي يلعبه. وان مصطلح “أنا ناضج” يضع الاجتهاد والملاءمة في المقدمة، لذا يجب على الانسان ان يفهم أولاً بعقلية المنتقد، ماذا يريد من ذاته في محيطه الاجتماعي، وان يستشعر تقييم الاخرين له، لكي يستطيع التفكير بشكل صحيح، خاصة عندما يدعي العيش في هذا المجتمع الجمعي، ويريد ان يعمل على صيانته ورقيه، لان المنجز الإجتماعي، الذي يبتغيه المجتمع من الفرد، وكان من الصعب تحقيقه في الماضي بسبب عدم اهتمام الناس به، سيكون مفيداً لمساءلة أولئك الذين ارادوا العيش على مدى تأريخهم الطويل من اجل تحقيق المصالح والمزاعم الشخصية فقط.
المصدر:
3 بيتروس الفونسي: “الفن يحيى بعقلانية” 1970، ص 9.
[1] Petrus Alfonsi: Die Kunst, vernünftig zu leben [Disciplina Clericalis]. Dargestellt und aus dem Lateinischen übertragen von Eberhard Hermes. Zürich und Stuttgart 1970. S. 9.