سفر الجامعة بين العبثيّة والإلحاد
مادونا عسكر
يطالعنا سفر الجامعة في الكتاب المقدّس، المنسوب إلى الملك سليمان، ابن داوود الملك، ككتاب يسيطر عليه التّشاؤم والعبثيّة. إلّا أنّ كاتب هذا السّفر يلقّب نفسه بالحكيم، “قهلت” باللّغة العبريّة نسبة إلى قهل أو الجماعة، ما يدلّ على أنّ هذا السّفر أو هذا الكتاب نتيجة تأمّليّة لمفكّر أو حكيم أو فيلسوف شاء أن يعرض نتيجة خبرته الشّخصيّة التّأمّليّة. ومن الجيّد أن نذكر أنّ سفر الجامعة من الكتب الحكميّة في الكتاب المقدّس العهد القديم وأنّ كاتبه المجهول ينتمي إلى مدرسة الحكماء في التّوراة (مدخل إلى الكتاب المقدّس- الجزء الثّالث- الأب بولس فغالي). وقت تأليف هذا السّفر غير معروف، ويرجعه جورج سارتن إلى الفترة الواقعة بين عامي 250- 168 ق.م. كما يذكر ميخائيل إيتون في سلسلة التّفسير الحديث للكتاب المقدّس أنّ هذا النّص أخذ شكله الثّابت في القرن الأوّل الميلادي. كما يذكر أنّ لدينا أربع قطع من المخطوطات المكتشفة في خرائب قمران تمّ نشرها سنة 1954 م، وتتضمّن شذرات من الإصحاحات من 5 إلى 7 وقد أرجع تاريخها إلى منتصف القرن الثّاني ق.م.
تشير فئة من النّقّاد أنّ كاتب هذا السّفر متشائم، وأخرى تفيد أنّه متفائل في نهاية النّصّ، وأخرى ترى فيه العبثيّة، ولا ريب أنّ فئة ترى فيه وحياً ينبّه الإنسان إلى أنّ كلّ شيء بيد الله ويصعب على الإنسان أن يفهم ويدرك مقاصد الله.
يحمل النّصّ ما يحمله من تناقضات في فكر الكاتب نفسه دلالة على الاختبارات المتنوّعة الّتي يخضع لها الإنسان بشكل عام، ولا ضير في ذلك. إلّا أنّ ما هو لافت- كي لا أقول صادم- هو أنّ النّص لا يتضمّن أفكاراً عبثيّة وحسب بل إلحاديّة. فكيف يستوي الإلحاد والعبثيّة مع نصّ موحى به من الله في كتاب مقدّس يقول فيه الرّسول بولس في رسالته الثّانية إلى ثيموتاوس (3:16): “كلّ الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتّعليم والتّوبيخ، للتّقويم والتّأديب الّذي في البرّ.”؟
– العبثيّة في سفر الجامعة:
وكأنّي بالحكيم يصرخ مع ألبير كامو: ” أصرخ قائلاً إنني لا أؤمن بشيء وأنّ كلّ شيء عبث “.
وصل الكاتب إلى قناعة أن لا قيمة لشيء في هذا الكون ويبدو ساخراً من هذه الحياة غير آخذ إيّاها على محمل الجدّ. وأنّ كلّ التّناقضات الحياتيّة من حزن وفرح، وتعب وسعادة، وشقاء وسرور، وحكمة وجهل، ومسار الكون بكلّ عناصره… هي “قبض ريح”. ويتحدّانا في مطلع السّفر قائلاً: باطل الأباطيل… كلّ شيء باطل. ويؤكّد على قوله دون عناء ودون أن يدفعنا للتّساؤل عن سرّ هذه العبثيّة من خلال سرده ما يشبه السّيرة الذّاتيّة.
ولعلّنا ونحن نطالع سفر الجامعة، يسيطر علينا قول الكاتب والفيلسوف العبثي ألبير كامو، إنّ العبثية أكثر من مرحلة في الحياة، وهي المرور بمراحل عديدة ومختلفة في محاولة العثور على معنى. ثم يدرك الإنسان أخيراً أنه لا يوجد معنى للشيء، وأنّ محاولة فهم الحياة مضيعة للوقت، ويجب الاستسلام والتّوقف عن البحث لوضع القيم والإيمان بها. ويشير إلى كلمة absurde، أي لا معنى له، وأنّ على الإنسان أن يتبنى الحالة العبثيّة للوجود البشريّ. وكأنّ حكيم سفر الجامعة أدرك أن لا جدوى من البحث عن معنى، واستسلم وتوقّف عن البحث لأنّ كلّ شيء قبض ريح؛ حتّى وإن ذكر الله في أكثر من موضع. فيبدو لنا الله في سفر الجامعة بعيد عن الإنسان أو مفارق له، ولا يبدو لنا يهوه إله بني إسرائيل المرافق لهم على الدّوام. ولا بدّ من الإشارة إلى فقرات مضافة إلى هذا السّفر. ويعود ذلك إلى استخدام صيغة الغائب المفرد (هكذا يقول الحكيم)، أضف إلى ذلك تقاطع التّسلسل الفكريّ، وإضافات تبيّن للقارئ أنّ كاتباً آخر تقيّاً ورعاً، كما يقول إيتون، أضاف ما أضافه عندما بلغ الحكيم من خطورة في طرح فكره. كأن نقرأ في الآية 26 من الإصحاح الثّاني: “والله يعطي الصّالحين حكمة ومعرفة وفرحاً، ويجعل الخاطئين يعانون في الجمع والادّخار، ليعطي ذلك كلّه لمن يكون صالحاً لديه. هذا أيضاً باطل وقبض ريح.” ما الّذي عنى به الحكيم إذ قال “وهذا أيضاً باطل وقبض ريح”؟ هل هو عطاء الله أم معاناة الخاطئين أم الاثنان معاً؟ في حين أنّ الإصحاح الثّاني لا يتحدّث عن الصّالحين والخاطئين من الآية الأولى حتّى الثّالثة والعشرين. فتبدو للقارئ وكأنّ الآيتين الخامسة والعشرين والسّادسة والعشرين خارجتان عن السّياق وتمّ إقحامهما. ومثيلاتهما كثيرة إلّا أنّ ما يهمّنا من ذلك هو أنّ الإقحام والإضافات لم تلغِ العبثيّة عند الحكيم، بل أضفت تناقضاً رهيباً وصارخاً على النّصوص وأربكت التّسلسل الفكريّ.
كلّ شيء باطل عند الحكيم، وكلّ شيء قبض ريح. وبالتّالي فكلّ شيء تحت الشّمس لا معنى له: “فقلت في قلبي: ((ما يحدث للجاهل يحدث لي أنا أيضاً، فما نفع حكمتي هذه؟)) وقلت في قلبي: ((هذا أيضاً باطل)). فما من ذكر دائم للحكيم ولا للجاهل، وفي الأيّام الآتية كلّ شيء يطويه النّسيان. ويا أسفي، كيف يموت الحكيم كالجاهل!” (2:15-16). إذا كان الحكيم يعني بالحكمة المعرفة والتّعقّل أو الفلسفة، وبالجهل عدم المعرفة، فلقد عبّر عن فلسفة عبثيّة لا شكّ. وأمّا إذا عنى الحكمة كدلالة على الإيمان كما يرد في سفر يشوع بن سيراخ “رأس الحكمة مخافة الله”، أو كما جاء في سفر الحكمة المنسوب أيضاً للملك سليمان: “هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك”، أو دلالة الحكمة بشكل عام في العهد القديم كنعمة إلهيّة كما ورد في سفر الأمثال والحكمة وسيراخ على أنّ الحكمة الحقيقيّة هي الله. وعنى بالجهل الإيمان: “قال الجاهل في نفسه لا إله (مز 1:14) فثمّة تناقض خطير بل ورهيب في ما أورده الحكيم في قوله “ويا أسفي، كيف يموت الحكيم كالجاهل!”
– الأفكار الإلحاديّة:
اعتبر القدّيس إيرونيمس وكثير من آباء الكنيسة أنّ الحكيم ينبّه القارئ إلى أنّ كلّ شيء باطل على الأرض فيوجّه قلبه إلى السّماء. إلّا أنّ هذا الشّرح اللّاهوتي للآباء يستند إلى إيمان بحياة ما بعد الموت. وأمّا الشّعب اليهوديّ فلم يعرف الخلود وقيامة الموتى إلّا في القرنين الأوّل والثّاني ق.م. لكنّ الحكيم لم يورد هذا المعنى وهو مسجون في هذا العالم العبثيّ. بل إنّ أقواله تأرجحت بين القدريّة واللّاأدرية حتّى بلغت الأفكار الإلحاديّة. فعن أيّ سماء نتحدّث؟
يقول الحكيم في الإصحاح الثّالث (19-18): “وقلت في قلبي: ((البشر يتصرّفون هذا التّصرّف ليمتحنهم الله ويريهم أنّهم في حقّ أنفسهم كالبهائم)) كيف لا، ومصير بني البشر والبهيمة واحد؟ فكما يموت الإنسان تموت هي، ولهما نسمة حياة واحدة. وما للإنسان فضل على البهيمة، لأنّ كليهما باطل”.
كيف استشفّ الحكيم هذه الحكمة أو كيف بلغ هذه النّتيجة إذا كان مؤمناً؟ إلّا إذا قنعنا بأنّه تمّ إقحام الامتحان الإلهيّ في هذا القول؟ وكيف لمؤمن أن يساوي بين الإنسان والبهيمة إذ يقول أنّ كليهما باطل، وأنّ مصيرهما واحد؟ في حين أنّ الإنسان مصنوع على صورة الله؟ وحينما نظر الله إلى الإنسان فرأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً؟ (سفر التّكوين) بل ويضيف في الآيتين الواحدة والعشرين والثّانية والعشرين من نفس الإصحاح: “كلاهما يصيران إلى مكان واحد، وكلاهما من التّراب وإلى التّراب يعودان. ومن يعلم هل تصعد روح البشر إلى العلاء وتنزل روح البهيمة إلى الأرض؟ فرأيت أن لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله، وهذا حظّه. فمن يرجعه ليرى ما سيكون من بعده؟”
لعلّنا في هاتين الآيتين أمام فكر “لاأدري” لكنّنا حتماً أمام فكر إلحاديّ. وتشير العبارتان (من يعلم/ حظّه ) إلى لاأدريّة الحكيم، كما تشير العبارتان (يصيران إلى مكان واحد/ ومن يرجعه ليرى ما سيكون بعده) إلى فكر إلحاديّ يعبّر عن عدم تصديق بوجود حياة بعد الموت، كما يعبّر عن مساواة الإنسان والبهيمة في مصيرهما وعن عدم وجود إله.
ثمّ نقرأ في الإصحاح الرّابع من الآية الأولى إلى الرّابعة: “رأيت جميع المظالم الّتي تجري تحت الشّمس. فها هي دموع المظلومين ولا معزٍّ لهم، وفي أيدي ظالميهم قدرة ولا من يعينهم. هنيئا للأموات الّذين ماتوا من قبل، فهم أسعد حالاً من الأحياء الباقين حتّى الآن. .وخير من كليهما من لم يولد بعد، لأنّه لم ير المساوئ الّتي ترتكب تحت الشّمس. .ورأيت أنّ كلّ تعب وكلّ نجاح في العمل إنّما هو حسد الإنسان من أخيه الإنسان. هذا أيضاً باطل وقبض ريح.”
قول الحكيم عقلانيّ ومنطقيّ لكنّه بعيد كلّ البعد عن الإيمان. فليس من يعزّي المظلوم ولا من يعينه على ظالمه، وبالتّالي فهو متروك لقدره ومصيره. ولست أقول إنّ الملحد يستسلم للفكر القائل بترك المظلومين لمصيرهم وإنّما مفاد القول أنّ الحكيم أهمل العناية الإلهيّة، وأهمل حماية الله لشعبه كما ترنّم كاتب المزامير. واعترف بالمسار الطّبيعيّ للإنسانيّة منذ البدء وحتّى نهاية التّاريخ المتضمّنة التّنافس والنّزاع والصّراع للسيطرة والتّحكّم (إنّما هو حسد الإنسان من أخيه الإنسان). بل وبلغ به اليأس حدّ أن يغبّط الأموات، فهم أسعد حالاً لأنّهم استراحوا وانتهوا من هذه الحياة وعادوا إلى التّراب.
“وخلاصة ما رأيته أنّ خير ما يفعله الإنسان هو أن يأكل ويشرب ويجد لذّة في كلّ ما يعمله تحت الشّمس مدّة أيّام حياته الّتي وهبها الله له، فهذا حظه.” (17:5) تعارض هذه الآية قول الرّسول بولس إلى حدّ ما: “إن كان الأموات لا يقومون، فلنأكل ونشرب لأننا غدا نموت” (كور 32:15) فحكيم الجامعة يشجّع الإنسان على الأكل والشّرب واللّذة في كلّ عملٍ، أي الاستمتاع بكلّ ما هو أرضيّ، فغداً نموت وهذا هو قدر الإنسان. هكذا يرى الحكيم. وللقارئ أن يقارن بين وحي الجامعة ووحي الرّسول بولس في نفس الكتاب. وله أن يتبيّن عقلانيّاً ماديّة قول الحكيم: “لذلك أمدح الفرح. فما للإنسان خير، تحت الشمس غير أن يأكل ويشرب ويفرح”.// “والأحياء يعرفون أنّهم سيموتون. أمّا الأموات فلا يعرفون شيئاً ولا جزاء لهم بعد، وذكرهم طواه النّسيان.”