ميسون يوسف
حملتُ طلب الأجازة الزمنية وهممتُ بالخروج.. إن حرارة الغرفة لم تعد تطاق بعد أن أنقطع التيار الكهربائي ممّا جعل قدرتي على التفكير تتعطّل تماماً، وبعد أن فشلتُ في الحصول على نسمة هواء عليل بين شقوق الجدار وأضابير الزمن العتيق. خلّفتُ طاولة مكتبي الرمادية ورائي حزينة يلفّها ضجر قاسي.. حملتُ حقيبتي بعد أن تشبّث بي المقعد الدوّار الذي أراد مشاكستي بدورتين كادت تفقدني صوابي حتى شعرتُ بمسنديه تضيقان علي حد الأختناق .. اخيراً تعلّقت حقيبتي على كتفي بعد أن دسستُ مفاتيح الأدراج في عتمتها.
وجدتُ نفسي وسط زحام المارة وتحت رحمة دبابيس شمس الظهيرة وبين صيحات الباعة المتجولين الذين إفترشوا الأرصفة الظليلة وهم يعلنون عن بضاعتهم الرديئة، انزويت خلفهم علّ الظل يسترني حيث كان شريطه الممتد على الحافة الأخيرة من الرصيف يمثل اختزال هائل لكل هذه الصروح الشاخصة المطلّة على الشارع العام.. كم وددتُ لو أن واجهاتها زيّنت بالشبابيك الخشبية بدلاً من أعمدة الألمنيوم التي حلّت محل أنوثة شناشيل أزقتنا الباردة، وكم تمنّيت لو أن جدرانها العالية اكتست ذلك الطابوق الأصفر الذي يوحي بالحميمية بدلاً من الأسمنت الذي لفّ كل هذه الصروح برداءه البليد..
تنبّهتُ على صوتٍ أيقظ كلَّ ظمأي تلك الساعة (تعال إشرب شربت زبيب.. بارد وطيّب).. كانت الحاوية الزجاجية الكبيرة قد اكتست بعرق القطع الثلجية التي تتراقص داخلها.. لم يكن اللون يوحي على لون الزبيب الذي اعتدتُ أن أراه منذ زمن حينما كنت أمرُّ بعد إنتهاء ساعات العمل وأرى بشغف كبير حبّات الزبيب الباردة وهي تدور بحركة راقصة داخل الحاوية لتأخذ طريقها الى الأقداح ومن ثم الى أفواه العطاشى من المارّة وكنتُ واحدة منهم.
نظرتٌ الى ساعتي.. آه كم كانت تلسعني عقاربها.. ترى لم أخذتُ ساعة زمنية؟ هل لكي أكسر زمن رتابة العمل ساعة واحدة.. أم تلبية لدعوة صوت داخلي أن اخرج الى عالم يمور بالحركة التي لا تحكمها قوانين الوظيفة.. أم كان قرار عفوي اتخذته بسبب الحر نتيجة إنقطاع التيار الكهربائي؟… المهم أنا الآن وسط الشارع وبين الناس وعليّ أن أعيد الصفاء الى ذهني وأطرد ذباب الأفكار التي تملأ رأسي بالحسابات والأرقام والدائن والمدين…
وأنا أهمُّ لأعبر الشارع سمعتُ صوتاً طفولي النبرة تخنقه حشرجة الإعياء.. استدرتُ نحو الصوت.. كان يرتدي سروالاً أسوداً متسخاً تجمّع عند الوسط بشكل مخروطي وقميصاً متعدّد الألوان وسلسلة رخيصة التفّت حول عنقه النحيل.. كان يحملُ مجموعة من علب الدخان.. لعلّها مفارقة مضحكة مبكية.. طفلٌ لا يتجاوز العشر سنوات يبيع للكبار علب التبغ الذي يحذّرُ صانعيه من تناوله..
ازداد زحام الرصيف عندما انتصف النهار ورحتُ أمرقُ من بين أكتاف السابلة حتى استوقفني محلّاً لبيع الزهور.. مشهد الماء وهو ينزلُ منساباً على الواجهة الزجاجية الأمامية بعثَ في نفسي إحساساً بالبرودة.. حاولتُ أمعنُ النظر بين حركة السيارات والشارع والمارّة الذين تعكسهم واجهة المحل.. فلمحتُ نباتات ظلٍّ تستعرضُ أوراقها بأواني فخارية.. وأوراق ملوّنة برّاقة وضعت بأناقة في سلال الخيزران.. زهوراً من قماشٍ منشّى لا تعني شيئاً بالنسبة لي.. شرائط متدلّية تتصدرها لوحة كتب عليها (مستعدون لتزيين سيارات الزفاف) وتذكّرت هذه السيارات كم تربك حركة السير بالشارع.. أكثر من مرّة تمنيّتُ لو أحتكم الى رجل المرور وأدعوه الى برمجة لحركة الطريق تجعل مجالاً لمرور السيارات الصاخبة بالزغاريد وأغاني الفرح تارة وأخرى لمرور السيارات المثقلة بالمتعبين والشاردين مع همومهم عبر نوافذ الحافلات…
الجسر العتيق الذي تعوّدتُ العبور عليه أصبح أمامي فاتحاً ذراعيه ويدعوني بمحبة وكانت المركبات وهي تلوك الأرض تنحدرُ عليه كالسيل كأنها أقفاص من الحديد لا تعرفُ الرحمة إن انحرفت أو أخطأت مسارها.. لم أجد نفسي راغبة في عبوره راجلة فانحدرت عبر سلالمه الجانبية باتجاه الضفة.. قوارب متراصفة تنتظر دورها كي تمتلىء بالعابرين، فصعدتُ إحداها حيث لم يطل الوقت حتى اكتمل النصاب بعد أن صعد مجموعة من الطلاّب الجامعيون وكانت بينهم طالبة شغلتها خلاخلها وقد تعلّق طرف قلادتها بالكتب التي تحملها لصق صدرها، وعندما همّت بالصعود انغرس كعب حذائها بين لوحين من خشب القارب ممّا أربكها وتعرّق جبينها بحيث سال على مساحيقها وعبث بطلائها.. جلست قبالتي وقد تطايرت بعض خصلات شعرها وفتحت أحد كتبها لكي تداري خجلها وتهرب من فضول عيوننا.. قرأتُ هامشاً على الصفحة الأولى بالقلم الرصاص يقول:
نظرة عميقة في الكتاب
ونظرتان في الحياة
تعطي الأنموذج السليم للروح
(كوتيه)
انتبهتُ على حركة القارب وهو يرتطم بالضفة الأخرى.. فنزل الجميع الاّ أنا.. لقد قرّرتُ العودة من حيث أتيت..
سرتُ مسرعة بأتجاه مقر عملي، وحين دخلتُ نظر موظف الاستعلامات الى ساعته وقال:
ـ عدتِ بسرعة.. يبدو إنك لم تبتعدي كثيراً عن هنا؟
ـ بل أبعد ممّا تتصّور.
فتحتُ باب غرفتي وأسرعتُ الى النافذة المطلّة على الشارع الخلفي وكان التيار الكهربائي لا يزال مقطوعاً إلاّ أن نسمة باردة لفحت وجهي فاندفعت كي تملأ صدري والمكان برمّته.. سحبتُ الأوراق الموجودة في درج المكتب ثم سمعتُ طرقاً على الباب:
ـ نعم يا عم حسن
ـ هناك مراجعين يا ست.. هل ينتظرون قليلاً؟
ـ كلاّ.. ادخلهم بسرعة..
فتح الباب…
ـ تفضّلوا إخوان..
وابتدأت معهم…..