رَحـيـل آخـِر الـعــَمـالـقـة
الـدكتور عـبـدالقـادر حسين ياسين
غـيـَّـبَ الـمـوت يـوم أمـس المـنـاضـل الأمـمـي والـقـائـد التـاريـخـي للـثـورة الـكـوبيـة فـيدل كاسترو ، بـعـد صـراع طـويـل مـع الـمـرض ، عن عمر ناهز 90 عاما…
ولد فيدل كاسترو في 13 آب 1926 في مقاطعة أورينت (جنوب شرق كوبا) لأب مزارع من أصل إسباني ، بيد أنه تمرد منذ صغره على حالة الترف التي كان يعيشها بعد ما صدم بالتناقض الكبير بين رغـد العـيش في أحضان عائلته ، وبين قسوة العيش والـفـقـر في مجتمعه.
حمل السلاح ضد الرئيس فالجنسيو باتـستا عام 1953 على رأس أكثر من مائة من أتباعه. إلا آن محاولته أحبطت، وسجن هو وشقيقه راؤول. وبعد عامين صدر عـفـو عن كاسترو الذي واصل حملته لإنهاء حكم باتستا من المنفى في المكسيك. وشكل قوة مقاتلة عرفت بـ “حركة 26 يوليو”.
وقد اجتذبت مبادئ كاسترو الثورية تأييداً واسعاً في كوبا، وتمكنت قواته في عام 1959 من الاطاحة بباتستا الذي أصبح نظامه يرمز الى الفساد والتعفن وعدم المساواة.
العـداء الأمريكي
لم تكد الولايات المتحدة تعترف بالحكومة الكوبية الجديدة حتى بدأت العلاقات بينها وبين كوبا تتدهور ، عندما قام كاسترو بتأميم عـدد من الشركات الأمريكية التي بلغ مجموع أرصدتها ما يقرب من بـلـيـون دولار. وفي نيسان عام 1961 حاولت الولايات المتحدة إسقاط الحكومة الكوبية من خلال تجنيد جيش خاص من الكوبيين المنفيين ، لاجتياح الجزيرة. وتمكنت الـقـوات الكوبية في خليج الخنازير من ردع المهاجمين ، وقتل العديد منهم واعتقال حوالي ألف شخص.
بعد ذلك بعام واحد بدأت أزمة الصواريخ السوفـيـيـتية الشهيرة التي كادت أن تجر العالم إلى حرب ذرية. وبدأت الأزمة عـندما وافق كاسترو على نشر صواريخ بالستية في كوبا لردع أي محاولة أمريكية لغزوها. وفي تشرين الأول عام 1962 اكتشفت طائرات تجسس أمريكية منصات الصواريخ السوفـيتية ، مما جعل الولايات المتحدة تشعر بالتهديد المباشر. إلا أن الأزمة لم تطل كثيراً في أعقاب توصل الولايات المتحدة والاتحاد السوفـييتي إلى تسوية يزيل من خلالها الاتحاد السوفييتي صواريخه، مقابل تعهد أمريكي بعدم غـزو كوبا والتخلص من الصواريخ الأمريكية في تركيا.
وقد أصبح كاسترو أحد النجوم اللامعة في عصر الحرب الباردة. فـقـد أرسل 15 ألف جندي إلى أنغولا عام 1975، لمساعـدة القوات الانغولية المدعـومة من السوفييت. وفي عام 1977 أرسل قوات أخرى إلى إثيوبيا لدعم نظام الرئيس مانغستو مـريـام.
صمد فيدل كاسترو خمسة وأربعين عاماً أمام الولايات المتحدة وأمام الحصار الاقتصادي الذي فرضته على بلاده، واستمر نظامه حتى بعد أفول ثم سقوط الأنظمة الشيوعـية في الاتحاد السوفـيـيتي وأوروبا الشرقية. وبينما كانت الأنظمة الشيوعية تسقط حول العالم، نجح الزعيم الكوبي في الحفاظ على الأعلام الحمراء ترفرف على بوابة الولايات المتحدة الأمريكية. وتحول الرجل إلى مثال أمام دول وقيادات أخرى في أمريكا اللاتينية وغيرها. وربما يكون الرئيس الفنزويلي الراحل هوغـو تـشـافـيـز أبرز مثال على اقتفاء أثر كاسترو في سياسة المواجهة والتحدي.
وكان فيدل كاسترو اعتزل السلطة عام 2006 بسبب تردي حالته الصحية، حيث تولى أخوه الأصغر راؤول كاسترو مهامه قبل أن يجري تعيين الأخير بشكل رسمي رئيسا للبلاد عام 2008.
تـعـرَّض فيدل كاسترو لأكثر من ستمئة محاولة اغتيال، وتحدى عشرة رؤساء أمريكيين، وواكب أكثر من نصف قرن من التاريخ.
قبل 18 سنة قام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة “تاريخية” إلى كوبا، دفعت جيم هـوغلاند، الـمـحـرر الـدبلـوماسي لـصـحـيـفـة “نـيـو يـورك تايـمـز” الأمريكيـة، إلى مراهنات قصوى على ذلك الحدث المشهود، بلغت درجة التنبؤ بأنّ البابا سوف “يعجّـل بسقوط كاسترو”. أكثر من ذلك، اختار هوغـلاند ذلك التفاؤل الذي لا يمكن أن توفّره إلا أبراج التنجيم، فاعتبر أنّ الحدث “أفضل ما يمكن أن تقدمه كرة الكريستال السحرية إلى أولئك الحالمين بسنة جديدة معطاءة…!” البعض، من خصوم كوبا وأصدقائها على حدّ سواء، رأوا أنّ العكس قد يكون الصحيح، لأنّ الزيارة يمكن أن تنقلب إلى مسمار جديد يُدقّ في نعش الحصار الأمريكي المفروض على الجزيرة الصغيرة منذ أربعة عقود. ولقد جادل هؤلاء بأنّ هذا البابا تحديداً يعرف أنّ المجيء إلى الجزيرة على رأس جيش إيماني لن يصطدم بالجيوش الماركسية ـ اللينينية وحدها؛ بل بجيوش البروتستانتية واليسوعية و”لاهـوت الـتـحـرير” الذي اشتهرت به أمريكا اللاتينية.
يرى البعـض أن فيـدل كاسترو “آخر الثوريين“ في العالم ... رفيق ارنسـتو تـشي غـيفارا ، وبطل الكفاح المسلح ، ورسول الثورة العالمية … ويرى البعض الآخر فيه “دكتاتورا“ يحكم “جزيرة السكر والتبغ“ بـ “الحديد والنار” … اما الكوبيون فقد ينتقـدون رفاقه في الحكم ، ويحلم البعض بأنـدية القـمـار على شواطيء ميامي ، أما الحديث عن فيدل كاسترو فهو شيء اخر ... الاكثرية ترى فيه “رمزا كوبيا” ... فهو لا يملك قصورا ، ويعيش كجندي في قصر الثورة …
وحين يتحدث معه رفاقه فانهم ينادونه باسمه الأول دون ألقاب ... ويعـيش وزراؤه حالة الكفاف ... لا تفارقه روح النكتة ، ولا اللغة البليغة التي ينتـقـد فيها خصومه ... لذلك نفهم كيف كان ملايين الكوبيين يتجمعـون في “ساحة الثورة” ، في اكثر من مناسبة ، ليستمعوا اليه طوال خمس ساعات كاملـة دون ان يتطرق اليهم الملل ، وهو واقف أمامهم كالساحر ، متنقـلا من موضوع الى آخر ، دون ان ينسى ادراج نكاته اللاذعة في هـذه الخطب.
يمتاز الكوبي بثقافته الواسعة ، وهو قاريء من الدرجة الاولى ، والكتاب متوفر وبطبعات شعبية رخيصة . قـد يحدثـك فلاح في جبال السـيرا ميسـترا عن مشاكل افريقيا ، أو يناقشك عامل منـجـم في الفلسفة الاغـريقـيـة ... ألم يقل غـيفارا ان الكوبي “يمارس الثـورة … حتى وهـو بين اقـداح الخمر، وحـلبات الرقص (الرومبا)” ؟!.
قرأ الكوبيون غـابرئيل غـارسـيا ماركيز قبل ان يقرأه اشقاؤهم الناطقـون بالاسبانية ، وعـرفوا إرنسـت هـمنغـواي عن كثب ... ألم يـكتب هـمنغـواي روايـتـه الخـالـدة “العـجـوز والبحر” في الكاريبي الازرق ؟ ولا زال مطعـمه المفضل يحمل إسمه في هـافانا القديمة.
كان غـابرئيل غـارسـيا ماركيز صديقا حميما لـفـيدل كاسترو ، وللشاعـر الكوبي الكبير نيكولاس غايين الذي يختصر شـعـره كوبا : ناسها وبحرها وحقول قصب السكر، وملحمة كولمبوس ، والبحـَّار الذي تنتظره امرأة في كل ميناء .
لـكوبا مفخـرتان لا ينكرهـما سـوى جـاحـد : الخدمات الطبية المجانيـة والتعـليم المجاني (من الحضـانة إلى الدكـتـوراة) ... إن الأطباء الكوبيين ينتشرون في قارات العالم والبلد “قوة عـظـمى” في مجال الطب.
والشعب الكوبي “غـني بفقـره” ، على حـد تعـبير إرنسـتو كـاردينـال ، وزير الثـقـافـة النيكاراغـوي في الحكومـة الثوريـة (السـاندينسـتا) ، يعـشق الموسيقى والحياة ... بطله القومي خوسيه مارتي ، شاعـر رومانسي ، ينتصب تمثال له وسط هافانا ويحفظ الكوبيون قصائده عن ظهر قـلـب … وأشهر أغـنية كوبية تحولت الى عالمية هي من كلماته منذ أكثر من نصف قرن : إنها أغنية “غـوانتلاميرا” ، وتحكي قصة حـب لفلاحة من غوانتانمو ، تلك البقعة التي اصبحت تعني شيئا آخر اليـوم …
ليس ثـمـة تمثال أو نصـب تـذكاري لكاسترو ، ولا يعيش في قـلـعـة مـُسـَوَّرة … ولا بيت.. مكتبه بيته.
في عام 1995 كنتُ في زيارة لكوبا مع وفـد من “إتـحـاد كتـاب آسـيا وإفـريـقـيـا” . وأبديـنـا رغـبـتنـا بلقائه للـدكتورة باتريشـيا فـوينتس ، وزيرة الثـقـافـة والتعـليـم العـالي … وقـالت لـنـا أننـا “سـنراه بعـد يومين” . وفوجـئـنـا ، مساء ذلك اليوم نفسه ، بـفـيدل كاسترو يـدخل عليـنـا في “قـصـر الضـيـافـة” ، حيث كنا نقـيـم ، لنجلس سبع ساعات كـاملـة في أحاديث متـنوعة (من ديون أمريكا اللاتينيـة ، وانهيـار الاتـحـاد السوفـيـيـتي ، ولاهوت التحرير ، وقـضـيـة فلسـطين ، والشـركات الإحـتكـارية المتـعـددة الجنسيات…).
كنا نناقش الخيار بين النظام الاشتراكي والنـظـام الرأسمالي بـعـد انهيـار الاتـحـاد السوفـييتي, وقلت له ان عـمـر النظريـة الاشتراكية لا زال قـصيراً جداً بالنسبة إلى التاريخ … وتميل طبيعة الإنسان إلى كثير من الأسس في النظام الرأسمالي , لذلك ليس بوسعـنا القول بأن هذا النـظام (كما كان مطبقاً في الاتحاد السوفييتي) هو قمة الإنجاز الإنساني … ولو قـلنا ذلك لأوقـفـنـا مسيرة التاريخ والتطور البشـري ، ويصح القول نفسه على النظام الرأسمالي ... وافـقــني كاسترو الرأي ـ فهو ليس منغـلقا ـ وأضاف : “إن الاشتراكية في كوبا تأخذ بـعـين الاعـتبار الخصائص المحلية… فالثلج يتساقط في روسيا بينما لم يشاهـد الكوبيون الثـلج في بلادهـم ، وتـنمو أشجـار البتولا في أصقاع سيبيريـا ، بينما ينمو النخـل في كـوبا ... هـل فهمت قـصـدي ؟”
وعـنـدما سـأله أحـد أعـضـاء الوفـد عن سكوت كوبـا على الوجـود الأمريكي في قـاعـدة غـوانتـانـامو ، قـال : “إن الوجـود الأمريكي في غوانتـانـامو شوكة في خاصرة بلـدنا… وهـو ـ كما تعـلمون ـ من مخلفـات باتيسـتا… انـنـا حريصون على رفـاهيـة شعـبنا ، ولن نـدخر جـهـداً في المحـافظـة على مكاسـبه الاشتراكيـة… اننا لا يمكن ان نهاجم القوات الامريكية في قاعـدة غـوانتانامو ، لاننا نعـطي بـذلـك تبريراً للولايات المتـحـدة لاحتلال الجزيرة بكـاملـهـا .. اننا نقوم بدورنا الأممي في افريقيا وفي امريكا اللاتينية…”.
إن كـوبـا لم تـتـزحـزح قيد انملة عن سياستها المناهـضـة للامبرياليـة الأمريكيـة ، وعن دعـمـهـا غير المشـروط لحركات التحرر الوطني ، وشـعـوب العـالم الثـالث ، وحقـهـا في الحيـاة الحـرة الكريمـة بـدون أي تـدخل خارجي . ولا أغـالي اذا قلت أنـه لولا الـدعم العسـكري الكوبي ، وآلاف المتطوعين الكوبيين (ومن بينهـم آلاف الأطبـاء والمهندسين والفنيين) لناميبيا وأنـغـولا وموزامبيق لظلت هـذه الـدول الافريقيـة حتى اليوم خاضعة للهيمنة الاستعمارية.
وبـعــد ؛
لـقـد رحل الـقـائـد التـاريخي فـيـدل كاسـتـرو ، وسـيـبـقـى إسـمـه إلى الأبـد مـقـرونـاً بـالـزعـيـم الذي تـحـدى الإمـبـرياليـة الأمريكيـة طـوال نـصـف قـرن…، رحـل الرجل الذي كان برمزيته وحضوره صديقاً لفلسطين، وكان الممثل الأخير لتلك السلسلة الممتدة على مدى القرن العشرين، من كوكبة نادرة وفريدة تضم رجالاً وقادة وأنبياء ومخلّصين، قادوا شعـوبهم الى الخلاص في مواجهة الأقوياء…
فـيـدل ؛
سـلامـا وتحيـة ،
ففي التحيـة الحياة…
التحية هي المحافظة على وديعـتك التي أودعـتـهـا ،
لدى كل من لا يزال مؤمنـاً بأن المقاومة هي كل ما نملـك ،
وبأن الوعي النقـدي هو الطريق.
فـلـسـفـتـك الراسـخـة في الثـبـات عـلى الـمـبـدأ عـلـَّمت الكثيرين أن يواصلوا طريق المقاومة : أبجدية من أعطوا للبشـرية ،
عبر تاريخها الحضاري الطويل الذي يمـتـد عبر آلاف السنين ،
ما تستحق به الاقـامة على الأرض .
تبقى الحياة في كوبا لونين أزرقين : البحر والسماء ،
وحمامة تحـلـق عـاليـاً في سـمـاء أمريكـا اللاتيـنيـة ،
حـمـامـة تسـتعـصي على “النسـر الأمريكي”،
الـذي يطمح الى أن يـضـمها تحت جنـاحيـه ،
لـيــُعـيـد سـيد البيت الأبيض التاريخ الى الـوراء…
ويـعـيـد هـافـانـا ـ كما كانت أيـام باتيسـتا ـ مـاخوراً ونـادياً للقـمـار لأثرياء أمريكـا.
تبقى كـوبـا ، بلاد النسمات التي تحمل عـطر أزهار القهوة ،
وأرض الأعاصير التي تقـلع الصخر،
بـلـد فيـدل كاسترو ،
شـوكة ليس فـقـط في خاصرة واشنطن ،
بل في حـلـقـهـا أيـضـا!