رواية الهجرة غرباً للكاتب الباكستاني محسن حميد.. بالنص العربي من ترجمة نادين نصر الله.. التي تتناول فيها موضوعة الهجرة وحق الانسان في الانتقال بحثاً عن الأمان والحرية بسبب الحروب والاقتتال بين البشر وما يتفرع منها من مواضيع إنسانية تجعلنا ان نتوقف عندها لأعاده التفكير والتساؤل عن مدى صحة خطواتنا.. او لتدقيق موقف مر بنا وجعلناه مبرراً لانتقالنا..
مع غيرها من الهواجس التي تشكل بنية النص الروائي.. الذي يدق لنا عبر سطوره ناقوس الخطر المحدق بنا.. ونحن نعيش وهم الوصول للفردوس الغربي عبر بوابات اللجوء.. الذي يعتبره البعض خلاصاً قبل أن يكتشف انه خلاص زائف لا يتعدى وجوده محطة جديدة من محطات العمر التي تفرز معاناتها الجديدة وتتطلب خوض صراع جديد مع متطلبات البقاء والتواصل في بيئة جديدة تجمع المتخاصمين على السكن ووجبات الغذاء لا تخلو من المتربصين بالمهاجرين والرافضين لوجودهم الجغرافي في أحياء لندن وبرلين التي اختارها الكاتب بوعي مقصود ليس من السهل غض النظر عن موجات الكره والحقد التي تنمو وتتسع لتشكل ما يمكن وصفه بالخطر الموجه في المجتمعات الأوربية ضد اللاجئين البائسين الذين اعتقدوا ان نهاية مشاكلهم ستنتهي مع وصولهم لها..
من هذه الزاوية.. زاوية الهجرة.. وزاوية الوصول.. تتشكل ضمن نقطة التلاقي ثيمة العلاقات الجديدة التي لا تخلو من صراعات تبدأ بالنفس وتمتد للآخر لتتواصل عبر الثقافة والملبس والاحلام لإعادة صياغة واقع مرئي تفرضه معادلات القوة والتأثير الناشئ من المفاهيم الانسانية التي تمتحن لتكتشف خواء تطبيقاتها وزيف محتواها ومن هنا تتواصل المعاناة لتفرز بعمق صفحات فصول الرواية الكثير عن:
1ـ العنف والحروب وتأثيراتها على البيئة والأنسان وما يرافقها من قسوة وتخريب للمدن.. بالإضافة الى ما يلحق النفوس من حيرة وتأثيرات نفسية.. تبرز من خلال تصرفات البشر وعلاقاتهم مع بعض.. او من خلال الاحتكاك بالجيران وبقية الشعوب عبر الهجرة ومحطات اللجوء..
2ـ توحي من خلال النص والاشارات الى الملبس.. ان احداثها معاصرة لزمن داعش وبقية الفرق والمنظمات الإسلامية الإرهابية من قاعدة وغيرها من تسميات إسلاموية إجرامية..
3ـ تبرز الرواية من خلال احداثها في سياق النص.. موضوعة الهجرة واللجوء والانتقال الى الأماكن الآمنة في أوربا.. التي تبرز من خلال احداثها طبيعة المشاكل الجديدة للاجئين الناجمة من حالة الاختلاط مع الآخرين أولا..
والمتغيرات التي تترافق مع الانتقال عبر الجغرافية الى عالم جديد.. يفرض التباعد بين الحبيبين (سعيد وناديا.. هكذا كتب الاسم).. تحت تأثير معادلات جديدة في المهجر.. تتطلب البحث عن قيم جديدة تلائم الوضع الجديد.. والاضطرار للتخلي عن المفاهيم السابقة المحلية.. بما فيها رابطة الحب العذرية.. التي بدأت تتفكك شيئاً فشيئاً لصالح علاقات جديدة تفرض نفسها في السكن والبحث عن وسيلة لمواجهة الجوع الذي اخذ يستحكم باللاجئين في محطات معزولة تحد من حريتهم ونشاطهم وتجعلهم أسرى مغتربين في أماكن سكن مفروضة عليهم وتجبرهم على التواجد في رقعة جغرافية محددة.. تقدم لهم غذاء محدداً.. لا يستطيعون رفضه ولا يستسيغونه..
تماماً كما هو الحال مع السجناء ودرجة الحرية الممنوحة لهم من قبل الجلادين الخاضعين لأوامر إدارة السجن أو المعتقل.. او أي مأوى للمحتجزين المتهمين بتجاوز الحدود.. الذين يشكلون خطراً على الآخرين من أصحاب البلد.. هي في الرواية لندن.. التي بدأ فيها النشاط المعادي للاجئين.. وتبرز في معمعان هذا الاختلاط البشري:
ـ طبيعة الانسان المحب للسلام والاستقرار الباحث عن الحرية
ـ حق الانتقال من بيئة فيها مخاطر على حياته بسبب الحروب والاقتتال الى بيئة تؤمن سلامته وتوفر له كرامة العيش..
ـ التحولات النفسية والفكرية وانعكاساتها في مجرى المحطات التي يتوقف فيها الباحثون عن اللجوء.. على اللغة والمعتقدات والمفاهيم.. التي تبرز على شكل صراع او من خلال النقاش مع النفس.. او مع الآخرين في لحظات متوترة تتطلب الفصح او الكشف عن خوالج النفس..
4ـ القدرة على المزج بين الواقع والخيال وما تفرضه الحاجة لابتداع وسائل جديدة حتى لو كانت خيالية توظف لخدمة الانتقال والعبور عبر بوابات وهمية للطرف الآخر من المعادلة..
وقد افردت الرواية الكثير لهذه البوابات والمعابر على امتداد نسيجها في سرد واستذكار الاحداث ووصف الأماكن والمحطات التي شهدت تنازعات ونقاشات إنسانية امتزجت بروح بواباتها.. كأنها جزء من حالة التماهي مع الحدث تؤشر لطبيعة التحولات العميقة التي ستكتشف لاحقاً مع اول يوم من ” الاستقرار ” والوصول..
5ـ العبرة والغاية من هذا النوع من الأدب الذي يمكن ان نطلق عليه تسمية.. ادب التغيير والتحول الإنساني.. الذي يبدأ بالتذكير للمعالم الإنسانية للبشر والتنوع الثقافي الإنساني بينهم.. وما تفرضه حالة الانتقال من معاناة للاجئين تبدأ بالحث عن مأوى او سكن.. وتمر بتدارك الجوع.. والحاجة لتعلم لغة جديدة ناهيك عن الافتراض بخلق علاقة ودية مع المحيط..
هذا المحيط الذي لا يخلوا من المعاداة.. ومن له الاستعداد للفتك باللاجئين.. وهنا يكمن جرس التنبيه ليمنح أهمية أكبر للرواية.. لكونها تدق ناقوس الخطر لتؤشر الى مغزى التحولات الخطيرة في لندن نموذجاً لعاصمة في بلدان الغرب.. وهي تحولات ينبغي عدم الاستهانة بها واخذها بنظر الاعتبار.. عندما نتحدث عن آفاق الهجرة.. وما يمكن ان يحصل في بلدان الغرب من تحولات تسفر عن موجة عداء للاجئين.. لا يمكن القفز عليها وتخطيها.. وسط هذا الخراب.. الذي يرافق التحولات في المجتمعات الغربية.. لصالح المتطرفين الذين ما زالوا يوظفون الدين لغايات دنيئة رغم التطور التكنولوجي والعلمي في هذا العصر المتقدم..
وهنا..
أي سوء استخدام الدين وتوظيفه من كلا الطرفين.. بما فيهم من يمكن تصنيفهم بالمتطرفين بين اللاجئين.. بما يحملونه من موروث ديني ومفاهيم تبيح العنف ضد الآخر.. وما يترافق من ردود فعل غير واعية في المجتمعات الأوربية.. لدى قسم من المتطرفين.. الذين يؤمنون بضرورة القصاص من ـ اللاجئين المتدينين ـ تحت ستار الحفاظ على معالم الدين المعرض للعزو والتراجع..
وما يطفح على السطح من استعدادات لخوض جولات من التطاحن البشري في قلب أوربا لندن.. وغيرها من المدن لا تستثني الرواية منها برلين.. المكان الآمن للاجئين الهاربين نحو الفردوس الغربي.. يكمن الخطر القادم الذي ينبغي ان نتوقف عنده.. كي نتلافاه ونكافح من اجل.. ان لا يتحول الخيال الى واقع دموي مرير.. يضاف لقائمة حروب ونزاعات البشر التي يندى لها الجبين..
العالم الشرس اللا انساني.. الذي ورثنا نزعات الاقتتال.. بسبب الرغبات الأنانية للاستحواذ على الكون والطبيعة.. وما يرافقها من قهر واستغلال للبشر.. هذا ما يجب ان نتخلى عنه.. كي نضمن عيشاً مشتركاً يليق بالبشر في هذا العصر..
انها رواية إنسانية بامتياز.. تنتصر للإنسان أولا وقبل كل شيء.. الأنسان مهما كان وضعه يستحق ان نفسح له المجال للحياة بيننا.. قبل ان نحاكمه ونتهمه.. ان كنا بشراً نحجز اماكننا بجدارة بين طيات مسيرة الإنسانية المشبعة بالآلام في هذا الكون الشاسع الذي يسعى البعض لتحجيمه وتصغيره كأنه ملكا له وحده..
ـــــــــــــــــ
5/9/2020
ـ الهجرة غرباً.. رواية من تأليف محسن حميد.. الباكستان.. ترجمة نادين نصر الله.. دار التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان.. 2018 م