رغم غدرات الزمن وتعاقب وتبدل الاوضاع
شعانين صيدا وفصحها يحميان العيش المشترك
اشتهرت مدينة صيدا عبر التاريخ بتعدد العائلات الروحية والاجتماعية، وكان بالأخص للعائلات المسيحية دور بارز بتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة. ومن ابرز العائلات:عبود ،الجيز ،كنعان ،ضاهر ،نمور ،زيدان ،فران ،عودة ،حداد،ورزق الله .
وبحلول عيد الشعانين وعيد الفصح المجيد الذي تحتفل بهما الطوائف المسيحية في كافة المناطق اللبنانية، تفتقد المدينة لغياب هذه العائلات بسبب التغيير القسري الذي حصل لاسباب موضوعية احياناً، وذاتية لاسباب اخر يطول الحديث عنها، ما “اخلّ” بالتركيبة الديموغرافية للمدينة كما في مناطق اخرى في لبنان . لايزال وجود هذه العائلات يشكل عموداً فقرياً للعيش المختلط الذي عرفته المدينة عبر تاريخها .
الطبيب عبدالله كنعان والمحامي اسكندر حداد هم اعضاء في المجلس البلدي للمدينة، والمختار أيلي الجيز،هم من ابرز الشخصيات التي تمارس العمل النقابي في صيدا، وكذلك الطبيب الشرعي انطوان ضاهر، والكاتب بالعدل جيزال ابي زيد .
من المعروف ان الدكتور عبدالله كنعان يتابع عمله،و”يستفسر” كل اسبوع من هيئة ادارة دار رعاية اليتيم عن صحة الاطفال فيه، ويسال لماذا لا يتم اعلامه او ارسال اطفال لمعاينتهم ،كونه يقدم الطبابة المجانية لهؤلاء الايتام . وفي الاطار ،يذكر احد الصيداويون ان اهل صيدا انتخبوا المختار ايلي الجيز الذي كان مرشحاً بوجه شخص من آل البزري، لكون الجيز ابن المدينة ايضا، وشخص معروف تاريخيا ووكيل توزيع المطبوعات في الجنوب سابقا.
اللافت ان شارع الأوقاف وشارع المطران والأوقاف للمسلمين والمسيحيين في مدينة صيدا يؤكدا على طبيعة وأهمية العيش المشترك في المدينة ، الشارعان المتلاصقان لبعضها حيث يشترك “الوقفان” المباني المتجاورة من أجل خدمة المحتاجين والمعوزين عبر عائدات المحلات في هذين الشارعين.
وتعتبر مدينة صيدا كغيرها من المدن اللبنانية، تتبع مبدأ المساواة بين الأوقاف عند كل الطوائف بشكل عام، من حيث وجود الأوقاف عند الطوائف الاسلامية والمسيحية. لقد تبدلت الأوضاع الإجتماعية تزامنا مع تبدل الأوضاع الإقتصادية فأصبحت هذه الأوقاف وعائداتها تشكل مصدرا حيويا لتحقيق مبدأ التكافل والتساوي بين الجميع.
المحال التي احتفت من معالم المدينة :
ومن المحال المهمة التي كانت موجودة سابقا: “بنك إنترا الذي أفلس عام 1966″، سينما ريفولي التي تحولات الى محالات لبيع الاحذية المعروفة “باتا”، وغابت محلات بيع مستلزمات الشعانين، والبزاق، والمشروبات الروحية، وإدارة ريجيه” التبغ” ،حيث كان يسمح بشراء كمية محددة من السجائر على مدار الأسبوع بواسطة ترخيص يقدم للإدارة، وكان قاطني هذا الشارع عائلات مسلمة ومسيحية.
تبرزالصورة أوضح وجلية اكثر في شارع الأوقاف” وقف الاسلام” وشارع المطران، شارع الأوقاف وشارع المطران هما شارعان معنيان بأوقاف كل من الطائفتين يقعان في وسط المدينة، تحديدا في سوقها التجاري.
عند مدخل السوق التجاري تكون الخطوات الاولى في شارع الأوقاف، الذي يمتد بالطول من المدخل الرئيسي للسوق لينتهي عند مفترق الطريق حيث التوجه نحو ما يعرف “بالشاكرية” أو التوجه نحو الواجهة البحرية للمدينة، مع أوقاف أخرى موغلة داخل السوق.
تكتظ المحلات التجارية في هذا الشارع على أنواعها : الألبسة ،الأحذية، الحلويات، سوبر ماركت، دكاكين الحلاقة وعيادات للأطباء. كذلك تجد الباعة المتجولون (الكعك، ،الساعات وعربات الخضار) وغيرها. بعد الانتهاء من الجولة في هذا الشارع تجد نفسك عند مفترق الطريق، في نقطة وصل بين شارع الأوقاف وشارع المطران، النقطة التي تربط الوقف المسلم بالوقف المسيحي ،تحديداً عند مطاحن شحادة.. في الشارع المعروف أيضا بـ”الشاكرية”، “تسيطر” الدكاكين الصغيرة الحجم التي تحدّ كنيسة الروم الكاثوليك من الجانبين وتقابلها. يغلب المظهر القديم تاركا أثرا لرفات “صيدا القديمة” حيث لا تزال وفية لبنائها القديم المحافظ على معالم وذاكرة الماضي. تتنوع المحلات في شارع المطران بين باعة الذهب والأحذية والعطارة، وعربات باعة الفواكه والتمر الهندي و”مصطبة” بائع الجرائد القابعة على بوابة المطرانية.
الوقف في تعريفه اللغوي يعني الحبس والمنع، أما مصطلح الوقف فهو حبس أحد العقارات وغيرها عن تمليكها لأحد من العباد، بل توظّف المنفعة العائدة من هذا الوقف بالتصدق على المعوزين والمحتاجين من والمساعدة في بناء المستشفيات والمدارس وغيرها من أبواب الخير لتحقيق التكافل الاجتماعي بين الجميع.
راعي ابرشية صيدا للطائفة الكاثوليكية في كاتدرائية مار نقولا الاب جهاد فرنسيس يقول: “ان الكنيسة الكاثوليكية اليوم في صيدا تعتبر الاكبر وتمتد الى ضواحي صيدا والشوف، ويرعى الابرشية المطران الياس حداد” . ويرى الاب فرنسيس ان استمر العمل في الكنيسة هو ضمان الامن وصمام امان وتأكيد الحضور والبقاء لرعية الطائفة وللآخرين، بالرغم من قلة عدد الاشخاص المسيحين والذي يعود الى الهجرة القصرية في العام 1985 حيث نحاول اعادتهم بمختلف الوسائل التي تتيح هذه الاعادة من خلال الافراح والاطراح ،فالوجود هو عامل جذب للمغتربين، بخاصة عبر تطوير النشاط الاجتماعي والديني الذي نتشاركه مع المحيط الصيداوي بكافة مفاصل الحياة الصيداوية .
ويتابع الاب فرنيس:” للكنسية حضور مميز في صيدا من خلال الرعية والنشاطات التي نقيمها في المدينة وخارجها ومع الكنائس الاخرى، وهناك مركز للدراسات والحوار المسيحي الاسلامي ومركز للخدمات الاجتماعية ، ومستوصف كاريتاس والكنيسة القديمة في صيدا البلد الذي يتم ترميمها وتشيدها مجدداً كمركز اثري بعد هجرة 1985. ويشير الى ان الكنيسة تشرف على الوقف الكاثوليكي الذي ينتشر في شارع المطران،اضافة الى مدرسة السيدة في مغدوشة ومدرسة “سان نقولا” في عين المير في شرق صيدا،ومركز للمسنيين ،اضافة لمشاريع سكنية يتم بنائها في جوار صيدا وتباع بأسعار زهيدة عن طريق المطرانية لتشجع العائلات من اجل العودة الى المدينة والجوار”.
يتراوح عدد العائلات المسيحية التي تعيش بصيدا بـ150 عائلة حتى اليوم،والجدير بالذكر بان هناك عددا من العائلات الكبيرة المسيحية تعود الى صيدا من خلال اعادة تشيد بيوتها القديمة بطريقة جديدة، ووضعها في خدمة العمل الاجتماعي كمتاحف كمثال آل عودة عندما ساهمت باعادة بناء المصبنة القديمة “مصنع الصابون”في صيدا البلد،وحاليا يعمل آل دبانة على ترميم قصرهم القديم وسط البلد ،وعائلة صيصي التي تعمل على ترميم القصر في صيدا القديمة من اجل افتتاحه كمؤسسة تهتم بالإعمال الحرفية والخدمات الاجتماعية،اضافة الى عائلة فران التي لاتزال تستثمر بالزراعة والحمضيات في صيدا.
أما الوقف المسيحي، فهو واقع في شارع المطران حيث سمي بهذا الإسم لوجود كنيسة الروم الكاثوليك فيه التي بناها المطران. وهذا الشارع المعروف بإسم “الشاكرية” لم يكن موجودا سابقا، بل كان عبارة عن أرض تابعة لعائلة القطب. قبل بناء الكنيسة الموجودة حاليا في هذا الشارع، كانت هناك كنيسة مشتركة للروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك في حي مار نقولا. وعندما ازداد عدد المسيحيين في صيدا بعد النزوح التاريخي عام 1860، لم تعد الكنيسة تتسع لافراد المصلين الذين كانوا ينقسمون إلى مذبحين واحد أرثوذكسي والأخر كاثوليكي. ومع مرور الأيام، أصبح عدد المسيحيين الأرثوذوكس يتضاءل، بينما ازداد عدد الكاثوليك، ما دفع احد المطارنة الذي كان يتمتع بعلاقات مع الدولة العثمانية الى شراء قطعة أرض لبناء الكنيسة الحالية. وقبل بناءها، تم بناء محال أعطيت لمستأجرين من الطائفتين المسيحية والمسلمة. من المحال التي كانت موجودة سابقا في هذا الشارع: خمَارة، محلات البساط للبسكويت والحلويات، مكتبة إبراهيم، البنك الأردني وبنك الكويت( وقد تم دمجهما معا) ، مختبرات لصناعة الأسنان، مكاتب مهندسين وعيادات أطباء، فندق يعقوب، مركز لتعليم اللغة الإيطالية، المكتبة العصرية، كونتوار عودة الذي انطلق من هذا الشارع ليصبح من أهم البنوك في الشرق الاوسط، محل حلويات السنيورة، كاراج الشاكرية، محطة بنزين، ومحلات لصناعة التوابيت المسيحية.
لمحة تاريخية:
يقول استاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية طالب كرة:” لقد أطلق على هذا الشارع اسم المطران لان هذا الإسم لم يكن موجود سابقاً ، بل وجد عندما اسس المطران الكنيسة الكاثوليكية والاوقاف المسيحية، نظرا لوجود دائرة الأوقاف المسيحية فيه، ولكن هذا الشارع لم يكن بهذا الحجم الذي هوعليه اليوم، بل كان عبارة عن ثلاثة أبنية تحدها البساتين التي هي ملك للأوقاف. ويؤكد د. كرة بانه:”عام 1971 أضيف لهذا الشارع أبنية جديدة من جهة الشرق التي تتضمَنها اليوم معظم محلَات شارع الأوقاف منها
الاوقاف المسيحية في صيدا :
يضم شارع المطران ، ثلاثين محالاً تابعين لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك بحسب المحامي بالاستئناف والمسؤول عن وقف الروم الكاثوليك ميشال طعمة وهذه المحلات تعمل وفقا لقانون 16092 يمدد لها بصورة طبيعية كل ثلاثة سنوات، وفي حال حدوث تنازل او خلو لمحل ما او تغيير وجهة الاستعمال تتغير قيمة الايجار،وتكون الزيادة على الايجار كل سنة او ثلاثة سنوات ،وهذه الايجارات تذهب لدفع مصاريف الكنيسة مثل”الصيانة ومساعدة الفقراء عبر تقديم مساعدات اجتماعية (اقساقط المدارس ومساعدات استشفاء وشراء عقارات في جوار صيدا) ،وتسدد الايجارات في مكتب وقف فقراء الروم الكاثوليك في نهاية كل عام حسب العقد المبرم.
ويؤكد الاب جهاد فرنسيس بان المطرانية التي تشتري الاراضي في جوار المدينة تقوم ببناء وحدات سكنية مختلفة وتعمل على بناء مشاريع عامة من اجل خدمة الفقراء المسيحيين والمسلمين،ويشير الى ان ثمن اعادات الايجار حسب الايجارات القديمة يتراوح بين 100مليون و150 مليون ليرة ، ويتراوح عدد المحال مابين 25 الى 30 محال، وبالرغم من كل الحوادث التي مرت فان ريع الايجارات كان ثابت، ولم يحدث أي خلل على هذا الصعيد.
فيما تؤجر المحلات في الشارعين لمدة سنة، ففي كل أخر سنة تستحق إيجارات المحلات التي تمتلكها الأوقاف. ويتعاقب على هذه المحلات مستأجرين ترفع نسبة إيجاراتهم وفقا للعقود بين هؤلاء وإدارة الأوقاف. فقد تغيرت الإيجارات على مر الزمن وفقا لتغير الأوضاع الإقتصادية ولسد حاجات المعوزين.
محمد الرشيدي المستأجر منذ سنة 1958 لمحلين ضمهم سويا ليشكلا محل محمد صالح الرشيدي لبيع اللوحات وما شابه في شارع الأوقاف يقول بأنه يدفع تسعة ملايين ليرة لبنانية سنويا لدائرة الأوقاف الإسلامية، في حين أن الإيجار قديما كان ثلاثة ألاف ليرة لبنانية عن المحلين سويا فقد تغيرت الأوضاع الاقتصادية والعملة عما كانت عليه سابقا.
ويقول محمد كرجية المستأجر لمحل لبيع الإكسسوارات والمناديل النسائية منذ عام 1960 بأنه قد مر زمن طويل على وجوده في ذاك الشارع الذي تتالت التطورات والمتغيرات على المحال وشهد عمران وازدهار في ظل تبدل العيش والمدينة والبلاد بشكل عام.
أما إبراهيم شحادة المستأجر لمطاحن شحادة الواقعة كنقطة فصل بين شارع الأوقاف والشاكرية منذ حوالي الستين عاما، يقول بأن إيجار محله يصل إلى الأربعة والعشرون ملايين ليرة لبنانية سنويا، تدفع للمطرانية الكاثوليكية. فيما يشرح جاره على بعد بضعة محلات في شارع المطران محمد مرجان المستأجر لصيدلية مرجان، كيف ورث عن أبيه هذه الصيدلية التي لطالما كانت موجودة في هذا الشارع وشاهدة على نموه وتغيره منذ العام 1948 والتي يصل إيجارها لثلاثة ملايين ليرة لبنانية سنويا يدفعها للمطرانية.
أما أبو أحمد تباك صاحب المصطبة القابعة على بوابة مطرانية الروم الكاثوليك في شارع المطران يقول بأنه يمارس عمله كبائعا للجرائد اليومية والمجلات منذ أربعين عاما بالإتفاق مع المطرانية.
اما الوقف الماروني في بناية الرهبانية المارونية ، ويضم هذا الوقف المسيحي في المدينة التابع لطائفة الموارنة الكاثوليك المتمثل في بناية الرهبانية في شارع رياض الصلح ، في طوابقه الست مكاتب وعيادات ومحلات للإيجار.
يقول المحامي بالاستئناف جورج فرنسيس وهو وكيل الوقف الماروني الكاثوليكي والمسؤول عن الايجارات بان هذا المبنى، ملك لأربعة اديرة هي :” دير سيدة مشموشة ، دير مار جرجس- الناعمة ،دير مار انطونيوس- النبطية ، ودير المخلص- البرامية ،ويعود ريع الايجارات للإدارات الاربعة والتي تقع تحت مسؤولية الرهبانية اللبنانية المارونية التي تشكل الادارة العامة ،وتوزع الايجارات لكل دير بناءً للحصص، ولكن الادارة العامة لها الحق في تحويل حصة كل دير الى دير اخرحسب الحاجة .فالعائدات بالأساس تخصص لمساعدات المحتاجين والفقراء من المسحيين والمسلمين،ويضيف فرنسيس بان المكاتب والمحلات كانت تؤجر قبل عام 1992 حسب قانون 16292 دائما ويجدد حكما كل سنة اما بعد ذلك فقد اصبح القانون حرا لمدة ثلاثة سنوات فقط ،وتدخل بناية عسيران في وقف الموارنة لكنها الان خالية من المستأجرين بسبب الحاجة للترميم والصيانة.
وهنا ،تقول المراقب الرئيس للأملاك المبنية في دائرة الضرائب فرح عرفة :”يتم التنسيق مع الدولة والأوقاف لجهة الضرائب والرسوم. فالأوقاف معفاة كليا من كل الضرائب،وان القيّم على الوقف يتقدم بطلب لدائرة الضرائب في وزارة المالية حيث يدرس الطلب قبل ان يتم الموافقة عليه ويعفى من الضرائب .
وفي النهاية ، تعتبر الكنائس المسيحية الكاثوليكية في وسط المدينة، والأرثوذكسية في “صيدا القديمة”، والمطرانية المارونية في شارع رياض الصلح، من المعالم التاريخية والجمالية التي تقدم نموذجا حضاريا،ً بالاضافة الى جانب الجوامع القديمة وبعض الاماكن التاريخية التي تدل على مدى الترابط والعلاقات التاريخية بين ابناء المدينة الواحدة التي لم تميز يوما واحدا بين ابنائها المختلفين بالمذاهب، الموحدين بهوية المدينة،وخاصة عندما تتلاقى اصوات قرع اجراس الكنائس وترتفع اصوات الاذان لتجسدا معا جسماً واحد، لقلب صيدا النابض بالحياة عبر تبدلات الزمن .
د.خالد ممدوح العزي