في هذه الايام الخوالد يعزي الشرفاء في العالم انفسهم لرحيل اسطورة السياسة ورمز التسامح والتعايش السلمي بين الشعوب والامم المناضل والرئيس الاسبق لجنوب افريقيا نيلسون مانديلا، الذي ولد في قبيلة الكوسا الافريقية في العام 1918، ووفاه الاجل ليرحل الى مثواه الاخير في الخامس من كانون الاول عام 2013، بعد أن افنى حياته حبيساً يجلد خلف القضبان لمدة 27 عاماً بسبب تصديه لسياسة الفصل العنصري والفقر وعدم المساواة في بلاده، وليطل من جديد على شعبه ومحبيه قمراً منيراً وسراجا وهاجاً رغم سمرته التي جمله الله بها بعد اطلاق سراحه في العام 1990.
عمل نيلسون مانديلا بعد ان اصبح رئيسا لحزب المؤتمر الوطني الافريقي كالمرء الذي يتقدم متشبثا ببطئ في الطين الى الامام، بسبب التراكمات التي خلفها وراءه النظام السابق حيث اشتعلت الحرب الأهلية آنذاك بين ابناء المجتمع الواحد من عرقيات مختلفة، وبدأ صراع الاحزاب يحتدم والتهم الموجهة تلصق بهذا وذاك بحقٍ او بغير حق، واثناء هذه الحقبة الزمنية بدأ مانديلا بالتعاون مع الرئيس دي كليرك يختبر حنكته السياسية ووطنيته العمياء وروحه المتسامحة بلا حدود وانسانيته التي فاقت الوصف ونكران الذات الذي لا يجاريه به احد، متصديا لكل هذه التحديات وقافزا بروح ارادته العازمة تراكمات الماضي برجاحة عقله ونشاطه الفكري ، فركز على تفكيك إرث نظام الفصل العنصري بعد التصدي للعنصرية المؤسساتية ومكافحة الفقر ونشر العدالة والمساواة بين الناس وتعزيز المصالحة العرقية من خلال اشاعة روح التسامح والمحبة بين ابناء الوطن الواحد.
وفي عام الف وتسعمائة واربعة وتسعون، اقام مانديلا انتخابات متعددة الاعراق في البلاد، انتخب على اثرها رئيسا للبلاد، وشكل حكومة وحدة وطنية بهدف امتصاص التوترات العرقية، واسس دستوراً للبلاد شارك في كتابته ممثلون عن جميع العرقيات والاحزاب، وتم التركيز على مسالة المصالحة الوطنية والتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان، واعادة بناء مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والخدمية والقضاء على الفساد الذي كان ينخر في جسد الدولة، حيث عرضت ادارة الرئيس تدابير لتشجيع القطاع الزراعي وتوسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية ومكافحة الفقر. وحضى مانديلا باحترام كافة الرؤساء وشعوبها في العالم، حيث اصبح له دوراً بارزاً في معالجة القضايا الدولية، وتقديم الخدمات للشعب دون مقابل بدافع الذات الوطنية والحس القومي والإنساني التي كان يتمتع بها. وتعبيرا منه بعدم طمعه بكرسي الحكم اوصى حينها بعدم الاتصال به وحثه على الترشيح للانتخابات بدورتها الثانية، فاسحا المجال لنائبه تابو إيمبيكي. وليصبح مانديلا فيما بعد رجل من حكماء الدولة، وتفرغ للعمل الخيري من خلال مؤسسة “نيلسون مانديلا” لمكافحة الفقر وانتشار الإيدز.
ورغم عمله المزدحم ومسؤولياته الجمة ومعناته مع المرض لكنه كان وفياً في رد الجميل الى العرب الذين وقفوا مساندين له في صراع الفصل العنصري من خلال الرسالة التي وجهها الى الثوار العرب بكل تواضع،والتي تعبر عن الم الماساة الذي كان يعتصر ذاته وهو يرى البلدان العربية تتهاوى واحدة تلو الاخرى كالنجوم البيضاء في ليلة سوداء بسبب العنف الطائفي والتعصب الديني والمذهبي والعرقي والحقد الذي اعمى بصيرة كل منهم صوب الاخر ونزعة الثأر والارهاب الذي طغى بل وحجم ودمر كل ما هو جميل وانساني في هذه المجتمعات التي تعتنق الاسلام ديناً حنيفاً متسامحاً، والتي نشرتْ على موقع “سبلة عُمان” الالكتروني، حيث يقول في مطلعها:
“إخوتي في بلاد العُرب …
أعتذر أولاً عن الخوض في شؤونكم الخاصة، وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي التقحم فيه. لكني أحسست أن واجب النصح أولا، والوفاء ثانيا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان علي رد الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتْه الأيامُ وأنضجته السجون، أحبتي ثوار العرب”.
ويشرح مانديلا لاخوانه العرب وخاصة ممن تسلموا مقاليد الحكم في البلدان العربية بعد انتهاء حقبة الدكتاتوريات المقيتة المأساة التي عاشها خلال درب النضال التي لا تقل مأساوية عن ما مر به اخوانه المناضلين العرب ابان الانظمة السابقة ليعكس وطنيته وروح التسامح التي تحلى بها حين اصبح قائداً متحملاً للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه بكل تبعاتها ليخرج بالبلاد والعباد الى بر الامان وليكتب التاريخ سيرته بحروف من نور، قائلاً:
“لا زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوما مشمسا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف عام. خرجت إلى الدنيا بعد وُورِيتُ عنها سبعا وعشرين حِجةً لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد، ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هوكيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟”
ويستطرد المناضل البار نيلسون مانديلا في رسالته معبراً عن احساسه بالمسؤولية الانسانية والسؤال الذي سيطرح عليه من قبل اخوانه العرب، مجيباً في ذات الوقت ومعللاً للاسباب وطارحاً لوجهة نظر حكيمة بالقول:
“أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير، وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي. أو على لغة أحد مفكريكم – حسن الترابي- فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل.”
ويضيف ايضاً: “أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشير بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة.
ذاك أمر خاطئ في نظري. أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن. أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي.
إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتوائهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائيا ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم أن لا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم، وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته. إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة” التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مرة لكنها ناجحة.
أرى أنكم بهذه الطريقة– وأنتم أدرى في النهاية- سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها.
تخيلوا أننا في جنوب إفريقيا ركزنا –كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع القصص النجاح الإنساني اليوم.
ويختتم نيلسون مانديلا رسالته بقول لخاتم الانبياء والرسل محمد (صلاة الله عليه) بالقول: “أتمنى أن تستحضروا قول نبيكم: اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وخير ما نختم به ما تقدم قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.”صدق الله العظيم
الدكتور زاحم محمد الشمري