(رحلة صباح كنجي إلى سومر)
تلقيت هدية ثمينة من الأخ الباحث صباح كنجي، والتي هي كتابه الصادر من: (دار نشر طهران)، الذي يحمل عنوانا ملفتا للنظر: (الإيزيدية محاولة للبحث عن الجذور)، وهذه المحاولة هي (رحلة في أعماق التاريخ)، وهو العنوان الفرعي للكتاب.
نعم، كتاب آخر عن: (الأيزيدية، والأيزيدياتي)، وقد أصبحنا عكازة يتوكأ علينا من يرغب في شيء من الحضور والشهرة من أنصاف الكتاب وأشباه الباحثين، بل حتى بعض الشعراء، والروائيين يحاولون إيجاد موطئ قدم لهم للمشاركة في الدبكة الدائرة على آلامنا، خاصة بعد الفرمان الرابع والسبعون، ومعرفة نقاط ضعفنا الكامنة في الشخصية الهزيلة لأولياء أمورنا.
فهل هذا الكتاب يستحق القراءة؟
وبماذا يختلف عن غيره من الكتب الكثيرة التي تكلمت عن الأيزيدية، والأيزيدياتي؟
والشيء الأهم، ما الذي توصل إليه هذا الباحث دون غيره؟
الكتاب يقع في أربعمائة صفحة، ويتكون من: تسعة فصول، وملحقين، وخلاصة، وبعض الاستنتاجات المثيرة، وبين دفتي الكتاب مجموعة من الصور المهمة.
هذا الكتاب إهداء من الباحث إلى الراحل (جورج حبيب) وقد قال يخاطب روحه:
“كنت ترى النبع من بعيد، تابعنا خطواتك، حتى وصلنا للجذور…”. في إشارة واضحة منه إلى أهمية كتاب الباحث الكبير (اليزيدية بقايا دين قديم) ويستشهد به في أكثر من موضوع، فهل وصل الباحث للجذور فعلا؟
يكفي أن نعلم إنه بدأ العمل بهذا البحث منذ عام (1995) وانتهى منه في عام (2021) لنتيقن بأن الرحلة كانت شاقة ومضنية وكذلك بطيئة، وفي نفس الوقت لا بد إنها كانت مثمرة؛ وإلا لما أستمر بها رغم الإحباطات المتتالية، ويؤكد هذا الأمر في مقدمة الكتاب حيث يقول:
“حينما بدأت البحث في شؤون الأيزيديين، وكتبت أوّل مقال لي عنهم تصورت الكتابة عن الديانة الأيزيدية مهمة سهلة بحكم نشأتي في هذه البيئة.
لكن يوما بعد آخر تغيرت قناعاتي، وجدت نفسي أغوص في بحر عميق لا أسفل له، تلاطمني الأمواج والرياح من كل الجهات. هذا هو بالضبط حال الذي يبحث عن جذور الأيزيدية…”.
الفصل الأول، من الكتاب يحتوي على اهم الآراء حول تسمية (الأيزيدية)، ونسبهم، وهنا يكشف الباحث عن أدواته، وطرقه في البحث حيث يقول:
“…سيكون لنا وقفة مع كل هذه الآراء لنستنبط التسمية الصحيحة في محاولاتنا لاستقراء التاريخ، وفقا لما تسنى لنا من معلومات تعتمد على علم الآثار ومكتشفاته، ومن ثم حفريات اللغة بما فيها لغة الموسيقى، وغيرها من وسائل المعرفة للتدقيق في هذا الموضوع، وسنترك القارئ ليقرر ويستنتج ما يمكن أن يكون الصواب في التسمية…”.
أما الفصل الثاني، فيبحث عن جذور علاقة الأيزيديين بسكان الرافدين القدامى، وذلك بالاستناد إلى: المكتشفات في علم الآثار، وتقارير المنقبين والمؤرخين، وحفريات اللغة، والعادات والطقوس، والمشتركات مع ديانات بلاد الرافدين والمحيط، حيث يؤكد الباحث هنا بأنه:
“…سيبحث عن الصفحات المغيبة لهذا التاريخ، عسى أن يقتنع البعض من المؤرخين بما نأتي به في هذه الأسطر…”.
وفي الفصل الثالث، يتحدث الباحث عن الموسيقى في الديانة الأيزيدية، أما المشتركات في الأساطير والملاحم فهي في الفصل الرابع، وفي الفصل الخامس، يتناول التواجد التاريخي للأيزيديين في سوريا، وفي الفصل السادس، نطلع على العديد من المترادفات اللغوية والميثولوجية المشتركة بين المعتقدات السومرية والأيزيدية، ومن لغة السومريين إلى أبعاد ودلالات لغة أهل بعشيقة وبحزانى في الفصل السابع، وبعدها في الفصل الأخير للباحث وقفة مع الأدب الشفاهي الأيزيدي، ثم هناك ملحقان:
الملحق الأول: يشير إلى العناوين المثيرة لكتاب الباحث وعالم الآثار الكردي (مرشد اليوسف) الذي يبحث عن جذور الديانة الكردية القديمة في كتابه: (دموزي ـ طاؤوس ملك ـ بحث في جذور الديانة الكردية القديمة)، وقد قرأت هذا الكتاب بنفسي وهو مثير، ومهم جدا، ويؤيد ما يحاول أن يذهب إليه الباحث (صباح كنجي) ويمكن الاطلاع على هذا الكتاب في موقع (عفرين).
الملحق الثاني: يتناول دير مار متي الذي يفصح عن تاريخ مغيب للأيزيديين في كتاب للمطران (أسحق ساكا) عنوانه: (تاريخ دير القديس مار متي). الطبعة الثانية، مطبعة خاني، دهوك، 2008.
وفي خلاصة، هذا البحث المهم يذكر الباحث بأن هذه تأملات في الديانة الأيزيدية بدلا عن الخلاصة، وهي ست صفحات من التلخيص المثالي عن (الأيزيدية، والأيزيدياتي) يجيب فيها عن معظم أسئلة من يرغب معرفة شيء عن هذا الشعب وهذه الديانة.
أمّا الاستنتاجات، التي توصل إليها الباحث اعتمادا على جهود فردية تمثلت في التجوال في معظم القرى والبلاد التي كانت تسكنها الأيزيديون، وقراءة كل ما كتب عنهم، وزيارة المتاحف والمكتبات المحلية والعربية والعالمية التي تحتوي على ما يخص الأيزيدية، والمشاهدة الشخصية، أضافة إلى نتائج علم (الفيولوجيا) أي علم النصوص القديمة، فقد لخصها في (15) فقرة، ويؤمد إن الباحث عن جذور الديانة الأيزيدية يحتاج إلى تقصي المزيد من الحقائق عن جذور علاقتها وامتدادها التاريخي والميثولوجي المرتبطة بعهود سومر وبابل وآشور والحضر في بلاد الرافدين.
بعد قراءة هذا الكتاب أزداد يقيني بأن الأيزيدياتي لم يكن يوما امتدادا لأية ديانة أخرى وبالأخص الزرادشتية والميثرائية، بل كانت من الديانات الرافدينية الأولى التي يمكن التعرف على جذورها بسهولة (وخاصة بالنسبة للباحث الأيزيدي) في السومريات، وفي حضارة بابل وآشور والحضر. وقد حافظت على نقاوتها ووجودها اعتمادا على أدبها الديني الشفاهي، وارتباطها بالطبيعة وهذه دعوة للباحثين الجادين من أمثال الأخ الكنجي الاهتمام بدور الطبيعة أكثر في الديانة الأيزيدية.