مصححة لغويا من قبل ثامر معيوف صالحة للنشر فورا
رحلة الاميرة البابلية
” ماريا تريز اسمر ”
1804-1870م
الجزء الاول
في أدب الرحلات تاريخ حي وقصص لها طعم خاص ومواعظ وعبر ، ولنا ولع فيها فنشرت لي دار الكتب العلمية في بيروت رحلة لشيخ عراقي متصوف توفي سنة 1790 م ولقيت قبولا في الاوساط الثقافية ، واليوم اتابع بشدة رحلة قامت بها فتاة من محافظتنا العزيزة نينوى لقبت نفسها بالاميرة البابلية اعتزازا باصولها العراقية وحضارتها البابلية ، واسمها الحقيقي ” ماريا تريز أسمر” توفيت سنة 1870 م في باريس حفيدة الشيخ عبد الله اسمر الذي قالت عنه بان ” جدها كان واسع الثراء حيث امتلك الاراضي والبيوت والاغنام ومزارع إنتاج الحرير والجمال التي بلغ عددها خمسة الاف جمل ” ، وكانت قد كتبت رحلتها في جزأين ونشرتها في اللغة الانكليزية سنة 1844 م في بريطانيا وعدد اوراقها 750 ورقة وجدت محفوظة في احدى مكتبات لندن .
هذه الاميرة من قضاء تلكيف التابع لمحافظة نينوى على بعد 20كم شمال الموصل ، هاجر والدها الى بغداد واستقر فيها ، لكن انتشار وباء الطاعون سنة 1804 جعله يرجع الى الموصل وينزل في خرائب نينوى واتخذ لنفسه خيمة فيها وفي هذه الخيمة والتاريخ ابصرت ماريا النور ، وقبل ان اعثر عن صفحات رحلتها كنت ابحث عن بقايا اسرتها ودارها في تلكيف لعلي اجد اثرا يؤكد اسم هذه الاسرة فاتضح بان اسرتها لا تزال معروفة في تلكيف باسمها القديم ( بيت اسمر ) ، وان معظم افرادها قد هاجر الى الغرب ، ولم يبق منها سوى شخص اسمه ماهر جبوري الياس أسمر وعمته شمامة الياس أسمر ، ويمتلك هذا الشخص معلومات عن ماريا بالتوارث وسألناه عن البيت الذي كانت تسكنه فاشار الى بيت مهدم ( الشكل اعلاه) وهو دار سكن اسرتها ومعروف في تلكيف باسم بيت ” اسمر ” وكان والدها يستقبل فيه ضيوفه فقالت ماريا عنه ” منزل والدي كان ملاذا لكل انسان بئيس ومن أي طائفة وكان يبحث عنهم وعندما يجدهم كان يدعوهم الى هذا البيت ويغسل أقدامهم بيده ويقوم بضيافتهم وبخدمتهم بنفسه ” ، وكانت ماريا تتكلم السريانية والعربية والانكليزية والفرنسية والايطالية والكلدانية ولربما العبرية وتتقن اللهجات المحلية الدارجة عند البدو في العراق ، شملت رحلتها اجزاء مهمة من الاراضي المعمورة فقد سافرت من العراق الى بلاد فارس ثم عادت الى العراق وانطلقت من بغداد بعد وفاة والدها ومنها الى دمشق وبيروت والقدس والقسطنطنية ثم الى ايطاليا والفاتكان وفرنسا واستقرت في بريطانيا وأوصت قبل موتها ان تدفن في تلكيف فتحقق لها ذلك .
المهم في هذه الرحلة انها قدمت نصوص كانت قد دفنت في ظلمات الماضي فأحيتها ماريا ولولاها لغاب عنا الكثير من ملامح الفترة التي عاصرتها ، فقدمت فيها صورة ممتعة جميلة يجد القارئ فيها شوقاً لا حدود له في مواصلة القراءة وقد تفيد المختصين في دراسات التاريخ الحديث اذ قدمت فيها اروع سرد نصي وادبي مؤرخ ومئات من الروايات التي انفردت فيها عن غيرها من الرحالة والجغرافيين والمؤرخين ، فهي تذكر المواضع الخلابة في السهول والجبال والينابيع والشواطئ والانهار والحقول والبساتين والمدن والارياف والعادات والتقاليد والامثال والقصص التي كانت تسمعها اثناء رحلتها ، ودخلت الى بيوتات الباشوات وكبار الامراء والشخصيات والتجار وكشفت عن اسرار هذه البيوتات حتى انها قدمت وصفا لا يمل عن كثير من الاماكن ومنها بيت الباشا في الموصل والقوافل التجارية من بغداد الى دمشق ومعاناة المسافرين واللصوص وقطاع الطرق وكيفية الانذار الذي تتمتع به الجمال قبل حدوث العواصف الترابية اذ ان الجمال تتحسس فتتوقف عن المسير ومن ثم استحمام النساء في حمام دمشق وغيرها الكثير في رحلتها الممتعة وسوف نكتفي عن ما نقلته لنا من ذلك العصر عن مدينتي تلكيف والموصل ولربما نواصل الرحلة في حلقة اخرى عما دونته في دمشق وبقية الاماكن التي زارتها ان كان في العمر بقية .
– مدينة تلكيف :
فقالت عن تلكيف ان اسمها يعني تل السرور([1]) تل وكيف وتربتها خصبة جدا والحنطة تنمو فيها يصل ارتفاعها الى ارتفاع رجل يمتطي حصاناً ويخترق الحقل بدون ان يشاهد من ارتفاع السيقان وبعد حصادها تخزن داخل حفر يبلغ عمقها عشرين قدما وقطرها ثلاثة اقدام وقاعدتها وجدرانها مطلية بالقار الاسود لمنع تسرب الرطوبة اليها ، وتنتج تلكيف انواع الخضار طول نبات الجزر 90 سم وعرضه 20سم والخيار شبيه بالافعى الطويلة وملوي ممكن ان يلف حول الرقبة ، وسعر شراء الخروف بشلنين إنجليزيين والدجاجة بثلاث ( بارات عملة عثمانية ) واغلب زراع تلكيف غالبا ما يتعاملون بالنقود بل يتبادلون سلعة مقابل سلعة ، واشارت الى ان السلاحف في تلكيف توجد بكميات كبيرة وهي محرمة الاكل مثل لحم البغال والحمير بينما اكدت على انها تؤكل في لندن ، وتحدثت عن صناعة الراشي ( الطحينية ) وقالت بان والدها كان يملك مصنعاً في تلكيف لاستخراج الزيت من السمسم واستخدامه في الاكل والاضاءة والطبخ ، وقدرت نفوس مدينة تلكيف 20 الف نسمة ، وقالت ان اطباعهم حامية وحارة وخاصة عند الاهانة اذ تظهر الخناجر وتسل من الاحزمة ، واكدت ان التعليم مهم جدا في تلكيف وكل العوائل تأخذ مسؤولية تعليم اولادها القراءة والكتابة ولا يوجد شخص امي في تلكيف وان اهل تلكيف يولون العناية التامة للعلوم عامة بل وصفتها بأثينا الثانية .
كما قالت ان بيوتاتهم مفتوحة للغريب ولشدة تنافسهم لضيافة الغريب اختلقوا طريقة كي يتجنبوا التخاصم في المنافسة وهي ان اول من يلمس الغريب له الحق في ضيافته ، وكانوا لا يعتبرون الضيافة فضلا او منة بل واجبا عليهم يجب أن يقوموا به وان يتصدر الضيف مائدة الطعام وان يوزع ما يبقى من الطعام على الفقراء ولا يجوز حفظه الى اليوم الثاني ، وتقول ان والدها ” كان كريما الى اقصى حد ويعامل الغريب وكأنه صاحب البيت وكان يشتري العبيد ليعتقهم وخاصة كبار السن والمعدمين .
وتتحدثت عن الاعراس والاحزان في تلكيف والازيدية وعاداتهم وتقالديهم وعن الاراضي المقاربة لتلكيف والتشققات الارضية فيها وبرك تجمع المياه وقالت ان اهل تلكيف يحبذون هواية صيد طيور السماني ( طائر يتميز بوجود ريشة فوق رأسه ) ، وان هذه الهواية تمارس من قبل الرجال والنساء وتقول اثناء عودتنا من الصيد واجهتنا قوة من السلابة فاعطيناهم كل ما نملك حتى الطيور التي صدناها واخذوا خيولنا وبغالنا وحميرنا ، ثم تقول ان اخي وصل الى مشارف تلكيف واخذ يهيل بالرمال وينثرها عاليا وهي علامة يفهمها العامة بوجود خطر فخرج اهل تلكيف وتعقبوا اللصوص واسترجعوا منهم كل المسروقات .
وكانت تخاطب الغرب الاوربي من تلكيف فتقول ” نحن متواضعون وميراثنا أمسى غريبا وبيوتنا صارت للغرباء وأصبحنا يتامى وأمهاتنا ارامل وندفع المال لنرتوي بمياهنا ونشتري حطب ارضنا منهكون لا راحة لنا … ومدننا كانت ساشعة وتنعم بالملايين وبيوتنا كانت عالية الجدران وابراجنا مرتفعة إلا انها ترزح تحت وطأة عويل بنات آوى والضباع … ثم تقول ان الامراء نسوا مخافة الله “، وتعتذر من القارئ بقولها ” وأتمنى أن يعذرني القارئ لأنني تربيت في مجتمع يشجع على فضائل الصدق وألامانة وإلاخلاص بشكل فطري وبسيط الإخلاص والتسليم للإيمان بالله إنها جزء من مخافة الله وهي قمة ما يتصف به أبناء هذا المجتمع أنا احاول بكل جهدي المتواضع لأدافع عن اخلاقيات الرجال الذين أحيانا يتعرضون للسلب وسفك الدماء ومحاطون بمن لا يقيم ولا يحترم حياة إخوتهم في البشرية ” فنقول ما اشبه اليوم بالبارحة .
– الموصل :
ولم تحدثنا عن خطط وبناء الموصل وانما كانت اول فتاة تقوم بفتح مؤسسة تعليمية لتدريس اللغات للنساء في المدينة ، فكانت هي وفتيات معها يدرسن اللغات التركية والفارسية والكردية والكلدانية ويظهر ان هذا المعهد اللغوي جذب الكثير من نساء الطبقات الخاصة وحظيت هي باهتمام اخت الباشا التي زارتها ووجهت لها دعوة بزيارتها في بيت الباشا لتناول طعام العشاء فلبت الدعوة ، وقبل مغادرتها اهتمت باناقتها فلبست بدلة بيضاء اللون مصنوعة من قماش الحرير الشفاف مفتوحة من الامام مع اكمام واسعة تصل الى الركبتين وحزام مطرز بالذهب وسراويل من الحرير القرمزي وحجل من الفضة وبابوج وعمامة من الموسلين مطرزة بالذهب وشال فارسي حسب وصفها ، واثناء وصولها استقبلت من قبل رجل خصي عجوز قادها نحو الاميرة مرورا باربعة ابواب مقفلة كان يفتحها بالمفاتيح ، واخذت هي تصف قصر باشا بالموصل بالقول بان ارضيته واسعة من مرمر ديار بكر الملمع والمجلي ويبدو كمرآة كبيرة افقية وفي وسطه نافورة تنفث الماء بقوة من صنابير بذوق راق ٍ، والسجاد العجمي يغطي الارضية واثناء مسيرها في القصر لاحظت ثلاث عبدات قد انتهين من التنظيف للتو ، ثم استقبلت من قبل اخت الباشا وامطرتها بعبارات المجاملة والترحيب ، ثم تقدمت اليها ثلاث جاريات شقراويات في منتهى الجمال حسب وصفها الاولى تحمل ( اللكن ) اناء صب الماء مصنوع من الفضة والثانية تحمل قارورة لصب الماء في اللكن والثالثة تحمل المناشف واثناء قدومهن كن يركعن امام اخت الباشا ثم جاءت جاريتان بالبخور واخريات يحملن الشربت في اقداح ذهبية ثم قدمت لهن القهوة بدون حليب او سكر وبعد الانتهاء تقدم اليهن ثلاثة من الخصيان بالاراكيل وتقول ” كل هذه الاجواء جعلتنا ننغمر بجو من السعادة وكأننا في حلم شهي ” وخلال نصف ساعة استغرق تدخينهن والجاريات واقفات امامهن وقد عقدن ايديهن دليلاً على الاحترام عرضت عليها اخت الباشا زيارة جناح الحريم الزنانا ، فدخلت الى غرفة زوجة الباشا المفضلة وفيها على السرير خمسة مفارش ( دواشك) من الحرير بالوان مختلفة ومحشوة بريش الطاووس وعدد الغرف ثلاثون غرفة ثم صعدت الى السطح المطل على خرائب نينوى وفيه ثلاث خيم للوقاية من اشعة الشمس بعدها توجهت الى الحديقة ومساحتها حسب تقديرها ثلاثة ارباع الميل المربع بجداول وافلاج من الماء مرصوفة بالمرمر ومزروعة بالزهور .
بعد انقضاء ساعة دخلت الى الصالون وتعرفت على نساء الباشا وعددهن خمس وعشرون امرأةً منهن الجورجيات والقفقاسيات والكرديات وأثناء وجودها دخل الباشا وقام الجميع وقوفا تحية له ، ووصفته ان عمره قارب الاربعين سنة طويل القامة هيئته تدل على منصبه بعيون سوداء لماعة ولحية سوداء تصل حزامه وملابسه باذخة تدلل على رتبته وموقعه واخلاقه المذهبة .
تحدث الباشا معها ربع ساعة ثم أذن المؤذن من منارة قريبة يدعو الى الصلاة فتركهم الباشا ليذهب لاداء الصلاة على ان تقيم النساء صلاة الجماعة في البيت وكانت عندهن قطعة من ملابس النبي محمد عليه الصلاة والسلام يتبركن بها وهي موضوعة في علبة من الذهب .
وبعد ان ادت النساء الصلاة بورع جاء العبيد يعلنون عن تقديم وجبة الغذاء اخذنا طريقنا الى غرفة الطعام التي كانت مفتوحة على الباحة مما يلطف جوها الحار لشهر حزيران فقدمت لنا صينية تحتوي على عشرين صحنا على حامل من الفضة او الصفر قياس قطرها 6 قدم ، والصحون كانت تحتوي على الشوربة من الرز والاعشاب والخضراوات والاخرى من البرغل والدجاج وخروف محشو بالرز وانواع الخضراوات والفستق والزعفران لتعطيه اللون والمذاق ، والطيور المحمرة والقرع المحشي وثلاثة صحون كبيرة جدا من الخضار التي تسمى بامية ، مع اللحم المثروم الملفوف بورق العنب ، والكبة وصحون الكباب وشعر العجوز ( وهي اكلة لذيذة على شكل كرة كبيرة بحجم رأس الانسان شبيهة بقوزي الشام على ما اظن ) .
وبعد انتهاء الوليمة تم تقديم انواع من الحلويات منها من السما وتين جبل سنجار وكانت هذه الحلويات حلوة المذاق ، ثم قدم عصير مكثف من الرمان والليمون الحلو باكواب من الذهب خلال وجبة الطعام كان عدد العبيد الذين يخدموننا 15 عبدا واحد منهم يروح الهواء بمروحة يدوية كبيرة وقسم احضر الماء للاغتسال ثم قدموا النركيلة وانصرفوا .
ثم توجهنا وجلسنا في الطارمة وكانت زوجة الباشا تجلس على سرير عثماني مغطى بقماش الساتان الاصفر يحيط بها العديد من المخدات وكانت هناك اقفاص فيها طيور مغردة صوتها يصدح في ارجاء الحديقة وكانها جنة ارضية وكانت زوجة الباشا تتمتع بغفوة او قيلولة بالقرب منها عبدة شقراء تجلس قرب رأسها تحرك مروحة من ريش الطاووس لترويح الهواء والاخرى كانت تدلك قدميها الصغيرتين البيضاوين والثالثة تترنم لها بلحن وكلمات اغنية تساعدها على النوم ، و بالقرب منها ببغاء مفضل لها اسمه درة ، وكان هذا الببغاء ملقن بآيات من القرآن الكريم ويتقنها بشكل ممتاز وهو مقدس من قبل السلطانة والحاشية في القصر ، وذلك لانه تعرض لحادث اختطاف من قبل طير غريب في السماء فصرخ الببغاء باعلى صوته قائلا ” لا اله الا الله محمد رسول الله ” مما جعله يفلت من الطائر الذي التقطه ، فظلت السلطانة والحاشية يتذكرون موقف الببغاء ومنزلته العالية .
([1]) الدراسات الحديثة تؤكد على ان اسم تلكيف يعني تل الحجارة .