رائحة شيلة أمي وأعمدة الإعدام
كثيرا وحينما أعود من سوح الحرب التي رافقني ملك الموت فيها وهو يحمل النعوش على ظهره، يوزعها إلى من ستـاتي لحظته دون سابق إنذار معلن…اصحو وأنا استمتع بلسعات البق والبرغش الذي يطن وأنا أمدد نفسي على فراشي القاسي مثل حياتي غير أني استمتع بذلك… أمي التي أشم عبق رائحة شيلتها متى ذهبت الى الحرب لتبقى مثل العران في انفي أشمها متى ما اشتد الوطيس… ممزوجة برائحة دخان كرب النخيل وسعفه وهي ( تُجَيم ) التنور بالحطب كي تخبز الخبر الحار وتحضر لي الفطور من لبن الجاموس والزبد والقيمر… عالم آخر يرويه صوت نقيق الضفادع التي تعلن أنها لا زالت على العهد تخرج كي تسبح في عالم سفره ممتد الى أور واكد وآشور… تلك القرى التي قطنت على ضفاف نهر الفرات حتى طوى أيامها رجل التأريخ وزحف الى أن رامها جباشة هنا وهناك مع القصب والزور … تغيرت المعالم تلك إلا من عادات ألفتها اسماك الشبوط والبني والزوري… وحمام الدوح وطيور الخضيري والجواميس العائمة في بطن الهور الجميع يعلن أنتمائه حتى الحشرات… هكذا اعيش أيامي التي تلاصقت صورها في ذهني ، ذبلت ألوانها بعد أن حكموا علي بالإعدام… الغريب ان تهمتي الهروب من المواجهة مع العلم أني لم أهرب يوما قط لكن الآمر هو من طلب منا التراجع لخطة ما في رأسه… غير أنه احتفظ برأسه وطارت رؤوسنا كونه من النخبة القذرة التي جثت بمعايير الخيانة، الفقير والمسكين هو من يدفع ثمن اخطاء الرفاق الكبار والمسنودين…
يكون الصباح غير ذلك الصباح حين أستيقظ بين أهلي، لا أدري اي عالم يحتويني عندما تأتي والدتي وهي ترفع عن وجهي شيلتها التي اعمد رأسي واضم تحتها عبق صور الحياة كلها والعالم الذي اعشق… لا انسى مرة حين ارادت ان توقظني وجدتني كما قالت مبتسما وانا نائم في تلك اللحظة احرجتني فقلت لها سبب تبسمي وانا نائم… اخبرتها الحقيقة عن علاقة الحب بيني وبين نسمة إبنة خالتي، لقد رأيتها في منامي تقبلني خجلا وهي تودعني ثم هربت… اخبرتها عن حبي الوحيد وعن وعدي الى نسمة بأن اتزوجها ما ان تنتهي الحرب… كانت امي تحمل السعادة على رأسها طبق مملوء بالخبز لم تعلم انها ستوزع ذلك الخبز ثوابا على روحي التي تحلق فوق رأسي وهم يقتادوني الى تلك الاعمدة التي مزق رصاص فرقة الإعدام خواصرها فما عادت تستحمل أزيز الرصاص او الدماء التي تُرشق بوجهها… كل الصور التي تسارعت في الإصطفاف بشكل متسارع كأنها تنتظر مني ان افتش عن أحب صورة عندي… دون تفكير أسارع الى صورة رائحة شيلة أمي وهي تكتنف رائحة الكرب والسعف الممزوج برائحة الخبز… لم أنسى قوري الشاي الاسود وهو يقذف من فوهته الدخان ليعلن أنه جاهز للشرب يدخن تبغ ورق الشاي ثم ينفثه مثل دخان الناركيلة… لا ألومه فقد قضى عمره يدخن نفس الشاي المعتق او شاي الكمية التي توزعه الحكومة، لا زلت اتذكر يديها المخشوشنة من كثرة العمل خاصة بعد ان تركنا والدي وذهب حيث اللاعودة….. تركها مكسورة القلب ومسكورة الجناح تعيلني وأخواتي، لم اتوقف عن العمل كي اعطيها فسحة من الراحة لكن الحرب نالت مني ومنها ومن اخواتي اللاتي زوجت نصفهن وبقي النصف الآخر… حِملُ أمي ثقيل أحنى عمرها قبل ظهرها، في كل مرة اعود الى الجبهة لا أجدها حاضرة كي تودعني إنها تكره الوداع هكذا تقول لي…. إلا في الليلة التي يأتي فجر إلتحاقي وجدتها تقرأ ما تعرفه من آيات وأدعية على رأسي، تحصنني بالحصن الحصين ثم تعهدني وديعة عن الإمام الحسين عليه السلام ثم تعمد بعدها وتضيفني وديعة بين يدي الله وآل بيت محمد صلوات الله عليهم، تنخى ابا الحسنين علي عليه السلام بأن يكون الى جواري… استغربت ذلك الفجر حين أحتذيت البسطال ثم خرجت، وجدتها تنتظرني قرب الشختورة وهي تقول لي صباح الخير يمه حميد اليوم نويت اوصلك أنا للمسناية هناك… ما أدري اشو احس ما شبعت من شوفتك يما… كان وقع مفرداتها كالصاعقة.. سارعت الى حضنها وانا أشم عبيرها مثل مدمن لا ينتشي إلا حين يسف راحة التراب وهو مرشوق بالماء… رائحة السماء والملائكة انضوت تحت شيلتها كانت اذرعها تلفني بشكل غريب!! لم اود ان اترك حضنها حتى قالت: يما حميد حبيت ابشرك إن شاء الله من ترجع بإجازتك نويت اخطبلك بنت خالتك نسمة، هم يا الله حتى اشوف وليداتك يلعبون ويتربون بحضني وحضنك…
كادت السعادة ترفعني الى السماء، لم يكن الفضاء يسعني نسمة كنت بالامس معها أطرح أحاسيسي ومشاعري مثل شموع الخضر التي نلقي بها الى النهر وهي تطفو وقت الغروب لتضيء احلام وأمنيات من راموا تحقيق حلم من حي الدارين… لثمت وجهها، نزلت اقبل قدميها ويديها لكنها امسكت بي… تلك اللحظات سارت أمامي وأنا معصوب العينين وهم يقتادوني الى عمود مع بعض صحب شاطروني النعوش.. أما ملك الموت فكان محني الظهر يمسح بردائة الدموع كأنما يرغب بالحديث معي… يخبرني بأن ليس له يد في هذا الأمر إنه أمر سلطان جائر لكنه سيرأف بي ومن معي حين تأتي لحظة إطلاق الرصاص، سيحكي لأمي بطولتي وقلة حيلتي.. سيطرح على نسمة السكينة… توسلت إليه ان لا يلحق بي أمي.. فأنا اعلم أنها ستتمنى ان توافيني إن علمت، توسلت إليه ان يخفف عنها يطلب من الله أن يرأف بها وبمن أحب اخواتي اهلي اصدقائي ونسمة حبيبة العمر، أقسمت على صديق لي بأن يحاول ان يغطيني بشيلة أمي التي احملها معي حين يرمون بي الى بطن الحفرة، فأنا اعلم انه لن يكون لي شاهد قبر حتى تزورني أمي لتسقيني دموع حرقتها ولهفتها و وجعها…
في تلك اللحظة رأيت الحزن مهرجا يستهزأ بالسجان، يتف في وجهه، يُصَفق لمثلي وهو يسدل ستارة المسرح الذي كنت اعيش خشبته، اجسد دوري في الحياة كما غيري، انتهت حياتي ولكن دون جمهور يصفق او هتافات، بل كان صمتا حانقا وهو يرى أيد تجر جثثنا وهي مضرجة بالدم حيث الحفرة، كانت آلية للجيش قد اوغلت عمق حفرها، دفعوا بأجسادنا كما البهائم، تلاطمت وهي تتدحرج دون رحمة… كانت عيناي تنظران الى ذلك الذي اوصيته أن يرمي بشيلة امي على وجهي… سارعت آلية الحفر تهيل التراب، روحي ترفرف تريد ان تَهِيد شعرت كأني انتفض حين رأيت شيلة أمي وهي تطير لتسقط على وجهي حتى وأنا جثة هامدة أرى أمي تخاف علي تغطيني بشيلتها حتى لا يدخل التراب في عيوني او فمي او انفي… شممت رائحة الآه وهي تلوليلي في حضنها ليال كثيرة، شعرت لهفتها، سمعت دقات قلبها عندما تراني أعود الى كنفها، حنانها، دموعها، صبرها، اخواتي وحبيبتي نسمة كلهم كانوا زادي في الطريق الموحش غربة دون نعش.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي