رحاب شنيب
هل يدرك بعضنا زئبقية كلمة التفاهة التي تنزلق على ألسنتنا في مواقف عديدة؟، يمكن أن نصرخ ضمن صراعنا الوجودي قائلين: حياة تافهة، ويمكن بعد قراءة أحد النصوص أن نقول: نص تافه ويندرج ذلك على المسلسلات، الأغاني وغيرها، ويمكن أن يزعجنا أحدهم بتصرفات صبيانية محاولا إدراجها ضمن خفة الدم؛ إلا إننا ننعته أيضا بالتافه أو أن نسمع رأيا لا يعجبنا فنقول عنه تافها دون أدنى تفكير وأحيانا يطرأ في ذهن أحدنا فكرة أن يرقص في الشارع؛ إلا أنه يتراجع واصفا فكرته بالتافهة أو أن تركب فتاة الدراجة في أحد أحيائنا؛ إلا أن المطبات التافهة ستكون أكثر مما نتصور وفي أوقات أخرى ينعت بعضنا حفلة باذخة بالتفاهة، وها هي التفاهة تقابل العبث، الرداءة، السماجة، الدوغمائية والحماقة بمقياس وإحدى ترسانات القيود المجتمعية بمقياس آخر كما تقابل التباهي، لذا يتوجب علينا أن نسأل عن مفهومها، كيف نستطيع أن نقبض عليها؟، ما هي حدودها؟ وهل يمكننا أن نفرق بين التافه وضده؟.
كلمة التفاهة في المعجم والتي مصدرها تفه؛ تعني نقص الإبداع والقيمة ويقال فلان اشتغل بتوافه الأمور، وتفه الولد؛ أي كان غبيا وتفه الطعام؛ أي كان بلا طعم أو ذوق، فكيف سيطرت هذه الكلمة على مستوى خطابنا، تعاملاتنا وانطباعاتنا فهي لم تظل على مستوى نعوت فردية لأشخاص أو أحداث ضيقة بل تعدته إلى كل مناحي حياتنا، يقول الكاتب إدوارد غاليانو “نحن نعيش عصر التفاهة حيث حفل الزفاف أهم من الحب ومراسم الدفن أهم من الميت والملابس أهم من الجسد”، ففي حين ننعت الحفلة الباذخة بالتفاهة إلا إن أغلبنا يركض خلف برستيج يشبهها في إطار ماركات عالمية وموضة تطحن أنفاسنا من أجل الحصول على دقيق الوهم وها نحن أصبحنا طعاما تجتره الرأسمالية الجشعة.
ينبه المفكر نعوم تشومسكي إلى ارتفاع تكاليف الحملات الانتخابية الأمريكية بصورة باذخة وهو الذي أخضع الحزبين الجمهوري والديمقراطي في قبضة هذه الرأسمالية الجشعة, ” هل يمكن أن ندرج ذلك في إطار التفاهة؟”، حيث أوضح في كتابه من يحكم العالم؟؛ أن تكتلات الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية والتجارية الضخمة هي التي تتسيد الآن؛ فهل هناك مبادئ وقيم بإمكانها أن تدير الدفة حيث يصبح لدينا قدرة على تحديد شكل التفاهة؟.
في كتاب اعترافات قرصان اقتصاد لضابط المخابرات الأمريكية والخبير الاقتصادي جون بوكنر كشف عن مؤامرات الشركات الكبرى للتحكم باقتصاد دول العالم الثالث لضمان خضوعها وتقديم التنازلات على كافة الأصعدة، هذه التنازلات التي جعلت من القارة الأفريقية مكب عالمي لنفايات الأجهزة الإلكترونية، ويبقى السؤال؛ ألا تعتبر كل البروباجندا المثارة حول الهجرة غير الشرعية مقابل الصمت المتعمد على تحويل أفريقيا إلى مكب نفايات تفاهة؟.
لذا نجد للإعلام سطوته التي ركزت على شواطئ لامبيدوزا ولم تلتفت عدساتها إلى أكوام النفايات المشعة، و ننتبه إلى أن الإعلام أداة حيث يحدد تشومسكي عشر استراتيجيات للتحكم في الشعوب أولها الإلهاء؛ أي ضخ المعلومات التافهة عبر وسائل الإعلام لمنع الشعوب من فهم الحقائق، إنها اللعبة التي تتحكم في إدارة الرأي العام، هذه اللعبة تدخلت في أضيق زوايا حياتنا؛ نحن الآن رهينة الإعلام بكل بروبانجاداته ودعاياته، نبني أحلامنا على الصور؛ فهو يتحكم في الرغبات والذوق العام وهو ملعب الرأسمالية ومحرك سوقها، إننا مقيدون به في لباسنا وأثاثنا وكل الكماليات التي أصبحت ورمًا تغلغل فينا ولكننا لم نستطع استئصاله بل نخدره بينما أصبح يتضخم مع تطور التواصل عبر الانترنت.
لا يثير القلق صور الموائد الباذخة على وسائل التواصل، بل استنكار وتأفف بعض الفتيات حين تعرض إحداهن مائدة بسيطة في أطباق متواضعة، وهل يخطر ببالك أن تصبح هدايا الأحبة علنية يتداولها الجميع دون أدني خصوصية تهب للهدية مذاقها الخاص؟، ما يحدث هو إعصار يحمل كل مختلف الأفكار والصراعات، الكل يفرز أطماعه السلطوية سواء كانت من مدخل اقتصادي أو سياسي أو ديني، حيث تتعاقد هذه الأطماع ليصبح الفرد رهينتها، هذه الرهينة التي سلبتها التفاهة قدرتها على التفكير.
سلط الفيلسوف آلان دون في كتابه نظام التفاهة الضوء على هذه اللعبة حين وضح كيف أن الإعلام، السياسة، التجارة، الأكاديميات و النقابات هي لعبة يتشارك فيها كل الأطراف، هي دائرة تروسها الشعوب تدور لأجل مصالح من يتسيدون، فالأمر يشبه لعبة الجومانجي، ما إن يزل دماغك حتي تناديك: مرحبا بك في الأدغال وعليك أن تستمر في اللعبة.
هل تساءلنا لماذا لا تستطيع فتاة ركوب الدراجة والتجول بها ببساطة رغم أنه يمكن لفتاة أخرى في بقعة أخرى فعل ذلك؟، كل هذا يندرج ضمن اللعبة؛ شركات كبرى تتحكم في دول، دول تتحكم في شعوب، طوائف ومذاهب، فتاوى مصطنعة، صناعة أبطال مبرمجين، موضة وأزياء، ماركات عالمية، إننا في زجاجة يتم رجها لدمج النصوص التافهة برأس الفكرة، هم لا يسلبون عرق الشعوب وحسب، بل يسلبون الفكرة.