ذكريات معلّقة
د. سوسان جرجس
ما زلت أذكر يا جنى….
كنا، وكان الفقر صاحبنا..عشرة أطفال يلتّفون حول “صينية” الطعام، كي يخيطوا فم الجوع من زاد شحيح حضّرته أمي، صوت جدّتك الحزين ما زال يحفر في أعماق روحي وهي تدندن:
“بقلبي جرح يدبح دبح
ووسط الجرح ماي وملح
رحت الطبيب عساه يطيب
جرحي نزف تحت القطب”
موت أخي وهو في الثانية عشرة من عمره كان جرحًا متقيّحًا، وذكرى استباحت أيّامها مثل سرطان خبيث، حينما كبرت أخبرني أبي بأنّ الحمى سجّلت حينها فوق مسامات جسده رقمًا قياسيًا، بقي يهلوس طوال الليل، وهي تقلب فوق بطنه وجبينه كمّادات مياه باردة، عند الفجر غلبها النوم، ولمّا فتحت عينيها وجَدَتْهُ يحدّق فيها بعينين واسعتين، ووجه مشرق كما البدر، أخذت يديه بين يديها، كانتا باردتين، باردتين جدًّا، أفلتت من فمها صرخة حينما أدركت أنّ ابنها جثة هامدة.
تلك المرأة كانت قوية بما يكفي لتحفظ ابتساماتنا، وتصون رزقنا، وتفجّر مع سبات الأرض دمع أبي المتجمّد في مقلتيه صونًا لهويّة رجولية قد تلوكها ألسن الناس.
غريب هو أمر الهويّة يا جنى، خاصّة تلك الهويّات الأصليّة التي غرست جذورها في أعماق وجودنا كأخطبوط بحري، هوية الرجال في بلادي النائية الغريبة تجد ملامحها في الصراخ والعبوس والعنف والكلمة التي لا تُردّ، أمّا هوية النساء، فآآآآه من تلك الهويّة التي ما فتئت تتكشّف بألف صورة وصورة: أمومة، تضحية، صبر، نكران للذات، تبعية.. لكنّ الصورة التي تجد فيها بعض النساء ملامح هويّتها هو الهوس بالنظافة، تخيّلي! نعم! الهوس بالنظافة والغرق الحميم في مملكة البيوت من بابها حتى محرابها.
هل تدرين يا جنى، كانت جدّتك تستيقظ قبل صياح الديكة، تتنقل في بيتنا الموصّل توصيلاً كأنه قصر ورثته من عائلتها الملكية، تحمل “المعسفة” وتزيل الغبار العالق في زوايا السقوف العالية، تغسل الثياب في “لغن” نحاسي بعد أن تغليها بـ”الحلّة” على النار، تجلي المواعين وتلمّعها بصابون الزيت، تشطف الأرضية وتسقي أصص الحبق والورد والزنبق، ثمّ مع طلوع الفجر يغلي البيت بأصواتنا ومشاجراتنا الطفولية، ونحن نلبس ثياب العمل لنرافق أمّي وأبي نحو التلال المحيطة بالوادي لقطاف الزعتر البرّي والأعشاب العلاجية مثل الزوفا واليانسون والقصعين والخبيزة وغيرها من نباتات تباع في سوق العطّارين في طرابلس.
وذات صباح ربيعي مشرق، كانت الشمس قد جفّفت الندى، وراح شذا النباتات التي نقطفها ينتشر مع الدفء، كنت أتنقّل فوق التلال كأرنب بريّ سعيد بقدوم نيسان، أتسابق مع إخوتي في جنيّ تلك الأعشاب العطرة، نتراشق أحيانا بالحصى في محاولة لقتل الوقت، وهربًا من جرح شمس ملتاعة تئزّ فوق رؤوسنا.
من عمق الوادي، ومن خلف التلال، أسمع صدى أصوات الناس تتناقل الرسائل والطلبات عبر الأثير؛ لا تضحكي يا ابنتي، ففي تلك الأيام لم نكن نعرف الهواتف المحمولة، هو هاتف ثابت واحد في بيت المختار يستخدمه الناس للتواصل مع أقربائهم في بعض نواحي بيروت، نعم يا جنى، أتذكّر جيدًا حينما كانت أمي ترسلني إلى الدكّان لشراء بعض الحاجيات، في الطريق أنسى ما طلبت مني، أقف في مكان مواجه لبيتنا، أنادي جدّتك عدّة مرات، فإن كان حظي طيبًا سمعتني لأسألها:
“شو بدك أشتري من الدكان؟ سكّر أو أرز؟”
وكم ضحكت على نفسي حينما كانت تصرخ غاضبة بأعلى صوتها:
“ولكككك 2 كيلو برغل طبخ خششششششن”.
آآآه يا جنى، ما كان أحلى تلك الأيام، برغم مرارتها، فإنّ فيها حلاوة تسكن روحي، أو ربما هي الحلاوة تسكن ذكرىً فارقتنا حتى وإن كانت ألمًا… الألم! نعم الألم! لقد جعلتني أبتعد عمّا كنت أرويه لك… من عمق الوادي- ونحن نقطف الزعتر ونضعه في شوال، أسمع صدىً ينادي: “أميييييييييييييييييييييييي! أميييييييييييييييي….. أبييييييييييييييي”
قنوط فظيع انسكب فوق صدري وأنا أميّز في النداء صوت أخي جابر.
شعرت أنّ أمي بقيت للحظة أبدية مسمّرة في انحنائها لقطف الأعشاب، لكنّها ما لبثت أن استقامت ومسحت عرق جبينها وهي تنادي:
- “ما هناك يا جاااااااااااااابررررر”.
- تعالواااا بسرررررعة، لا ندري ما حصل لأختيييييي سلوى وزينننننة”!
راحت أمّي تركض متعثّرة بثوبها الطويل وحذائها المهترئ، وحينما أردنا اللحاق بها نهَرنا والدي طالبًا منا متابعة العمل ريثما يعود بعد قليل، راق لي أن أتزعّم مسار إخوتي، العمّال الذين يصغرونني سنًّا، لكنّ جدية العمل التي استمرت بضع ساعات ما لبثت أن تلاشت أمام تعبنا وجوعنا وطول انتظارنا، مع مرور الوقت كانت تراودنا رغبة التخلّي عمّا جمعنا من أعشاب، والعودة إلى القرية لمعرفة ما حصل، لكنّ الخوف من غضب والدي وعقابه لنا جعلنا نتعاون لسحب الشوالات ونقلها تجاه النبع، حيث تنمو أشجار الصفصاف والزيزفون.
تنسكب اللحظات فوق صدورنا مثقّلة بصمتها وغموضها، وقبل أن يزحف الغروب بلونه الكهرماني فوق التلّة، جمعنا الكثير من الزنابق، خبّأنا غلّتنا من الزعتر خلف الأشجار، واتّجهنا نحو الوادي بقلوب عربد فيها الخوف والترقّب. وحده جهاد، الأصغر سنًّا بيننا راح يضرب الحصى بحذائه، ويجدّف على أهلي الذين تركونا بلا طعام طوال النهار، قبيل الوصول إلى بيتنا المتواري تمامًا خلف الكنيسة وغابة المقابر المشرئبة بصلبانها، لاحظت حركة الناس واجمين في ذهاب وإياب نحو بيتنا، حدّقت مليًا، فإذا بوالدي يجلس على مصطبة أمام الدار، يتكئ على مرفقيه واضعًا رأسه بين يديه، محاطًا بأعمامي وأخوالي ورجال آخرين، بِحيرة نتلفّت بحثًا عن أمي، ونفلت من أكفّ ظهرت بغتة لتربّت فوق أكتافنا.
آآآآآه من الذكريات! كيف تتحول أحيانًا إلى لعنة تدبغ وجودنا! في الداخل، نساء، جارات وقريبات، سَدَدْنَ باب غرفة النوم بوجوه تسربلت بالضياع، حشرت نفسي بين الأجساد العابقة برائحة التعب والفقر والأسى والجهل… والبخور، على فراش أرضيّ كان هناك جثمان لطفلتين، توشّح بياضهما بالأزرق الأدكن، يدا كلٍّ منهما مضمومتان الى صدرها، رحت أصرخ وأنا أهزّ أختيّ كي تستفيقا، علا النواح وسقطت مغشيًا عليّ.
عندما بدأت أستعيد وعيّ كان بجانبي امرأتان تتحدثان، قالت الأولى:
- هو سمّ وضعته الأمّ المهووسة على شعر بناتها لتنظيفهم من القمل.
همست الثانية:
- اخرسي… إنّها الكنيسة عاقبتهم بثلاثة أولاد، لأنّهم أخذوا مترًا من أرضها وألحقوه بمنزلهم.
………………………………………………………………………….
كبرنا يا جنى، وكبر الكره في قلبي نحو كنيسة تقتل الأطفال انتقاما لأرضها.