«ذات الشعر الأحمر» استكشاف للعلاقة الصراعية بين الآباء والأبناء
حوا بطواش
* قراءة في رواية «ذات الشعر الأحمر»، أورهان باموق، 2016.
هل الأب هو الأب البيولوجي الذي يختاره لنا القدر، أم هو الأب الذي نختاره نحن؟
في «ذات الشعر الأحمر» يبحث جيم عن بديل للأب الذي اختفى من حياته بعد اعتقاله سياسيا، فتفكّكت العائلة. وكبر جيم وحيدًا في مواجهة الحياة ومجبرًا على العمل عند حفّار آبار، حاول أن يختبر معه مشاعر الأبوة («أنا من عثر على مزايا الأبوة فيه. أما هو فلا هو أبي ولا هو صديقي.») وأن يملأ حاجته لوجود أب في حياته. («هنا لا أحد يستطيع الاستمرار في العيش بلا أب».)
يعود أورهان باموق في هذه الرواية إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث الانقلابات والصراعات الأيديولوجية على الحكم، ويبدأ بسرد بعض التفاصيل عن طفولة جيم، عن أبيه الذي كان يملك صيدلية صغيرة وكان أصدقاؤه (أصدقاء السياسة) يزورونه لكي يتناقشوا فيما بينهم، واعتاد جيم في البيت ألا يذكر لأمّه أي شيء عن هذه الزيارات لأنه يعرف أنها ستغضب وتقلق على أبيه مخافة أن يقع في متاعب بسببهم، وتخشى أن تتكرّر غياباته أو يضطر لتركهم فترة من الزمن.
لكن السياسة وحدها لم تكن سببا رئيسيا للشجار والزعل الصامت بين والديه. كانا متخاصمين لفترة طويلة لا يكلّمان بعضهما البعض. ربما كان الحب قد انطفأ بينهما أو أن لأبيه علاقة أخرى أو علاقات مع نساء أخريات يبادلهن الحب. وكان هو يلمّح أن أمه تغيّرت كثيرا عما كانت عليه من قبل. أصبحت مختلفة تماما. وهذا ما يدفع جيم إلى الحزن، حتى حرّم على نفسه التفكير أو الحديث عن ذلك.
وذات يوم، يختفي والده حين يعود إلى البيت فيظن جيم أنه اعتقل من قبل الشعبة السياسية كما حصل قبلها بثماني سنوات بنفس الطريقة. لكن هذه المرة تعاملت أمه مع الحدث بشكل مختلف. كانت غاضبة عليه.
وباتت أمه تحرص على الحضور إلى الصيدلية لتكون عونا رغم أنها لم تفعل ذلك من قبل حتى حين غاب أبوه في آخر مرة. وهذا ما دفع جيم للتفكير بوجود أسباب أخرى تكمن وراء اختفاء الأب.
قضى أبوه مدة طويلة في غيابه. لم يتّصل بهم حتى نسي جيم شكله ولم يعُد يستطيع استعادة ملامح وجهه.
بعد ذلك، تنتقل أحداث الرواية إلى بلدة أونجوران قرب إسطنبول، حيث يذهب جيم ليعمل مع الأسطى محمود في حفر الآبار، عندما كان في السابعة عشرة من العمر، فيرى جيم فيه صورة الأب الذي يأمر وينهى. إنه كان وسيما مثل أبيه، طويل القامة ولكنه لم يكن هادئا وبشوشا مثله. هو معلّمه وله سلطة عليه. وكان يعلّمه أسرار المهنة. كان يهدف إلى تعليمه ونقل خبرته إليه.
ما أحببته في هذه الرواية هي تلك الأفكار والأسئلة الاستكشافية حول مفهوم الأبوة التي تتجسّد في علاقة جيم بمعلّمه الأسطى محمود، فهو يقارن بين أبيه وبين الأسطى محمود قائلا: «لم يكن أبي يستشيرني في أي أمر قط، ولا يشركني في المسائل الكبيرة ذات الأهمية. تماشيا مع عادة الكتمان والحفاظ على السرية التي اكتسبها من جراء العمل في السياسة. بينما قام الأسطى محمود يطرح أفكاره عليّ قبل أن يتّخذ قراره.»
كان الأسطى محمود يناديه بالسيد الصغير، وهذا كان يغمره بالسعادة ويعتبره دليلا على تقبله إياه لكونه فتى طريّ العود وتأكّد أن معلمه سيشمله برعاية أبوية ويفي بوعده، إذ قطع على نفسه عهدا ألا يسمح له بالنزول إلى البئر وألا يحمله أكثر من طاقته. ولأنه شعر بأنه يشفق عليه ويوليه أقصى اهتمامه كان الأسطى محمود يغضب إذا تأخر في العمل.
كان يشتاق لرؤية أبيه الذي لم يصرخ في وجهه ولم يؤنّبه يوما، لكنه كان غاضبا عليه لأن الحالة التي يعيش فيها كانت بسببه ولهذا يجد نفسه يعمل هناك. بينما الأسطى محمود يهتمّ به ويقصّ عليه القصص قاصدا فيها إعطاءه بعض العِبر وهذا ما لم يكن أبوه يفعله.
وكان الأسطى محمود لا يبخل عليه بالاستفسار عن صحته ويسأله بين الحين والآخر إن كان متعبا أو جائعا.
عندما كان أبوه يؤنبه على تصرف ما، كان يجده محقا، فيشعر بالخجل وينسى الموضوع. أما تأنيب الأسطى محمود فكان يترك في نفسه أثرا بالغا. كان يطيع أوامره، يمتثل لإرادته ويكفّ عما يقوم به، وفي الوقت نفسه كان يغضب عليه.
وتنتهي هذه المرحلة من حياة جيم بحادث يغيّر حياته تماما، يبقى يلاحقه سنوات طويلة ويأبى أن يتركه.
ما يميّز هذه الرواية هو توظيف الأسطورتين اليونانية والفارسية في إظهار العلاقة الصراعية بين الآباء والأبناء:
- أسطورة أوديب اليونانية التي تجسّد فكرة تمرّد الابن على الأب، حيث يُقتل الأب على يد الابن، كما تجسّد فكرة القدر الذي لا فكاك منه. أوديب الذي بطل أنقذ مدينته من وحش مرعب، تختاره النبوءة الأسطورة لحمله على ارتكاب آثام عظيمة فيقتل أباه ويتزوج أمه. ويتجلّى هذا الصراع في العلاقة الإشكالية في علاقة جيم مع أبيه، حيث تنقطع العلاقة بعد دخول الأب في السجن حتى يلتقيا مجدّدا مصادفة وقد كبر في السن وبدأ حياة جديدة.
- أسطورة رستم وسهراب الفارسية التي تجسّد فكرة استبداد الأب، حيث يُقتل الابن على يد الأب، وهي وردت في الشهنامة للفردوسي، الملحمة الفارسية التي تعتبر أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور. رستم هو بطل فارسي ذو قيمة كبرى في تاريخ الدولة السامانية، خرج للصيد وأضاع فرسه وظل يتعقّب أثره إلى أن صار في إمارة تركية على حدود توران. فنزل ضيفا على ملكها وتزوّج خفية من ابنته ثم عاد إلى بلده بعد أن عثر على فرسه، وولد سهراب ثمرة لقائهما.
وكانت توران معادية لبلاد فارس، وعندما كبر سهراب وسأل عن هوية أبيه عرف أنه بطل شجاع من فارس فتحرك نحوها بحثا عنه واعتقد الفرس أنه عدو قادم من توران لمحاربتهم، فحصلت مواجهة بين رستم وسهراب دون أن يعرف أحدهما هوية الآخر، فقُتل سهراب على يد رستم وعرف لحظة احتضاره أنه قتل ابنه بعد فوات الأوان. وأصبحت الأسطورة رمزًا لصراع الآباء مع الأبناء في الثقافة الفارسية.
يقول سهراب إن ذلك كان سخرية القدر التي جاء به إلى فارس للبحث عن أبيه كي يُقتل دون أن يجده.
وتتجسّد هذه الأسطورة في صراع جيم الأب وابنه أنور من ذات الشعر الأحمر التي التقاها مرة واحدة قبل الحادث الذي غيّر مجرى حياته، هربه واختفائه من حياتها.
ويقول جيم عن أنور حين كشف له أنه ابنه: «كان يستفحل في داخلي شيئا فشيئا شعورٌ بخيبة أمل. وقد فهمتُ أنني لن أقوم باحتضانه ولن أهتف: ولدي!»
تبيّن الرواية اختلافا كبيرا في طريقة تفكير الأب جيم وابنه أنور في الآراء والتوجّهات الفكرية، فقد كان الابن أنور متشدّدا ومتصلّبا ولا يسامح جيم على أخطائه.
ويقول جيم عن ذلك: «في داخلي كان ثمة حب على وشك الاخضرار في أي لحظة. لكنني أُصبتُ بخيبة أمل. نعم. ربما كانت تقاسيم وجه الفتى تشبهني. قامته مثل قامتي. ولربما كان يشبهني تماما. لكنني لم أحب شخصيته. من المستحيل أن يكون هذا الفتى ابني. لم تعُد تروق لي صحبته.»
يعتبر أنور أباه جيم ليس مؤمنا وأن ضميره ميّت، رغم أن جيم كان يفكّر كثيرا بأخطائه طوال حياته ويعذّبه ضميره، لكنه لا يقول الكثير لأنور دفاعا عن نفسه، بل يقول: «أنت محق» وينسحب من المكان ومن المناقشة.
أنور لا يعتبر جيم أبا له ولا يملك أي مشاعر تجاهه، فكلامه كلّه يدلّ على غضبه وحقده وسخطه ورغبته في الازعاج والانتقام ويستخدم كل الصفاقة التي يتّصف بها والسذاجة التي عنده بعدائية واضحة وقد تسبّب ذلك في كسر قلب جيم وحتى خوفه منه.
الرواية فيها استكشاف للأفكار حول الآباء والأبناء: الاستبداد والفردية، الدولة والحرية («لا أحد يمكنه العيش من دون أب. فالأب يمتلك السلطة والأبناء يريدون التخلّص منه، فلماذا نشعر بحاجة إليه في الوقت نفسه؟»، «نحن نشعر بحاجة إلى الأب وكذلك نتمرّد عليه، نرغب في قتله، وبعد قتله ندرك الجريمة الكبرى.»)
نحن نهتمّ بالأب لأن هناك حاجة إلى الأب في المجتمعات التقليدية التي تشعر بحاجة إلى الاستبداد ولا تتمتّع بحرّيات كثيرة وتُنفّذ فيها الأعمال بالخضوع والانحناء. فالحاجة إلى الاستبداد وفوضى اليأس تنبع من الخوف من الفوضى. نحن نتمنى أن نؤمن بمنقذ، فنحن نخشى الفوضى وننتخب الأب حتى لو كان سيّئا.