التفكك الاجتماعي
ــــــــــــــــــــــــــــــ من أخطر المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمع هي التفكك الاجتماعي , فهو يضرب لُبُ الثقافة في المجتمع والتي هي القيم والمعايير , والمجتمعات تختفي وتتلاشى بأمرين ألأول عندما تتفتت ثقافتها وتموت أو تُهزمُ بغزوِ ثقافة دخيلة أقوى من ثقافتها , والثاني عندما يُقضى على أفرادها بالحروب فتفنى أو تتشرد بين المجتمعات الأخرى , إن طبيعة الأوضاع التي تُخيِّم على المجتمع العربي بشكل عام ومجتمعنا منه هذا اليوم , ليست نواياها ببعيدةٍ عن صورة كِلا الأمرين , فالقيم والمعايير والقواعد والأعراف عميقة الجذور التي ترسم ثقافة هذا المجتمع العريق نراها اليوم تتعرض لأعاصير هوجاء لاقتلاعها , ذلك يدعوا المثقفين ليبصِّروا الناس بجسامة الخطر الذي يداهم هويتهم بل ووجودهم , لتتوحد القلوب والعقول والأيادي لمواجهة هذا الطوفان وإيقافه , أو على الأقل تهدئة هياجه .
ماهية التفكك الاجتماعي : التفكك الاجتماعي هو درجات من الاضطراب وعدم التوازن وتفوُّق قوى عدم التنظيم على عوامل الاستقرار الاجتماعي , وهو الحالة التي تتناقض فيها الأهداف الاجتماعية مع المقاييس السلوكية التي تساعد على تحقيق تلك الأهداف , مما يخلق اختلالاً في التوازن وتفسخ البنية الاجتماعية منتجاً وضعاً ملائماً لظهور المشكلات الاجتماعية , إذ تفقد العادات ووسائل السيطرة الاجتماعية قدرتها على الاستمرار في أداء وظائفها على الوجه المطلوب أو تفشل المنظمات المؤسسية في تمتين وتعزيز روابط أقسام المؤسسة وعدم تمكنها من السيطرة عليها الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف قدرة المؤسسة في انجاز وظائفها بالشكل المطلوب , والتفكك الاجتماعي هو عدم كفاءة النسق الاجتماعي أو فشله في تحديد مراكز الأفراد وأدوارهم المترابطة بشكل يؤدي إلى بلوغهم أهدافهم بصورة مُرضية , والتفكك الاجتماعي هو تناقص تأثير وفعالية ومضاء القواعد والقيم الاجتماعية على تصرفات الأفراد أي إن القواعد والقيم الاجتماعية التي كانت توجه وتحكم وتنظم تصرفات الأفراد فقدت تأثيرها عليهم الأمر الذي يؤدي بهم إلى الخروج عليها ومخالفتها , وقد يؤدي التفكك إلى تخريب تنظيم وفعالية وتأثير الروابط والعلاقات الأولية القديمة , فالتفاعلات الاجتماعية تقوم بدور أساسي في تنظيم العناصر المكونة للمجتمع , وإذا أخفقت وفشلت في ذلك نتج تفككاً للروابط والعلائق التي تفرضها المؤسسات الاجتماعية وتزعزعاً لأنماط السلوك المعززة لعنصر القسر والإكراه , الأمر الذي يؤدي إلى نشوء فوضى في العلاقات بين الأفراد , والتفكك الاجتماعي يعني عدم التقيُّد بما تفرضه الأنظمة الاجتماعية أو ضعفاً في أدائها لوظائفها فيُصاب الضبط الاجتماعي بالوهن لتضاؤل تأثير الأنظمة الاجتماعية في السلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع , وهو يعني أيضاً انكساراً في نمط من الأنماط الاجتماعية , أو في نظام من النظم التي يقوم عليها المجتمع , أو في قيمة من القيم الأخلاقية التي يحرص عليها المجتمع , فما من دليل إن للناس ضميراً أخلاقياً في أي شيء لا ينبع من القيم والمعايير التي تسود في ثقافتهم , إن عملية التفكك الاجتماعي تستهدف حياة الفرد والجماعة مباشرةً وعلى السواء باعتبارهما وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها فهما وجهان متلازمان لحقيقة واحدة , فقد يفشل المجتمع في السيطرة على سلوك أفراده وتنظيم علاقاتهم الاجتماعية , إذ تضعف أهمية الدين في ضبط السلوك ويضعف إلزام التقاليد والعادات الاجتماعية المهيمنة على شؤون الأسرة والزواج , فتتحلل الآداب والأخلاق والقيم مما يؤدي إلى اختلال توازن التنظيم الجمعي , ويصبح الفرد غير قادر على حماية نفسه من الدوافع الطبيعية التي تنتاب حياته اليومية , ولا يعتبر الفرد منحلاً أو متفكك الخُلق أو السلوك عند هَجرِهِ للمقاييس الاجتماعية في سلوكه وخُلقه فحسب بل يعتبر كذلك إذا كان متذبذباً بين جماعتين لا يدري إلى أيٍ منهما ينحاز , فهكذا شخص يعتبر منحلاً من الناحية الاجتماعية إلى أن يستقر على سلوك محدد , هذه كلها ظواهر تظهر على المجتمع ويراها أفراده أو يتأثرون بها , ولها أسبابها أو هناك متغيرات أحدثتها , ولكن كيف يواجهها المجتمع فهذا هو المهم .
أسباب التفكك الاجتماعي : لما كان التفكك الاجتماعي هو نقيض التماسك والتنظيم الاجتماعي بين علائق الأفراد والوحدات الاجتماعية (أسرة , جماعة اجتماعية , مجتمع محلي , مؤسسة اجتماعية رسمية ) , ولما كان المجتمع الإنساني مبني على أسس منظمة ومتضمناً أدوات ووسائل ضبطية من أجل المحافظة على تماسكه وبقاء تنظيمه فإن أي تحوّل أو تغيير في بناءه أو في أحد مكونات البناء سيؤدي إلى التفكك , وبذلك فلعل أكثر العوامل التي تخلق التفكك الاجتماعي هي الانقلابات والثورات غير الموجهة , خاصة إذا سبَّب ذلك انهياراً في النظم القديمة بصورة مفاجئة وسريعة , فتصاب العلاقات الاجتماعية بين الأفراد أو بين الجماعات أو بين أقسام المؤسسة الاجتماعية بضعف أو وهن , فتنقطع تفاعلاتها وتتباعد صلاتها فتبات روابط ضعيفة عاجزة على جمع العناصر الاجتماعية أو الوحدات الاجتماعية في نسيج محبك , إنَّ وهن العلاقات يرجع إلى ضعف تأثير المعايير الاجتماعية أو الضوابط المؤسسية في استمرار توجهها نحو أهدافها ضمن مقاييسها لكي تربط أعضاء الوحدة الاجتماعية بعضها ببعض , كما إن التغيير السريع يؤدي إلى قيام حالة من التصادم بين القيم وبين المُثل الاجتماعية , أي تصادم بين القيم القديمة والقيم الجديدة أو القيم الأصيلة والقيم المستوردة , إذ لكل جديد مؤيدون ومعارضون , وتكون حصيلة التصادم والتعارض هذا هي حالة التفكك الاجتماعي , والسبب في ذلك يرجع إلى الحيرة التي تنتاب أفراد المجتمع الذي تسوده القيم المتصادمة أو المتناقضة حيث لا يعرفون لأيِّ من القيم يتبعون الجديد منها أم القديم , وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى شيء من القلق والارتباك في تصرفات الأفراد , والذي يؤدي بالتالي إلى تقليل تأثير القيم الاجتماعية القديمة أو الحديثة على حدٍ سواء على سلوك الأفراد , ولكن لابدَّ من القول إنه ليس كل تغيير اجتماعي يحمل الآثار التي ذكرناها , وبنفس الوقت لا يمكننا القول بأن كل تغيير اجتماعي سيؤدي حتماً إلى التفكك الاجتماعي , كما لا يكننا اعتباره بمثابة تقدم للمجتمع , فالتغيير الاجتماعي التدريجي الذي يضم كل شرائح وأفراد المجتمع ويتناول مختلف عناصر الحضارة فيه سوف لن يؤدي إلى حدوث تفكك اجتماعي , على عكس التغيير السريع المفاجئ والذي يتناول فئة دون أخرى من المجتمع ومجالاً دون الآخر فيه ومؤسسات اجتماعية دون غيرها , أي بعبارة أخرى إذا كان التغيير غير متناسق وغير متساوٍ في تأثيره على المجتمع ففي هكذا حالة يحدث التفكك الاجتماعي ويكون نسبياً يختلف باختلاف التغيير الاجتماعي الذي سرعته هي الأخرى تكون نسبية أيضاً , إذن والحالة هذه ما هو معيار التفكك الاجتماعي؟
كيف تتهدد قيم المجتمع : تكون القيم مهددة عند حدوث تناقص تأثير القيم القديمة وإلزامها عند الأفراد وتزايد حوادث الانحراف عن تلك القيم بسبب ضعف تأثير المعايير الاجتماعية في توجيه سلوك الفرد نحو أهدافها , وضعف قدرة المجتمع في إعادة بناء السلوك الرصين ليوجه الأفراد نحو أهداف إنسانية نبيلة فيذوب تماسك المجتمع , فالاتصال المباشر واسع النطاق طويل الأمد نسبياً بين الجماعة المحلية وجماعات أخرى خارجية , يُسبب حالة تفكك اجتماعي بالنسبة للجماعة المحلية , حيث يؤدي هكذا اتصال إلى نشوء مصالح ومنافع جديدة ومواقف شخصية أنانية ونفعية بين أفراد الجماعة المحلية فيزداد حب الفرد للحصول على الملذات الدنيوية وهذا لا يتماشى مع القيم أو المؤسسات الاجتماعية التقليدية القديمة القائمة على أساس إيثار الغير و خدمة مصالح المجموع أو الرابطة الأولية التي ينتمي إليها الفرد , وعندما يعجز التنظيم القديم عن ضبط هذه المصالح والمواقف الشخصية فمعنى ذلك إن وسائل الضبط القديمة تفقد تأثيرها في ضبط سلوك الأفراد , فالفرد الذي كان يحسب حساب الآخرين في تصرفاته حفاظاً على منزلته الاجتماعية لديهم , يصبح لا يبالي بما يقوله الآخرون ولا يُغضِب الجماعة وذلك لفقدان القيم والقواعد تأثيرها على تصرفاته , وهذا أهم أعراض التفكك الاجتماعي , وكتحصيل حاصل فإن التفكك الاجتماعي يتضمن حدوث حالة التفكك الفردي , فالفرد الذي يواجه قيماً جديدة وغريبة لم يكتسبها اكتساباً أكيداً , بعد أن كان قد نبذ القيم القديمة وأصبح فاقداً القدرة على تنظيم حياته تنظيماً نافعاً , الأمر الذي يؤدي به لأن يكون منحلاً لا هدف له بحياته , ولا يبالي بتقدمه أو تأخره , ولا يردعه رادع على إتيان الأعمال التي يخطر له إتيانها آنياً مهما كانت الظروف والأحوال , ومهما جلبت له هذه الأعمال من خير أو شر , فالذي يحدث هو انهيار أو انكسار أو تحلل العلاقات الشخصانية التي تربط الأفراد داخل الجماعات الاجتماعية .
عملية حدوث التفكك الاجتماعي : بدءً وقبل كل شيء علينا أن نقيِّم حالة التنظيم الاجتماعي فهو بدرجات متفاوتة وعلى أساسها تتفاوت درجات التفكك الاجتماعي , يحدث التفكك الاجتماعي عندما يكون هناك تغيير في توازن القوى التي كانت تساند التنظيم وتَغيُّر فعالية قوى الضبط الاجتماعي , كما يحدث التفكك الاجتماعي عندما يتغيَّر البناء الاجتماعي دون تحديد واضح لأدوار الأفراد ومراكزهم , أن التغيير الاجتماعي هو نتيجة من نتائج التغيير الثقافي الذي يؤدي إلى تغيرات عديدة في صوَر التفاعل في المجتمع مما يهيئ الفرصة لظهور قيم جديدة وأهداف جديدة تنعكس بدورها على البناء الاجتماعي الذي بتغيُرهِ يؤدي إلى خلق قيم جديدة أخرى وبذلك تكون الاحتمالات القائمة بأن هذا التغيير يؤدي إلى عدد كبير من أنواع التفكك , فعند تعاقب التجديدات التي تدخل على الثقافة والمجتمع مسرعةً , بحيث لا يتمكن المجتمع من هضمها بسبب العناصر القديمة التي لا تزال على درجة كبيرة من الفاعلية , ونتيجة لازدياد شدة العوامل الضاغطة على المجتمع يحصل التغيير الاجتماعي عن طريق الثورة أو التشريعات التي تتناول القواعد الأساسية للوجود الاجتماعي , ونتيجة لهذه التغيرات السريعة والمفاجئة يحصل التفكك الاجتماعي , والذي قد تطول مدته أو تقصر , ويمكن تقصيرها إذا ما تأنينا في التجديد واتبعنا أسلوب التخطيط المركزي واستفدنا من التجارب السابقة وتجنبنا أسلوب المحاولة والخطأ , في مرحلة التفكك الاجتماعي قد يميل بعض أعضاء المجتمع إلى الاتجاهات السلبية وهذا أمر قد يعطل بلوغ نهاية هذه المرحلة بسرعة , أو قد يؤدي لأن يكون ثمن الخروج منها باهضاً , ولهذا توَجَّب حث الأفراد على المشاركة في تسريع عملية التجديد والقضاء على البيروقراطية وخلق اتجاهات جديدة لمساعدة التخطيط ومساندة التجديدات ومطاردة العناصر القديمة التي تقف في طريق الجديد , عندما يحدث التفكك الاجتماعي يجب أن ينتبه مشرعوا السياسة الاجتماعية إلى ضرورة تغيير قيم المجتمع وتعميم إصلاحاته اليومية وشعاراته الأساسية لتكون بمثابة الحوافز التي تعجل بسد الثغرات , وهذا لن يتأتى إلا بتغيير جذري في وسائل الإعلام والتربية , وفي أنماط القيادة , وفي نواحي الضبط الاجتماعي , وبمعنى آخر يجب خلق أسلوب جديد للحياة , ونظرة مختلفة كلياً عن النظرة التي أوصلت المجتمع إلى حالة التفكك , وليس ببعيد أن يجد العلم مقياساً للتفكك الاجتماعي إذا تمكن من اكتشاف قياس علمي ينظر إلى مدى وضوح الأهداف والمقاييس , أو النظر إلى وجود أو عدم وجود الروابط الاجتماعية القوية بين الأفراد في المجتمع .
كيف نعالج التفكك في مجتمعنا العراقي : إن التفكك الاجتماعي مشكلة سلوكية تترك انعكاساً مادياً كبير الضرر , ومن البديهي إنَّ علاج أي مشكلة اجتماعية ربما يتحقق بإزالة مسبباتها , ومن ثم معالجة تأثيراتها التي وقعت , إن من أبرز أسباب التفكك الاجتماعي في المجتمع العراقي هي إن عملية التغيير التي حدثت كانت مركبة شملت الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية , أضف إلى ذلك كانت عملية متعجلة وتداخلت معها عملية الاحتلال ومقاومة الاحتلال والحرب ألأهلية , فلم يُحكَم التخطيط فيها لكل جوانبها , فالمسببات أخذت بالمجتمع فلا سطوة ولا سبيل لنا عليها , وآثارها هي الأخرى تفاقمت بسبب غياب العلاج المبكر , فلم يبقَ من حلّ إلا معالجة الآثار أو تخفيف وطأتها , إنَّ التفكك الاجتماعي لا يعالج إلا بإصلاح المجتمع , وإصلاح المجتمع ذو التركيبة الفسيفسائية يجب أن تمهد له حملات توعية وتثقيف في كل الأنشطة وعلى كل المستويات ويدرك خلالها كل فرد بالمجتمع إنه إذا كانت الديمقراطية تمنح الأكثرية حق السلطة فهي في نفس الوقت تجبرهم على حماية الأقليات وتأمين حقوقهم كاملة غير منقوصة لكي يُضمن تقبلهم للجديد ومغادرتهم القديم , كما يجب أن يرتكز أي إصلاح للمجتمع على التصالح السياسي الصادق والنزيه وليس تصالحاً شكلياً , ثم يجري التصالح الاجتماعي بدءً بموضوع القيم بأن يتم التوافق على إبقاء أو تعديل أو إعادة إقرار القيم والمعايير والقواعد وتحديد هوية الثقافة العامة وموقع الثقافات الفرعية منها والتوافق على تشريع أعراف للمتغير من القيم لتستعيد قوة الإلزام أهليتها وفاعليتها , ثم تفعيل أهلية عناصر الرباط الاجتماعي الأخرى , كالأدوار الاجتماعية التي تتطلب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب , والاتحادات الاجتماعية التي تجعل الأفراد يحكمهم وعي مشترك وتأثير متبادل وإحساس بالعضوية , فالسلوك الاجتماعي لا يوجد بين البشر إلا داخل الأطر التي تشكلها الاتحادات الاجتماعية , والتفاعل الاجتماعي بآلياته التفاعلية هي التي بواسطتها يصبح الأفراد أجزاء فاعلون في النظام الاجتماعي , ثم تجري المصالحة الاقتصادية بتشريعات عادلة بتوزيع الثروات لتحقق تنمية اجتماعية عادلة , وتدعيم اقتصاد الأسرة اللبنة الأساس في المجتمع والمنتج للفرد أداة البناء , فسلامة الأسرة وتأمين متطلباتها واحتياجاتها بما يحقق طمأنينتها ورفاهيتها وأمنها , كل ذلك يعتبر محورياً ليس بالجانب الاقتصادي فقط إنما ينعكس على الجانب الاجتماعي أيضاً , , وآلية هذه الإصلاحات لا تتم عشوائياً إنما بدراسات ميدانية على يدّ متخصصون لتدعم مقررات جلسات التصالح , ولا يستغرب البعض إذا قلنا إن الإصلاح قد يستغرق بضعة سنين ……. مع الشكر