دينامية الخطاب بين الرؤيا والحلم .. نص “أيقونة الغناء” للشاعر العراقي شلال عنوز
بقلم الناقدة والتشكيلية التونسية خيرة مباركي
الشعر ملكة يبتدعها الشاعر من ذاته بعد مخاض شديد و صراعات ، ليغدو قوة مبدعة تحمل هذه الذات من ضيق العالم إلى الاتساع والرحابة ، فتحلق روح هذا الفنان المبدع في عوالم الخيال صامتة وناطقة ..باكية وضاحكة ..شاكية ومسبحة.. بتهاليل الجمال والحب والأحلام .. وإن أرخى الظلام سدوله وتلحف الواقع بالقتامة ، لترتبط هذه الذات بالحياة .. بالوجود.. وأكثر ارتباطها بالأرض التي تحتضنها ..بعذابات الوطن .. فيعبر عنها وينفذ إلى أعماقها .. إلى دياجيرها يستبطن انفعالاتها ومشاعرها استبطانا صادقا عفويا حينئذ يكون الشعر القوة الحافظة لأخلاقية المبدع في التزامه بهموم الواقع وأوجاع الكائن الإنساني وأحاسيسه بعيدا عن التكلف والتصنع ، وهذا ما نلمسه ونحسه في حقيقة مقاصد قصيدة النثر كنهج تعبيري يستوعب هذا الواقع ويدرك لهيبه حين التمرد على جحيم الفصول .. ولعل الشاعر العراقي شلال عنوز أبرز من برع في هذا النهج التعبيري حين رتل تسابيح الوطن النازف وغنى بلهيب الشعر وهذه الأيقونة نموذج صدح فيها بالحب للوطن وأعلن عن أحلامه ورؤاه ” أيقونة الغناء”
إنها قصيدة أخرى من قصائده التي جعل فيها من هموم الوطن التزاما..ومن عذاباته جسر عبور إلى سماء أبجديته التي نعرج إليها بمعراجه الفني ، هذا الذي أبى إلا أن يكون سبيلا إلى عليائه فنحيا معه ونشقى ..ونأسى على أوتار وطن مهزوم في ذاته ..ونحلم بفجره الجديد حين يسفر الأمل في أعماقه نغما يفتح على المجهول ..تلك هي خصوصية شاعرنا يزجنا قسرا في أحضان إبداعه كهذا المنجز .. وما يستوقفنا في هذا التشكيل الممتد العنوان الذي يجعلنا نستشرف عالم النص ونبحث من خلاله وظيفته الاستباقية .. وقد ورد مركبا إضافيا المضاف فيه مفردة “أيقونة” و جمعها أيقونات وهي في الأصل -كما جاء في المعاجم – صورة القدس عند المسيحيين أو تمثال لشخصية دينية يقصد بها التبرك وهي أيضا علاقة صغيرة من فضة أو ذهب تحفظ فيها ذخيرة من ذخائر القديس وتعلق في العنق عادة ..ولعلنا بهذا الشرح نقف إزاء معنى القيمة والمعيار للشيء الذي يلامس معنى القداسة والتميز أما المضاف إليه “الغناء ” وهو مفرد ومصدر غنى وهو التطريب والترنم بالكلام الموزون وغيره ويكون مصحوبا بالموسيقى وغير مصحوب .. وبهذا الجمع بين المضاف والمضاف إليه قد يحيلنا على هوية أو ماهية هذه الأيقونة، من هنا قد تكون العراق في هذه الإشارة إلى كلمة “ضفاف” ، قد توحي بضفاف نهري دجلة والفرات :
ليزدهر شذى الربيع
بساتين فرح
على ضفاف أيقونة الغناء
وقد تكون صورة للحياة الجديدة وللحرية التي بشر بها أبيقروس ..أو لعلها القصيدة إذا ما ارتبط الغناء بمعنى الترتيل والتلاوة فتصبح بذلك أنشودة الأناشيد وتراتيل عازف ناي تبتل بالعشق وسبح للحب ، لترتبط بذلك الغنائية الفردية بمشاعر الوطن والإنسان .. أما المتن فهو نسيج نصي يخبر عن هذا العنوان ، وقد حافظ على خصوصيته في تناول الواقع ومحاكاته وما يجلب الانتباه قيامه على ثنائية الرؤيا والحلم تتعاقبان في شبه دينامية تنطلق من رؤيا الواقع إلى الانفتاح على الحلم ، مما يجعل الخطاب الشعري برمته في هذا المنجز النصي قائما على أساس صورة كبرى أو مشهد متكامل يتشكل من هذه الدينامية .. وأول مظاهره ما اتصل بالتمظهر البصري على فضاء الصفحة ، فتتراءى من خلاله لهفة في إخراج طاقة كلامية تتصل بدفقة شعورية جعل السواد يسيطر على مساحة البياض لكنه يتراجع في آخر هذا النسيج. .فيحتشد الكلام في أكثر مواقع القول الشعري ليغدو هذا السواد غيمة تجثو على نفسه المضمخة بأرزاء الواقع وانتكاساته مما يولد إيقاعا بصريا متغيرا من الكثافة إلى الفراغ ، ومن بلاغة القول إلى بلاغة الصمت .. كما تظهر هذه الدينامية على مستوى التركيب والأسلوب ليكون التحول من سرد الأحوال الذي تركز على أفعال في صيغة المضارع تنبئ باستمرارية الحالة في الواقع وهو سرد متواقت ومتزامن وزمن لحظة المحاكاة لينكشف هذا الواقع أمامه كئيبا أجهضت أحلامه وتوالت انكساراته وفواجعه فيعيد قراءة تاريخه وفي كل مرة يزداد صوته تهدجا وتزداد رؤياه حلكة فيستغرق في تأمله كل ذلك من شأنه أن يولد إيقاعا متغيرا ويجعل من القصيدة كيانا ذا أجواء موسيقية مختلفة …يتلو فيه ضرام الورم .. هو ورم نازف بأسن الطائفية وايديولوجيات الاعتقاد ..تحول الدين إلى أفيون فعلي وسيف تناحر وجهل :
نتلو ضرام الورم إذ ينسخ الشقاق مقدس البيان
سفر الجهل بقري يشوه أبصار الحقيقة
صيب البلاء يرسل صواعق برق الخلاف
والدجالون يتيممون بملح تراب الفتنة
ليصلوا معصوبي الأعين يبشرون بالرجز السماوي
الذي يحرق أمنيات الغبش
ولا يكتفي بعرض هذا الواقع بل يبرز موقفه الرافض منه عبر لغة شعرية موحية وسجلات قول تدل على حالة الزفير والنفير…هو الغضب والثورة اللذان يعصفان بذات واعية بخطر محدق بالأمة والوطن..لأن الصراع السائد يتحول إلى مجانيق تقذف صواعق هدامة ..تثير الموت في كل مكان وتحرق أمنيات العيش .. وهذا الرفض يعبر عنه سجل لغوي دال عليه (الجهل..بقري..شوه ..الغيم الهمجي معصوبي الأعين..الشياطين…. ) وما يستوقفا هنا صورة شعرية ذات مرجعية دينية لعل في ذلك إشارة لثقافة “بقرية” تذكر بقصة موسى وشعبه عندما أمر الله اليهود بأن يذبحوا بقرة وعوض التنفيذ المباشر للأمر كي يكفيهم العذاب أخذوا يستفسرون عن لونها.. قد نلمس نفسا ساخرا فيه تعريض ينبئ بالرفض والتبرم .. وهذا من شأنه أن يكشف موقفا ضمنيا من الواقع.. فأزمة الوطن هي أزمة وعي.. بات فيه هذا الوطن موكول إلى الجهلة والدجالين الذين يرفلون في الخطيئة معصوبي الأعين.. يشوهون سحر الوجود وينثرون الأسى في رباه.. إنه واقع مأزوم لا ينتج إلا العقم ..واقع صاغه أبناء الظلمة وخفافيش الظلال، تتناسل من رحمه الكراهية والخلافات يبشرون بالرجس السماوي الذي يحرق كل الأمنيات..هو اغتيال الأحلام بسنة التكفير .. هنا نلحظ كثافة دينية تشي بوزر الموجود ينمو في حقل غضب وتمرد.. فيصدح بأوزار عراق عريق أنهكته الحروب وشرذمته الطوائف :
يتفاقم ويل السماء في معراج غليان القصاص
ويعلن الغيم الهمجي تناسل شفار الموت
يتشقق جدار التسبيح بصيحات ترعب زغب الملائكة
فيرتبك دوران الزمن على قرن الثور
عند حافة هذيان برك الخرافة
الجثامين تتكاثر بالواسطة
وهذا التوغل في رصد الواقع إنما مرده إلى محاولة التحرر من قبضته التي تؤرق الشاعر وتفسد عليه حياته بمرارة وشجن .. بهذا يغدو الخطاب رثاء للوطن المهزوم الذي يستباح دمه النازف من النخيل ندركها من خلال صورة شعرية تتجذر في عمق الأسطورة تعبر عن ما آل إليه الوضع في الوطن بسبب الغيم الهمجي والجهل القابع في النفوس لعله هوس السلطة أشار إليها بصورة الثور في الأسطورة اليونانية الذي يحمل الأرض على قرنه وعندما يتعب يحملها على قرنه الُثاني فتحدث الزلازل والكوارث .. إنه توصيف ذكي وطريف للواقع أو قل هو اختزال واع ومدروس لوضع سياسي مثل فيه التحول نقمة وانكسارا للأحلام واستفاقة على تاريخ عاصف مدمر تتناسل فيه الكراهية وتتكاثر الجثامين وتطفو ثقافة الموت ، وما تعب الثور في الأسطورة إلا تعبيرا عن الرغبة في التغيير والثورة على الموجود وقرنه الأول والثاني إنما هما رمزان لتعاقب الزمن والمرحلتان السياسيتان اللتان شهدهما العراق وعاشهما الشاعر في ظل هذا الوطن .. ولكنه يواصل تأمل الواقع ويستغرق في ذلك ولكنه يفر من ظلام الرؤيا إلى ضوء الحلم…
فهذه القتامة لم تثنه عن أحلامه وعن بسمة الفجر البعيد .. فيتنفس الوجود بأبجديته ويحتشد البياض بنوره حين يتحول القول من الكشف عن أدران الموجود إلى استشراف واقع جديد تظهره شخصية يخلقها من صميم هذا النسيج ..هو عازف الناي .. فيتحول السياق من الإخبار عن الوضع عبر الرؤيا إلى خطاب قائم على أساس انفعالي ، ناشئ من أسلوب إنشائي متواتر ، يوحي بمعنى الطلب في صيغة أمر تنطوي على الكثير من النصح والإرشاد أو الدعوة الصريحة للتغيير :
في ذروة قلق اللهيب …..
عازف ناي المجرات قال لي :
تبتل حبا ؟
…. سكينة ؟
السماء صلوات
حيثما الدروب رقاد
الحب يمسح ندوب التجني
ارم أسمال تشرذم الفرقة
وامسح جراح الوطن
في سراديب وجعك المزمن ؟
قد يكون هذا العازف عازفا يعزف لحن الخلود ..صوت العالم الأبدي ..أو هاتف من أعماق الضمير و رسول وحي نازل من السماء ..وهنا تنبجس لنا نبرة رومانسية تجعل الشاعر بمثابة النبي المبشر ، وما ينفثه من شعر إنما هو وحي يعلم البشرية أصول الحياة الحق وينتشلهم من الضلالات ..أو لعله النور الذي يقذفه الله في الصدر أسوة بالمتصوفة . حينئذ يكون صوت الحق يناجيه و اشراقة الوجد تناغيه والتحرر يناديه …كي ينهض عن عفن الموجود الموءود ويعانق الجوهر وهذا مايظهره المعجم الصوفي في خطاب العازف (السماء ..صلوات الدروب ..الحب ..أمسح ..حكمة المدكر ..عانق صحوة العشق …) أو لعله صوت “أبيقوري” يتناثر مع حمائم الأصيل ليعلو الغناء صافيا في سياق من الشجن العميق مفعم بالتفاؤل …بهذا يتحول هذا الطيف السماوي أو العاشق المتصوف أو هذا الفيلسوف الحكيم إلى رمز في أعين الحالمين لتنفتح القصيدة برمزيتها وشعريتها المتخيلة على عديد التيارات الفكرية والفلسفات .. بل لعلها جماع لها صاغها من ذاته وكأننا به ينعي أمة مدحورة معشوشة يرتقها بنزيف أبجديته فداء للوطن فيفتح بذلك بوابة جديدة في أعماق الضمير لينبلج النور من الظلمة .. فإذا هو من الأرض والسماء جميعا في تعب أو قيامة..فيستوي الواقع خلقا تملأ أعطافه الحياة كأنه طائر الفينق يبعث من رماده …هي قيامة تفر فيها العراق من صمتها وتُرفَع فيها الصلوات فوق كل عرشة نخيل وحبة رمل ترتلها ملائكة من لهب وتشرق الشهب في الأصائل ..في الشفق البعيد ..مكبرة باسم العراق حين ينهض أبيقورس من سباته وينفض عنه ما علق بحكمته الموءودة ليعانق صحوة العشق في عنفوان بتباريح المساء ويزدهر شذى الربيع وبساتين الفرح فتتفتح على أنغامه أيقونة الغناء وتلثم نشوة الفجر الجديد .. هو الحب …الحكمة في الحب . هكذا حدث أبيقورس في مسح ندوب التجني ورمي أسمال تشرذم الفُرقة …لعلها جراح الوطن النازفة ..يعلنها عبر صور ولغة تقرب إلى المنطوق وتفارقه..بين الشدة والرخاوة موقعها خرجت عن فتنة البلاغة وغموض الرمز لتتربع بينهما..فيستخدم لغة واقعية لكنه يجردها من دلالاتها القديمة ويمنحها دلالات جديدة …تتحول بها إلى لغة ذهنية …لعله ضرب من الانثيال الانفعالي الرومنسي على ذهنية بديعية مستحدثة ترتبط بدينامية تتصل بحركة تنازلية من الغضب إلى التمهل . ومن الواقع إلى الحلم ..ومن الرؤيا إلى الرؤية ..مما يجعل من هذا الخطاب رحيلا وسفرا في أعماق ذات تنزف وتعلن عن نزيفها المتواصل وتعرج عن الواقع الآسن لتنشئ كونا شعريا حالما شبيها بأكوان الرومانسيين ..صوته كصدى غيب بعيد يلذعه الألم فيأكل من حروفه حنظلا ونارا تضطرم..معانيها تنزف مرارة ، وتختزل معاناة جمع في فرد .. وفرد يفتح على الجمع .. الكل هو.. وهو الكل . وطن على السكين يرقص وعدو تعطيه الخطيئة من شهي ثمارها وبينهما شاعر يترنم و إنسان يتألم على أنغام أيقونة غنائه…
النص:
أيقونة الغناء
…….نص / شلال عنوز
نتلوا ضرام الورم اذ ينسخ الشِّقاق مُقدَّس البيان !
سِفر الجّهل بقريٌّ يُشوّه أبصار الحقيقة
صَيّب البلاء يرسل صواعق برق الخِلاف
والدّجّالون يتيَمّمون بملح تراب الفتنة
ليُصلّوا معصوبي الأعيُن يبشّرون بالرِّجز السّماوي
الذي يحرق أُمنيات الغبش
ينامون على أسرّة مَسخ القلوب
حيث يُسبت رهان النُّشوز
ولايقولون الّا أمانيّ لفّقتها عاصفة عمياء
يتفاقم ويل السّماء في مِعراج غليان القصاص
ويُعلن الغيم الهمجيّ تناسل شِفار الموت
يتشقّق جدار التّسبيح بصيحات تُرعب زُغب الملائكة
فيرتبك دوران الزّمن على قَرن الثّور
عند حافة هذيان بِرك الخرافة
الجثامين تتكاثر بالواسطة
ونساء مُجاهدي التكفير يلدنَ بالمراسلة بلا جُماع
بفتاوى يسيّرها التّكبير المُوجّه لاجتثاث أعراس الحدائق
كي تتباهى الامة بمقاتلين مجهولي النّسب
الشّياطين وساسة الضّلال يتعملقون على شُرفات المَجاهيل
كي يسودالتشتّت….
وتنطلق رايات السبي باستباحة رحيق الطّلع
حيث تنتحر فراشات الظهيرة عند بوّابات الهجير
وتحترق القصائد معلنة رحلة تعب المعنى
في ذروة قلق الّلهيب …..
عازف ناي المجرّات قال لي :
تبتّل حُبّاً ؟
….سكينةً ؟
السّماء صلوات
حيثما الدّروب رُقاد
الحبّ يمسح نُدوب التجنّي
ارمِ أسمال تشرذم الفُرقة
وامسح جراح الوطن
في سراديب وجعك المزمن ؟
ظِلُّ (أبيقوروس) مازال يتناثر مع حمائم الأصيل حكمة للمدّكر
عانق صحوة العشق في عنفوان تباريح المساء ؟
ليزدهر شذى الرّبيع
بساتين فرح
على ضفاف أيقونة الغناء