سمير عادل
الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكي لا تقوم هذه المتضادات ، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضا والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود “النظام”. أن هذه القوة المنبثقة من المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة. (انجلز-أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة).
هل يمكن اعتبار ألمانيا وأمريكا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا “دول فاشلة” ؟، لتنظم إلى قائمة الدول الفاشلة مثل العراق وسورية وليبيا..الخ. ــ جاء استخدام مقولة “الدول الفاشلة” من قبل الكاتب اليساري الأمريكي نعوم تشو مسكي والتي كانت أيضا عنوان لكتاب من تأليفه ــ والتي تعني تلك الدول التي ليس بمقدورها حماية مواطنيها. وإذا ما صحت هذه المقولة أو المنطق الذي ورائها فإن تلك الدولة تعد فاشلة بامتياز لأنها لم تحم مواطنيها من الإصابة بوباء كورونا أو من الموت الذي طال آلاف منهم.
أن تفشي وباء فيروس كورونا على الصعيد العالمي، وفشل الدول وخاصة الغربية منها بالتصدي له، وتحوله إلى أزمة عالمية تعصف بمصير البشرية، يميط اللثام من جديد عن دور “الدولة” ووظيفتها الاجتماعية والسياسية تجاه المجتمع.
أن حقانية الجماهير بالمطالبة بالعيش الكريم والرفاه، حقانية تحمل الدولة مسؤوليتها تجاه المجتمع، وهي لا تنبع من فضاءات مثالية أو من أوهام توجد في ذهن نخبة محددة من البشر مسلحين بأيديولوجية معينة. إنما هي حقانية نابعة من المعطِيات المادية والواقعية التي صنعتها البشرية من ثمار عملها المنتج وسعيها المتواصل من اجل تحقيق المساواة. وهذا ما يجب أن تعيه بالدرجة الأولى الطبقة العاملة وكل الأقسام المحرومة الملتفة حولها كي تدرك أهمية نضالها والتحول من خندقها الدفاعي إلى الهجومي. أن هذه الحقانية هي من تقوي عزيمة الطبقة العاملة وعموم البشرية التواقة للمساواة والحرية والأمان الصحي والاقتصادي والأمني من اجل مواصلة سعيها لوضع حد لتطاولات النظام الرأسمالي على مصير الإنسانية.
إن البرجوازية وبشكل ذكي وعبر مأجوريها من الأقلام، تٌحَمّلَ المجتمع والجماهير المحرومة مِنَّةً، عندما تتحرك أثناء أزمة ما، وتقدم عمل ما إلى المجتمع مثل معالجة تداعيات الكوارث الطبيعية على سبيل المثال، وان كانت ليس صورة مثالية، هذا إذا لم نقل أنها تتنصل من تلك المعالجات أصلاً، مثلما حدث في عام ٢٠٠٤ تسونامي التي ضربت دول جنوب أشرق آسيا أو المحيط الهندي أو مع إعصار كاترينا في ولاية لويزانا الأمريكية عام ٢٠٠٥ -كتاب-نعومي كلاين-عقيدة الصدمة- ، علما أن الخدمات التي تقدمها البرجوازية عبر دولتها هي خدمات الدفع المسبق مثل كارتات الدفع المسبق لخطوط الموبايلات أو الهواتف الجوالة. اي أن إمكانات الدولة وجهازها البيروقراطي والخدمات التي تقدمها، تمول مرتين من قبل الطبقة العاملة والأقسام الأخرى في المجتمع، مرة عن طريق فائض قيمة عمل العمال ومرة من الضرائب المستحصلة من جميع أقسام المجتمع التي تشمل العمال أيضا. والأدهى من كل ذلك أن المجتمع يدفع بشكل إجباري معاشات جهاز قمعه عند اندلاع أية حركة احتجاجية ضد قرارات الغبن التي ترتكب بحقه.
أن موضوعة انتشار مرض كورونا هو مظهر من مظاهر أزمات النظام الرأسمالي العالمي، وبوجوده طُرِحت من جديد ملفات وقضايا وأعيد فتحها ، بعد أن وضعت جانبا بشكل مقصود لردح من الزمن، من قبل مفكري ومفسري واقتصادي النظام الرأسمالي، الذين كانوا يعتقدون بأنها أصبحت من القضايا المسلمة بها، مثل“وظيفة الدولة” و”الاقتصاد الحر” و”شرعية وجود النظام الرأسمالي” و”الديمقراطية” ومفاهيم “حقوق الإنسان” و”الحمائية” و”الفرد”.. وأنهم قد تخلصوا من صداع الرأس في خضم الصراع بينهم وبين المدافعين عن عالم أفضل، عالم المساواة، عالم يمكن أن يعيش فيه الإنسان بعيداً عن الاستغلال والاغتراب بكل ما تعنيه هذه الكلمة، عالم يتمتع فيه الإنسان بنتاج عمله ويمارس ما يختاره وبما يتطابق مع ميوله الفكرية والعاطفية ويشبع حاجاته المادية كما يعلمنا ماركس.
وهنا نرى أنه كلما هزت النظام الرأسمالي أزمة ما، أعيد فتح تلك المواضيع لتقض مضاجعهم وتجعلهم يعيدون حساباتهم السياسية من أجل ترتيب أوراقهم الفكرية وتغيير كلمات السر مثلما يتم تغيير كلمات سر الكمبيوترات وشبكات التواصل الاجتماعي والايميلات الشخصية تحسبا من الطفيليين الخارجيين، كل تلك المساعي من اجل الحفاظ على سكون المجتمع والحيلولة دون التحرك الجماهيري لهتك كل المسلمات التي وقفت عائقا فكريا وسياسيا أمام التغيير الجذري.
اليوم تطرح من جديد موضوعة دور “الدولة” كما طرحت في الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنظام الرأسمالي العالم عام ٢٠٠٨. ويلاحظ أن هناك نظريتين مهمتين بالنسبة لاقتصاديّ النظام الرأسمالي، وهما المدرسة الكينزية التي توصي بإفساح المجال لتدخل الدولة في إدارة الاقتصاد والعمل على الإنفاق العام كي يكون بالنتيجة دعم القطاع الخاص والسيطرة على الأزمات الدورية التي تعصف بالنظام الرأسمالي، والنظرية الثانية التي سميت بالكلاسيكية والتي أساسها ادم سمث واعتمدت عليها مدرسة شيكاغو التي شرعت بوضع الأسس لليبرالية الجديدة، ومفادها تجريد الدولة من كل مسؤولياتها تجاه المجتمع على صعيد الصحة والخدمات والتعليم. والمفارقة أن مساعي كل منظري الفكر الاقتصادي والسياسي البرجوازي كانت تصب في إنقاذ النظام الرأسمالي من أزماته والحيلولة دون انفجار التناقضات الطبقية فيه.
وبغض النظر عن المحتوى الطبقي للدولة وماهيتها، فأن الدولة وفي مراحل تاريخية من تطور النظام الرأسمالي العالمي، أخذت تلعب ادوار مختلفة لتنظيم المجتمع والسيطرة على التناقضات الناجمة في نفس النظام المذكور. ويصور مفكري البرجوازية بأن الدولة كما يقول لنا انجلز أنها فوق المجتمع ومحايدة وتلعب دور الوسيط والمنظم للمجتمع. وعلى الرغم من أن هذا التعريف بدور الدولة يعد مغرضاً ومخادعاً، إلا أن إثباته للمجتمع ليس سهلا في الأوضاع الطبيعية، أي أوضاع السكون أو الرخاء الاقتصادي أو الاستقرار السياسي. فالدولة كانت دائماً وأبداً أداة لصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا، وفي عالمنا المعاصر، هذه الطبقة هي البرجوازية التي سنرى لاحقاً كيف تحرك آلة الدولة لمصالحها وحسب الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي. وتظهر الدولة التي تمتص جزء كبير من الميزانيات الحكومية، تارة بأنها تعمل لصالح المواطن حسب توازن القوى وصراع الطبقات في المجتمع، وتارة أخرى تكشر عن أنيابها وتغرسها في كل من يتطاول على الإجراءات المؤلمة التي تقوم بها البرجوازية مثلما حدث في عقد الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم في تشيلي والبرازيل واندونيسيا والصين والفلبين وجنوب إفريقيا وروسيا وبولندا والأرجنتين…الخ عبر فرض السياسة الاقتصادية لليبرالية الجديدة أو الاقتصاد الحر وتحرير الأسواق وتنصل الدولة من جميع مسؤولياتها في المجتمع كما يحدث اليوم في العراق، وقد سلطت الكاتبة الكندية نعومي كلاين الضوء على تجارب البلدان آنفة الذكر بشكل واضح في كتابها “عقيدة الصدمة”.
اليوم يظهر دور الدولة بشكل متردد بالتصدي لازمة كورونا في جميع بلدان العالم. فالدولة كجهاز فرض الإذعان والخضوع عبر مؤسساتها القمعية مثل الجيش والشرطة والقضاء أو عبر مؤسساتها التشريعية والسياسية هي الوحيدة القادرة على الرد على أية أزمة تعصف بالمجتمع البشري. ولكن لم تكن “الدولة” محايدة يوما ما، فهي اليوم تظهر وبانحياز كامل لصالح البرجوازية وإنقاذ نظامها الاقتصادي على حساب الجموع الغفيرة من البشرية التي يقتنصهم فيروس كورونا.
في العدد الجديد من مجلة “لانست” الطبية البريطانية وهي من أكثر الإصدارات الطبية رقياًّ في بريطانيا، انتقدت افتتاحيتها دور الحكومة البريطانية بالتصدي لمرض كورونا، واتهمتها بالتقصير والتنصل من المسؤولية، وأنها هي سبب انتشار الفيروس في بريطانيا، مما أغضب الحكومة البريطانية ورفضت ما جاء فيها. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن إدارة ترامب تعيش في تخبط واضح فهي تضع عين على الاقتصاد والحفاظ عليه من الركود وأخرى على التصدي للوباء عبر الحجر الصحي الذي ينتشر في المدن الأمريكية كنار في الهشيم خوفا من الانتقادات وخسارته في الانتخابات الرئاسية في نهاية هذا العام، حتى عبر عنه كاتب روسي في مقال نشره على موقع “روسيا اليوم” تحت عنوان :”كورونا سيطيح بالترامبية”. والأكثر سخرة من كل ذلك، هو طلب رئيس وزراء الهند، الصفح من الفقراء بسبب الحجر الصحي الذي يمنعهم من الذهاب إلى أعمالهم للحصول على رغيف خبز يشفي آلام بطونهم الخاوية، في حين تعد الهند دولة نووية ومن ضمن البلدان الصناعية العشرين في العالم G20. فلو كان “الصفح” الذي يطلبه رئيس الوزراء يصرف في اي بنك لما بذخه على فقراء الهند!!
في مواجهة مرض كورونا اليوم في العالم، وإذا ما عدنا لعقد الاجتماع الافتراضي (Virtual) كما سموها لدول الصناعية الكبرى العشرين “G20” في 26/3/2020، قررت حكومات تلك الدول ضخ خمسة تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي عبر دعم اقتصادياتها وتوسيع صلاحيات منظمة الصحة العالمية ودعم صناعة المعدات الطبية والأدوية. وكل تلك القرارات التي صدرت من تلك الحكومات هي من اجل الحيلولة دون شل الاقتصاد. هذه القرارات تكشف عن مسالة واحدة فقط أن الدولة تتدخل فقط عندما يتعرض النظام الرأسمالي إلى أزمة عنيفة. ولو لا هذه الأزمة فإن الحديث عن الأدوية والمعدات الطبية لن يخطر في بال الحكومات ما دام لن يؤثر لا سلبا ولا إيجابا على عجلة الاقتصاد. فخذ مثلا معدل الوفيات بسبب مرض السرطان لعام ٢٠١٨ بلغ٩,٦ مليون شخص حول العالم وان نسبة ٧٠٪ منها في الدول النامية أو الفقيرة حسب إحصائيات الاتحاد الدولي للسرطان. ومن الجدير بالذكر أن أجهزة الكشف المبكر والتغذية ونمط الحياة كلها تساعد بشكل كبير في تقليل النسبة المذكورة ولكن تفتقر إليها البلدان الفقيرة ، ولا تكترث لا الحكومات لها ولا الدول التي قررت بضخ خمسة تريليون دولار إلى اقتصادياتها. والسبب بكل بساطة يعود، أن مرض السرطان لا يبث الرعب في الأسواق المالية وان الدولة غير مستعدة في تمويل أبحاث مرض السرطان مثلما يحدث اليوم تجاه فيروس كورونا.
النظام الرأسمالي وأفول دولة الرفاه :
أن دولة الرفاه هي نتاج تنازل البرجوازية عن جزء من معدل ربحها لصالح الطبقة العاملة وعموم المجتمع من اجل السيطرة على التناقضات في النظام الرأسمالي. وهي قبل ذلك حصيلة نضالات الطبقة العاملة في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين ومكتسبات ثورة أكتوبر الاشتراكية التي ألهمت العالم. وساهمت أيضا في نشوء دولة الرفاه الأزمات الاقتصادية المتتالية التي كانت تعصف بالنظام الرأسمالي و كانت أشهرها أزمة ١٩٢٩ التي أدت بعد سنوات إلى نشوب حرب عالمية ثانية قتل فيها أكثر من ٦٠ مليون شخص. فدولة الرفاه تعني الإنفاق العام للدولة على الخدمات والتربية والتعليم والصحة وتعني ضمان التقاعد والضمان الاجتماعي. ولكن استمرار دولة الرفاه من عدم استمرارها، يعد نتاج مرحلة معينة من تطور الرأسمالي ومستوى التناقضات الطبقية ومنحني الصراع الطبقي في النظام الرأسمالي. ففي ظل التطور الرأسمالي العالمي واشتداد المنافسة بين الدول الرأسمالية على الأسواق تلتهم الأزمات الاقتصادية الدورية جزء كبيرا من ميل معدل أرباح الشركات والمؤسسات، ولذلك تحاول أن تعوضها من معدل ربحها الذي قدمتها للدولة في مرحلة ما واستردادها عبر الاستحواذ على القطاعات الحكومية الصناعية وتقليل الإنفاق على الخدمات وخصخصة التعليم والصحة… فنجد أن تقويض دولة الرفاه يوما بعد يوم هو انعكاس موضوعي لذلك المسار.
أن حركة “احتلوا وول ستريت” عام ٢٠١١ والتي اجتاحت ١٥٠٠ مدينة في العالم بينها ١٠٠ مدينة أمريكية وتبنت شعار ( نحن ٩٩٪ )اي أن ١٪ يملكون ثروات العالم بينما النسبة العظيمة الأخرى من سكان العالم لا تملك شيئا، كانت هي رد على الهجمة الشرسة التي شنتها البرجوازية على كل مكتسبات المجتمع، التي حصلت عليها طوال أكثر من قرن ونصف من نضال الحركات الداعية للمساواة، وتنصل الدولة من جميع مسؤولياتها في المجتمع عبر تطبيق نظرية مدرسة شيكاغو وهي الليبرالية الجديدة. أن معضلة استمرار دولة الرفاه التي عرفت في البلدان الغربية تكمن بعدم قدرتها على التنافس في ظل السباق العالمي في إطار التطور الرأسمالي. وحتى “الحلم الأمريكي” الذي يعني أن ارض الولايات المتحدة الأمريكية هي ارض الفرص، أصبح في خبر كان، وأصبحت أوضاع الطبقة العاملة أكثر بؤسا وان معدل الأجور بالنسبة للأسعار ومستوى المعيشة بانخفاض مطرد كما يشير إليها بشكل دقيق الكاتب (توما حميد) في بحثه المنشور في “الحوار المتمدن- انتخاب دونالد ترامب، الأمنيات والحقائق! الجزء الأول”. ويكفي أن نذكر أن إصابة اي شخص بمرض بسيط يجعله بحاجة إلى كشف طبي عادي وتحليل دم بسيط فأن تكاليف ذلك تعادل أجور عامل يعمل مدة ٤٠ ساعة أسبوعيا على الأقل في بلد من مثل الولايات المتحدة الأمريكية. هذا يضاف إليه انه يدفع شهريا جزء من أجوره إلى شركات التامين الصحية التي تغطي تكاليف العلاج والكشف الصحي والتحليل بنسبة ٨٠٪. وهذا يعتبر واحدة من الأسباب التي أدت إلى تفشي انتشار مرض كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة لتحتل المرتبة الأولى في العالم وتحل محل الصين بعد اقل من شهر من اعتراف الإدارة الأمريكية بوجوده واتخاذ الإجراءات حوله. إذ أن تكاليف التحليل والكشف تعد مكلفة جداً، مما يمنع مراجعة المشتبه به بالإصابة بكورونا من الذهاب إلى الفحص الطبي.
ويفسر الصراع الأمريكي- الصيني وإعادة سياسة فرض الحمائية والرسوم الكمركية على السلع الصينية وحتى الأوربية والكندية والمكسيكية وتعديل العديد من بنود الاتفاقيات مثل (اتفاقية نافتا)، بأنه يأتي في إطار فقدان قدرة أمريكا على المنافسة الاقتصادية العالمية. ونفس الشيء بالنسبة للاتحاد الأوربي الذي يعاني مأزق البقاء في إطاره السياسي والاقتصادي الموحد. وقد جاء بريكست ليوجه ضربة موجعة للاتحاد بانسحاب بريطانيا، ثم ليأتي مرض كورونا ليضع اللبنات الأولى لتفتيت هذا الإطار (الاتحاد الأوربي)
أن البلدان التي عرفت بوجود “دولة الرفاه” فيها بدأت تسدل الستار على “الرفاه”، والسبب يعود كما يقول لنا ماركس من جديد أن معدل الربح في النظام الرأسمالي ينخفض بشكل مضطرد، وهذا المعدل يحصل عليه من فائض القيمة التي ينتجه العامل، إذ يبدأ الرأسمال بالتدفق في كل أزمة تعصف بالنظام الرأسمالي، على الرأسمال الثابت مثل التطور التكنولوجي والآلات كي تضمن قدرتها التنافسية وتنتج بضاعة رخيصة ذات جودة أفضل وبأسعار ارخص. ففي البلدان التي عرفت بدول الرفاه، فقدت هذه الخصائص ولذلك نجد أن الرأسمال هرب إلى البلدان ذات العمالة الرخيصة كي تضمن معدل ربح عالي مثل الصين وفيتنام وكمبوديا وبنغلاديش والهند والمكسيك والبرازيل..ويفيد احدث تقرير صادر عن مؤسسة “برايس ووتر هاوس كويزر” ونشره موقع بي بي سي، أن الدول المذكورة ستتصدر اقتصاديات العالم في عام ٢٠٥٠ وتزيح كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وبريطانيا من مواقعها إلى أسفل السلم في مجموعة G20.
وهكذا يمكن وبكل بساطة أن نصل إلى سبب تصاعد في نسبة الوفيات في ايطاليا وفرنسا واسبانيا، فرأس المال لن يجد أية فرصة في الاستثمار في القطاع الصحي، وخاصة أن الدولة غير مسؤولة في الإنفاق بشكل مطلق على المسنين وتغطية جميع حاجتهم الصحية، وان الآلاف من الذين أنفقوا حياتهم في العمل المضني في تلك الدول وتجاوزوا السن التقاعدي في أعمارهم، فبدلاً من قضاء ما تبقى لهم من حياة بهدوء والتمتع بثمار عملهم ونتاجه طوال ٣-٤ عقود من العمل، نجدهم يلقون حتفهم تباعا وبالمئات، ويدفنون بعيدا دون أن ترتب لهم حتى جنازة لائقة إكراما لذكرى السنوات التي عاشوها في أحضان محبيهم. وهذا هو الوجه الآخر للنظام الرأسمالي، فيستثمر الإنسان خلال فترات شبابه وعنفوانه الجسدي، وعندما يكبر بالعمر وينتهك قواه يحول إلى السن التقاعدي يتم التخلص منه، إذ يعتبر من الناحية العملية والمعطيات الواقعية التي أثبته مرض كورونا، في فلسفة هذا النظام أن المسن شخص عقيم وغير منتج وأصبح فاقد الصلاحية، فيجب التخلص منه. اي بعبارة أخرى أن مرض كورونا في جانبه الآخر هو (نعمة) للنظام الرأسمالي حيث يخلصه من هذا العدد الكبير من المسنين الذين كان يوم ما تأتي ثمار عملهم أوكلها.
وبعكس ما تحاول البرجوازية وممثليها السياسيين في الطبقة الحاكمة إخفائها عن سر تنصلها من مسؤوليتها تجاه المجتمع، تحاول تبرير جشعها وفشلها وعدم أهليتها لإدارة المجتمع بإلقاء اللوم تارة على أن الفيروس صيني وهي من اخفت المعلومات عنه، وأخرى أن انتشار الوباء أكثر من طاقتها الاستيعابية وقد فاجأتها، ومرة أن الفيروس ينال من كبار السن بسبب ضعف مناعتهم وأمراضهم المزمنة أو أمراض الشيخوخة، أو الترويج إلى نظريات المؤامرة مثل ما يقول به الخامنئي وترامب….الخ من ترهات. ولكن مثلما توظف نفس تلك الدول استثمارات في مجال الدفاع وابتكرت أعظم التكنولوجيا العسكرية والتجسسية وفي مجال الفضاء لضمان تفوقها العسكري والحربي التي تقدر ١ تريليون و ٨ ٨٥ مليار دولار حسب معهد السلام العالمي في ستوكهولم- اي ما يقارب ٢ تريليون دولار، من اجل فرض هيمنتها الاقتصادية على الدول المنافسة لها، فإنها لو وظفت جزء من تلك الأموال في ميدان الصحة لما توسع انتشار المرض بهذه المساحة ولما ازداد الوفيات في صفوف حتى كبار السن بهذا العدد الكبير.
ما نستشف منه وقد كشفه لنا مرض كورونا أن البرجوازية سخرت الدولة وإمكاناتها عندما وجدت أن تفشي هذا الوباء بات يهدد بوقف عجلة الاقتصاد العالمي، وأخرجت ما في جعبتها من اللأموال المكدسة والمنهوبة من جيوب الجماهير على شكل ضرائب وعلى شكل فائض القيمة التي ينتجها العمال لترميم اقتصادها، وفضح أيضا (اي كورونا) دولة الرفاه وبأنه لم يبق منها إلا الدولة دون رفاه، اي دولة تبخر منها الرفاه.
لقد أمست اليوم الدولة في كل مكان من العالم، ليس إلا جهاز يتضخم من جيش من الموظفين البيروقراطيين الطفيليين الذين سماهم لينين بالدواوينية، وجهاز قمعي يقدر بمئات الألوف من عناصر الشرطة والجيش والمخابرات، وتستهلك على الأقل ٢٠٪ من الموازنات الحكومية التي اجتاحتها فيروس كورونا (أكثر من ٥٠٪ من الموازنة الاتحادية تذهب للقوات المسلحة الأمريكية وحيث تبلغ ٧٢٨ مليار دولار لعام ٢٠٢٠ في موازنة تبلغ ١ تريليون و٤٠٠ مليار دولار). فعندما يحدث وخلال الأزمات الاقتصادية للنظام الرأسمالي من هروب الرأسمال من الميادين غير المربحة، فإنه يستثنى جهاز الدولة البيروقراطي الذي هو عالة حقيقية على المجتمع، مع استقطاع كل الخدمات التي يقدمها. وان جزء لتمويل ذلك الجهاز الذي سمي بالدولة، يكون من عمل سنوات وسنوات لأولئك المسنين الذي قضي نحبهم بفيروس كورونا، على الرغم أن هذا الجهاز غير منتج، إلا انه ينظم سيطرة الطبقة الطفيلية على المنتجين الحقيقيين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدولة الحديثة في النظام الرأسمالي تنفذ بند واحد من بنود النظرية الكنزية وهي تدخلها لإنقاذ علاقات الإنتاج الرأسمالية، بينما في الشطر الثاني تنفذ نظرية سياسة الليبرالية الجديدة، التي تعني أن يواجه البشر مصيرهم بأنفسهم، كما جاءت في التصريحات الوقحة لبوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني الحالي في تعليقه على تفشي وباء كورونا “بمناعة القطيع”.
أن الاستنتاجات النهائية لنا في هذا الموضوع، حول دور “الدولة” المرائي، لا يصب في خانة التحليل السياسي الذي دأب المثقفين البرجوازيين من الجعجعة حوله، بل من اجل تسليح الجماهير بوعي حول الدولة ومسؤوليتها في النظام الرأسمالي، وكي يتحول ذلك الوعي إلى سلاح نضالي بعيد عن نظريات المؤامرة التي هي بالنتيجة تصب في صالح البرجوازية ودولتها التي تبرر تنصلها من مسؤوليتها تجاه المجتمع. اي بمعنى أخرى أن تسليط الضوء على الدولة ودورها المرائي اليوم من قبلنا نحن الشيوعيين، هو من اجل رفع الوعي السياسي في صفوف الطبقة العاملة والأقسام المحرومة من المجتمع ، التي كانت مبهمة لدى الجماهير، وموضوع لتطبيل البرجوازية والدفاع عنها وتقديسها وتصويرها بالعادلة والمحايدة وفوق الجميع، في حين وفي عالمنا المعاصر لم تقم الدولة بأي دور سوى أنها كانت آلة للقمع الاحتجاجات والاعتراضات الجماهيرية من اجل الحرية والمساواة، أو في أفضل الأحوال تنفق ما ادخرتها من الجماهير على شكل استقطاعات ضريبية وفائض قيمة عملها على إنقاذ شركات ومؤسسات البرجوازية من أزماتها وإفلاسها.
ولقد بينت المعطيات المادية وفقط الإشارة إلى قرارات G20 فأن الدولة قادرة على إنقاذ المجتمع، وكانت قد تدخلت في الأزمة ٢٠٠٨ من إنقاذ شركاتها الكبرى عن طريق ضخ الترليونات من الدولار إلى أسواقها.
وأخيرا أن مرض كورونا وبعكس حروب البرجوازية التوسعية والعدوانية، قد جردها من سلاحها السياسي والدعائي والاجتماعي الصدأ من الترهات القومية والطائفية والدينية والعرقية لإخفاء طابعها الطبقي وإطماعها وجشعها، ولأول مرة في الحرب الحديثة تسير الدولة في كل مكان من العالم دون هوية ومجردة من تلك الترهات المذكورة، بل أصبحت عارية ومفضوحة وكشف عن قبحها ودورها المعادي للغريزة الإنسانية، فالحرب على كورونا لا تحتاج إلى إيديولوجيات ممسوخة تجرد البشر من إنسانيتها، وهذا ما لم تكن في حسبان كل مفكري واقتصادي وسياسي النظام الرأسمالي، بل تحتاج إلى نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي آخر، نظام يكون فيه العلم في خدمة الإنسان، والإنسان قيمة عليا وأثمن رأسمال كما يقول لنا ماركس.