الناقد: الأستاذ رحال الإدريسي
دراسة تحليلية لقصيدة: قناديل حافية
للشاعر العراقي :الدكتور عدنان الريكاني
قناديل حافية ..
………………..
تلك الغابة المتطرفة
لا تترك قامات سنديانها تميل مع الريح
حجبت بغيرتها طريق السناجب
التي تروض صدورهن كل مساء
كادت أن تنهي بحياتهم
و تجعل من فرائهم قبعات ثمينة فوق رؤوس الحطابين..
فهربت بنور قناديلها الحافية و لم تتخيل بُعد المسافات الفارغة
حتى دمغت بقعر فناجينها تلك الأوراق المفزوعة من عصف القلق
فتساءلت من فينا يحمل ذنب الآخر ؟
الليل أم النهار و منْ المُتعقب؟ حتى طفقت الأرواح تتسلل لحافات شواطئ الموتى
و هدير الصمت ينفض غبار الاختيار
يتعالى عزف الشبق متشابكا بكف الصبح بأهازيج الفرح
يهمس في أذن الغياب فجر العشق قادم بحبل و اعتصام
دون مراوغة الأوراق المتساقطة بحلكة الليل
و مطاردة وجهي المنفي على أبواب حانوت قريب
يفتح دفاتره القديمة كلما وقعت عيناه على هرّة سوداءتموء تحت قنطرة الحي
لينذر فئران القوم باقتراب السّاعة …
نتناول بالدراسة و التحليل قصيدة قناديل حافية ، ارتأينا أن نمنح عنوانا ثانيا …بين القناديل الحافية و السّرج المنيرة .
الشاعر عدنان الريكاني مثقف مبدع ، جمع بين العربية القحة ، و الكردية العراقية ، يثقن اللسانين معا ، كما يثقن التوغل في الثقافتين …الثقافة العربية و ما راكمته في شبه الجزيرة العربية و الخليج العربي من وطننا العريض، فلا يمكن أن أدخل غمار تجربة دراسية معمقة دون أن أبحر في سفر الذات الشاعرة ، و لا يحلو السمر إلا بمعانقة قمر يضيئ المكان و الزمان في قصيدة نهتدي بقناديلها.
ستضيئ شموس الحرف فنبتهج لأربع محطات من خلالها سأغوص في ما وراء السطور.
الشاعر الإنسان
الشاعر الثرات
الشاعر الحضارة
الشاعر الواقع
أربع عناوين ستكون كقنطرات من خلالها نعبر تفاصيل ابن دجلة و الفرات نهري العطاء الذي لا ينفذ و لا ينضب .
سيمياء العنوان
القناديل في الدلالة محضن الزيت و فتيل الاحتراق لتوهج الضوء، وعاء من طين يحمل بين طياته تاريخا، كما يحمل مدارس و أجيال خرّيجة الضوء الواهن …لكن الإرادة كانت أقوى من وهن الحزم الضوئية… و القناديل في الدلالة رجال أخرجوا الأمة من براتين و ظلمات الجهل إلى نبراس المعرفة و الوعي.
لكن شاعرنا هنا ألبس القناديل ثوب الحفاء و شُحّ الضوء و جفاء العطاء.
الشؤال المطروح إذن : لماذا هذا اللبس و الالتباس في قناديل من صفتها و نعتها ، بها الناس تهتدي ، قبل أن نعرج على أبيات القصيدة نجد العنوان كخُطاطة رسمها الشاعر قبل أن ينظم القصيد…إذن لماذا هذا السؤال حول القناديل الحافية؟ و للجواب ندرج أن الشاعر قبل أن يوحى إلى نبي الشعر و قبل أن تختمر القصيدة ، كانت منابع العطاء قد تجلّت في مخيلة الشاعر كاملة و لم تكن وهما و لا أظغاث أحلام .
تجربة الشاعر و سفره من هنا إلى هناك ولّد لذى المبدع ركام مخيال ، كما ولّد مُزن أفكار سنجدها مُسقطة على القصيدة، اطّلاع الشاعر على المحيط و الواقع و الأحداث التي عاشها جعلته يكتب و يسجّل و يؤرّخ للظرفية التي هو فيها.
بين القناديل الحافية و السرج المنيرة
لا أنسى تاريخ العراق العريق و حضارته، و ما وصل إليه أبناء العراق من علم في شتى المجالات ، لا ننسى علماء الذرة و مختلف العلوم من أبناء العراق…و يحق لنا أن نقول ما قال فيهم الشاعرابن الوردي من العصر المملوكي:
إن القناديل بكم
إن القناديل بكم زادت علوا و ارتقا
فحق لها أن يتلى لها لتركَبنّ طبقا
مقتطف من الديوان
و لا ننسى محمود درويش حيث يقول : في القناديل
في قناديل جلّنار
و شفاه من النّدى
حاورتني بلا حوار
لا تنامي ..حبيبتي
خلف شباكنا نهار
………
العصافير تنتحر و رموشي سنابل
……
لا تنامي ….حبيبتي
يشرب الظل عارنا
و نداري فرارنا
لا تنامي …حبيبتي
جرحنا صار أوسمة
و يدانا على الدجى
عندليب على وتر
من قصيدة لا تنامي حبيبتي محمود درويش (الديوان )
الطبيعة صفحة البياض تتسع للبوح
يبدأ الشاعر قصيدته بإسم الإشارة ( تلك) و تلك إسم الإشارة للمؤنث المفرد البعيد.
في إشارة منه للغابة المتطرفة، حيث يقول:
تلك الغابة المتطرّفة لا تترك قامات سنديانها تميل مع الريح
شاعرنا الفاضل يعاتب الغابة المتطرفة البعيدة، و كأنه يشير إلى بُعد جنس، لا بعد مكان و لا مسافة ، لا تذوب فيه و لا يذوب فيها ، و الغابة يستحضر الشاعر عدنا ن الريكاني من ثقافتنا السائلة و أدب الأمثال، قانون الغاب كما يقال : حيث القوي يأكل الضعيف.
إذن الغابة هنا ليست مروجا و أشجارا صفصاف أو الفلين الأخضر ، بل قامان من متطرفي الجماعة التي أغرقت سفيتة السلام ، و أحرقت الأخضر و اليابس …فما الدليل عندي هنا لأجزم في القول .
يرد الشاعر علينا في البيت الثاني من القصيدة فيقول:
لا تترك قامات سنديانها تميل مع الريح
و يتابع الشاعر عتابه إذ يقف في صف السنديان ، رُغم اتساع رقعة الغابة و فساحة المكان، يرى الشاعر هذا القمع و جماح قوة شجرة السنديان ، دون إخلاء متنفس لها لتميل مع الريح، في الدلالة قامات السنديان يقصد بها الشاعر قامات و رجال العراق الأحرار المعدودة على رؤوس الأصابع من لهم الغيرة على الوطن و ابنائه و من لهم التشوف لرؤية عراق آمنة مطمئنة ، هؤلاء المضطهدون في حرية التغيير و التعبير و حرية المشاركة الفعالة، التمايس و الميل مع الريح مواكبة للتيارات و مواكبة الواقع العالمي و الدولي ، في مسايرة لركب الأمم لا خارجين عن الملل و النّحَل غير خارجين عن القوانين الضابطة للتعايش السلمي .
هاته القامات الموصدة و المكبلة من قبَل غابة تجاوزت حدود الاعتدال ، و كما قلنا الغابة هي الفئة أو الجماعة المتشبعة بعقيدة أو مرجعية أو خلفية أو مذهب حتى أقصى حدود التشدد غيرة و تعصُّبا…تلك الغيرة التي قال فيها الشاعر:
حجبت بغيرتها طريق السناجب التي تروّض صدورهن كل مساء
السنجاب خفة الروح و خفّة الحركة … هاته الميزة عند السناجب في إشارة إلى بعض القامات المؤثرة في الحقل الدولي ، القامات الوازنة .
لكن لماذا ربط الشاعر ترويض الصدور بالسناجب؟
الصدر مستقر للقلب ، و القلب شعلة و مضخة الحياة، و كأن شاعرنا العميق يشير إلى من يضخ طعم الحياة في أبناء الوطن، و لا يُضَخّ إلا بعلم و هذا العلم و سلطانه ، يمنح القوة بين جهال الطبقات المكونة للمجتمع، العلماء ورثة الأنبياء، سنجاب مروض … عالم يمنح الحياة لشعب تأكل الفاقة كبرياءه و يقتل الفقر و الأمراض صحته و جسده،تقوم الأمم المناهضة و تقعد لعالم ذرة ، و لعالم سبق غيره في إيجاد ترياق للحياة بين كون فتكته الفيروسات و الأمراض المستعصية، تحترم دول حين يكون أحد أبنائها ظاهرة كونية تحتاج إليه البشرية،أو عالما سهل طعم الحياة بعد عسر، بتفكيك للغز حيّر البشرية …و نحن نودع سنوات كورونا ، عشنا لحظات عصيبة في تاريخ البشرية ، سُجِنَتْ شعوب بأكملها تحت طائلة الحجر الصحي دون إثم يُجَرّمُ البشرية، ذكرت أسماء في اللحظات العصية…هؤلاء السناجب هي من روّضت صدور البشر، بشرتها بأخبار أثلجت صدورها و خفّفت من وطأة كآبة النفس و خنقها، نحن كمغاربة كنا نسمع منصف السلاوي الذي وجد لقاح الفيروس ، كما كنا نسمع عن كويتية و عراقية أو عراقي …هؤلاء السناجب و القامات تهتز لهم و ترفع لهم القبعات، لأنهم قدّموا شيئا للغابة المتطرفة …. و يا ليتهم يتركون الريح للسنديانة تتحرك و تموج حرة طليقة…و من ذات المنبر ينادي الفياض في قصيدة ملكة سبأ فيقول:
هل لشتات أن يكون واحدا إلا في عشق
إنها امرأة
تحدّث في أعماقها على بُعد قلب
……
ماذا فعلت يا ذا العرف الصّغير بمنقارك
في عراق المجد و المنطلق هم جمع الشتات ، يستحضر الشاعر عدنان الريكاني السناجب كما يستحضر الدكتور الفياض الهدهد في قصيدته ملكة سبأ ، أ هي صدفة من سنن الاستدلال و تقريب الأفهام ، أم هي حَجْب لما وراء السطور و وراء لغة و أسرار الكائنات الأخرى من طيور و قوارض و سنجابيات …
الشاعر و الفيلسوف الباحث عن الحقيقة ، كوني المنشأ و كوني الرؤى ، لا حدود للإبداع على حد تعبير كانط…لعل في الاستدلال بصواحب الطبيعة ، قرب من الفطرة غير المدنّسة بدخائل و دسائس الحضارة ، سمّ في عسل …الهدهد و صدقه و ذكاؤه و السنجاب و خفته و نشاطه، و كأن الشاعرين يغرسان بين حروفهما لذة الجمال و متعة الكمال في تلقائية العيش و التعايش ، ببداهة التجاوب دونما تصنع و لا تلفيق للكلم، حياة على الفطرة أسهل و أقوم من تحديث يمسخ لب الإنسانية و يقتل الجمال و الجميل فيها.
هاته الفطرة المفقودة كالحلقة المفقودة عند داروين ، هي ترياق الاستمرار الراقي البعيد عن صخب و فوضى الهمجية المغسولة في غرف التشريح.
هجرة الأدمغة في قصيدة قناديل حافية
في القصيدة يذكر لنا الشاعر الفثرة العصيبة من تاريخ العراق، الحرب و الفتن و اشتعال نيران التفرقة بين الصف الواحد، الشاعر يرسل ومضات من منارات بحر الفتن ، السطر في القصيدة كمنارة ترشد المبحر في أعالي النص و تدله على أسرار و أحداث ، لم تتعاف بعد صحة العراق بين طيات القصيدة، بلد قطعت لحمته إربا و فرقتها عددا و مزقتها مندا ، و الحالة هاته و زمرة من دراري المسلمين يكيدون لها مكائدا ، و لا عونا و لا مددا و لا سندا ،
و الشاهد عندي قوله :
كادت أن تنهي بحياتهم
و تجعل من فرائهم قبعات ثمينة فوق رؤوس الحطابين…
القارئ بعمق للنص ، يلاحظ بوحا و كأن الشاعر يحتفظ به لخاصة خاصته ، أو يحتفظ به لنفسه …أ يقصد بالزمرة القليلة أهل كردستان العراق و ما لاقوه من تضييق خناق ، و لا ننسى المدينة المغصوبة في عهد الغطرسة ، إبادة جماعية لحلبجة جراء المواد الكيماوية المنثورة على الساكنة ، هنا تبكي القصائد حرقة الأسوار المخربة و القلوب الممزقة، كما يبكي درويش سمرقند في قصيدته المشهورة ، و كأن شاعرنا العنيد الدكتور عدنان الريكاني يقول على لسان محمود درويش:
(ألا أستطيع البكاء غدا؟ ربما أستطيع و لكن أ ينزل هذا الندى كلما وجَدَتْني الطريق إلى الشام أجمع هذا الصدى مثلما تجمع العاشقات الدموع عن الليل) محمود درويش الديوان
يبكي درويش سمرقند و يبكي السياب في قصيدته (أسمعه يبكي)
أسمعه يبكي يناديني
في ليلي المستوحد القارس
يدعو أبي كيف تخليني بلا حارس
غيلان لم أهجرك عن قصد
الداء يا غيلان أقصاني
إني لأبكي كما تبكي في الدجى
وحدي
(و الخلاصة أن انكماش الذات الشاعرة و تسلط الذات اللاشاعرة و اتجاه المشاعر و الأفكار بعامل التأثر و العدوى نحو غرض واحد، و الأهبة إلى انتقال فورا من الأفكار التي أشير بها إلى الفعل، هي الأخلاق الخاصة التي يتخلق بها الفرد في الجماعة، فهو لم يعد هو، بل صار آلة لا تحكمها إرادته.)
الصفحة 34و 35 من سيكولوجيا الجماهير ل جوستاف لوبون ترجمة احمد فتحي زغلول الطبعة الأولى القاهرة 2020
عراق كبير بهذا الزخم من قناديل النور ، لا يحق لها أن تكون حافية ، و قد ألبست اللغة أبهى الحلل و جالت بشعرها كل الملل… لا بد أن نحلص لعدوى الرذاذ الذي يطفئ القناديل و زيتها و هممها ، رذاذ الفتنة القائمة و العصبية الممتصة لسرعة الفرد داخل الجماعة فجوستاف لوبون يرى أن (الفرد يكتسب من وجوده وسط الجمع قوة كبيرة تشجعه على الاسترسال في أمياله مما كان يحجم عنه منفردا بالضرورة ، ثم لا يكبح جماح نفسه لأن الجماعة لا تسأل عن أفعالها لشيوعها بين جميع الأفراد، فلا يشعر الواحد منهم بما قج يجره العمل عليه من التبعة، و هذا الشعور هو الزاجر للنفوس عما لا ينبغي) .
نفس المصدر سيكولوجيا الجماهير جوستاف لوبون صفحة 33
الشاعر يربط التاريخ و الأحدات بمضمون القصيدة، و هو ابن العراق الشاهد على العصر، يقول :
كادت أن تنهي بحياتهم
كما بكى الأكرادُ حلبجة المدينة المقصوفة بالأسلحة الكيماوية ( وكأننا بين أرياف العراق والحضيرة،نقع المكان عالق بأثر العبور ،و أثر الحروف مد لتلك الجسور بين ثقافات محادية للنهرين،يحادي جيكور الريف جيكور السياب ، يلامس أنشودة المطر يعانق الغربة غربة كل شاعر ينبري عن العامة في خاصة دويلة قلبه،فيعيش غربته وحده ،يعيش عزلته يقلب الفكر و الحقيقة المتوصل إليها ،يحرقه ضوء التفرد فيعيش الفرح و قد انبجس و عم الضوء أركان و زوايا قلبه،أدواته قصائده تغلي كبركان بعيد الانفجار ،تذوب الأفكار كالماغما المنصهرة في قلبه،و قد جاوز الانصهار الإطار ،فيكون دفقا على بياض الروح،تكتبه و يكتبها في عناق بين المادة المتفاعلة و الروح لحظة الصفاء…
كجرح مشترك بين جرح الريف و جرح القلوب الملتاعة بالفراق)مقتطف من دراستي لديوان بسملة إشراق لنعيم العشجمي أنظر مقدمة الديوان بسملة إشراق طبعة 2020
فهربت بنور قناديلها الحافية و لم تتخيل بُعد المسافات الفارغة
(العراق أنثى تعلق بقلبها الشعراء و بكت شناشيلها الضياع في زمن الفرقة و التطاحن المصنوع،بكت بغداد قببها الخالدة ،و انهمر الرافدان دجلة و الفرات دمعا منسكبا ممزوجا بدم الأبرياء ،فاختلطت جراح جيكور بالشناشل الجريحة بدرائع التجديد ،فأصابها الخراب ، و أصاب عودها السوس،كما أصاب الأمة ،فتنوعت الأرضة من آكلة المواثيق إلى مصاصة الدماء.) مقتطف من دراستي التحليلية لديوان بسملة إشراق للشاعر العراقي نعيم الجشعمي
و لم تتخيل بُعد المسافات الفارغة
حتى دمغت بقعر فناجينها تلك الأوراق المفزوعة من عصف القلق
ما الذي جش هذا الدماغ؟ و هل الشاعر يقصد فناجين على طاوولات الكولسة ؟ أم عصارات فكر تبحث عن حلول لإخراج الأمة من ورطة التكالب على حلم دِرغام و فَهد من صبايا حلبجة البهدينان ، و آل النفطجي و الطلبانية و الكيج و آل بابان و آل الحيدري و والزنكنة و البرازنيين وباجلان و البالانيين و تيلكو و الصوالح
و كل مكونات الوطن العربي العريض الأطراف ، فما الذي حرك القلق من عز الفرح، و من حرك الخوف من بحبوحة الأمان؟ فمن أفزع الأوراق و من عصف بها إلى دهاليز القلق؟
من فينا يحمل ذنب الآخر؟
قمة التسامح لما نقول لظالمي راحتنا ، اذهبوا أنتم الطلقاء …فعلها رسول الأمة عليه الصلاة و السلام في عز النصر و هو آخذ بالنواصي و الأقدام، لم يعنّف أسيرا و لا خائنا باع الوطن و الشعوب، كما فعلها نيلسون مانديلا و جنوب إفريقيا تعرف غليان العنصرية و حرب المصالح تعصف بدماء الأبرياء، يقول نيلسون مانديلا (لا يوجد إنسان يكره إنسانا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه ..الناس تعلّمت الكراهية، و إذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية إذا كان بالإمكان تعليمهم الحب..خاصة أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية) و في ساحة رد المظالم قال لهم تعانقوا و اصفحوا، ما أروعها من حصيلة …قرابة عقد من الزمن يمتص حريته بين أربع حيطان ليكون هذا المنجز ، عناق يمسح غبار الماضي ، يمسح غبار الضغينة و الأحقاد في طرفة عين، و كأن شعب جنوب إفريقيا أوقف زمنه و تطوره هاته المدة …حتى عودة الحق لتسطع شمس الانطلاق ، فجر الحرية و صبح التنمية لتنطلق بذلك أمة تنافح و تنافس دول كبرى في شتى المجالات، هاته الوطنية هي التي جعلت محمود درويش يقول :
ما هو الوطن؟
ليس سؤالا تجيب عنه و تمضي .
إنه حياتك و قضيتك معا)محمود درويش
هذه البشارة يحملها إلينا الشاعر عدنان الريكاني في قوله:
يتعالى عزف الشبق متشابكا بكف الصبح بأهازيج الفرح
و كأن الشاعر يضع الأصبع على الجرح ، في إشارة إلى إمكانية العودة إلى الريادة ، كما كانت العراق من ذي قبل، عزف الشبق المتشابك، الرغبة في الوصول إلى الاستحقاقات الكبرى ، و الشبق له أدواته …و للعراق أبناؤها و مكوناتها و أرضية العمل و الانطلاق ، للعراق ما له من خام تبحث عنه كبريات الدول، و علماء درسوا و حصلوا على علم مميز يمكنهم من ذلك، للعراق رجال لهم ما لهم من تجربة في الصناعة الثقيلة و باقي الصناعات التي تخول لها أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، لكن هذا العزف المتعالي يحتاج إرادة شعب يتنازل من أجل أن تذوب كل الحسابات الضيقة، و لهذا نجد الشاعر يقول :
من فينا يحمل ذنب الآخر؟
و هذا التراخي و اللوم و رمي المسؤولية على الآخر يورث الضغينة و الفرقة ، تنازع في سفاسف الأمور يمتص قوة الجمع و الكلمة الواحدة، هاته المضيعة و التلكؤ على أخذ زمام الأمور أجهض الفرحة و مزق الابتسامة من محيى شعب اغتُصبت أحلامه الوردية، باحتلال غاشم امتص آبار الفضيلة و استحل حرمات المساجد و دير و كنائس الكرامة و يزكيه قول الشاعر عدنا الريكاني إذ يقول:
من فينا يحمل ذنب الآخر ؟
الليل أم النهار و من المتعقّبْ؟
و كأن التاريخ يعيد نفسه، تنذر زرقاء اليمامة قومها على مسير أيام من وصول العدو ، و لم يأبه للخطر نضج القوم، و لم يحترز للغاشم مستقبل الغصب، و لم يحذر أهل الديار من جمر تحت الرماد،
بين الشبق و قطع رؤوس الأقلام
الشاعر لسان حال زمانه إن كان كونيَ الرؤى ، و إن كان بالقلم ممحاة تمسح الحدود المرسومة على الخرائط، يتعداها لخرائط القلوب إذ تجمعها دمعة تسقط على خد البشر من هند المكان إلى سند الزمان، و أنا أشير بإبهامي إلى الذات المسؤولة ، قائلا لعقلي الباطني :
أنا
أنا المسؤول عن فشل الجيل الذي أنا فيه، و أحس بنكبة في قمة صمتي …و نحن نستنسخ نفس الرؤية ، ستجد شعبا مسؤولا نفض عنه غبار التبعية و المذلة… هاته الأقلام الداعية لصحوة القوم ، لكن يقتل شبق الوصول فيها و تستأصل غدد الأنفة من كل حر تهزه حمية الكبرياء و دفع الضرر عن أبناء الوطن و العشيرة ، لا أتعارض في موقف حين أكون داعيا للكونية و للإنسانية ، و هنا أقول الوطن و العشيرة ، حين أقول العشيرة فأقصد بها جنس التعايش في سلم دونما غطرسة و ظلم …حيث (ليس حرا من يُهان أمامه إنسان و لا يشعر بإهانة)نيلسون مانديلا
بين المتعقّب المترصّد و المترقّب أهازيج الصبح للفرح
تبقى أهازيج الصبح طموح كل عربي من وطني و كل إنسان عاش ويلات التجويع و التفقير، في وطن غني بفتوته و بشبابه و بأرضه الخصبة ، و بمعادنه و مصادر الطاقة فيه، من مزّق خيوط الصبح من ليل و عتمة غاب عنها القمر؟ من أعطى الأحقية للذئب أن يكون حارسا على القطيع؟ و من قتل المناعة ضد التضبيع و التطبيع؟ في سيكولوجيا الجماهير و لا أريد أن أطنب في الاستدلال لولا عمق الرجل الذي أفاد و أجاد في الذي يحصل لنا و فينا، ( و قد دل النظر الدقيق في أحوال الجماعات أن الفرد متى أمضى زمنا بين جماعة تعمل لا يلبث أن يصير في حالة خاصة تقرب كثيرا من حالة النوم نوما مغناطيسيابين يدي المنوّوم، و ذلك بتأثير السيالات التي تصل إليه من الجماعة.)الصفحة 34 من سيكولوجيا الجماهير ل جوستاف لوبون ترجمة احمد فتحي زغلول الطبعة الأولى القاهرة 2020
جماعة يكونها الفرد المُؤَثّرُ فيه بتأثير سيالات تصله من الجماعة ، و النوم الذي قيل فيه و ما فاز إلا النوم من أكبر الجوامح بيد ذئاب تحرس القطيع.
يقول الشاعر : و لم تتخيل بُعد المسافات الفارغة
حتى دمغت بقعر فناجينها تلك الأوراق المفزوعة من عصف القلق
الأوراق المفزوعة أجندات المجتمعات و تخطيطاتها الخماسية أو البعيدة المدى، و الأوراق التزامات و مواثيق بين الأمم ، و عصف القلق ، تقلبات المناخ الدولي و السياسي العام.
كل الثقل على علماء الأمة و وجهائها لخلق التوازن داخل الجماعة و العشيرة و أفراد المجتمع ، تأمينا و أمانا من الجوع و الخوف…هذا القلق الكبير هو العاصف بالدول نحو توسيع مستعمراتها و استلاب الشعوب المستضعفة استغلالا لخيراتها … حرقا بذلك للتعايش و حسن الجوار.
أعجبني ما أشار إليه شوبنهاور إذ يقول: (فكن على يقين أن هذا الصنف من الناس إنما يسعى عبثا من خلال أفعاله، لإبعاد هذا الضجر الذي ينخره من داخله. و على هذا النحو يقود الفقر الداخلي حتما إلى فقر خارجي محقق)آرتر شوبنهاور من كتاب : “فن العيش الحكيم “نقلا عن (كلمات -من -عالم-اخر)الرابط words-from-another-world
غصب الشعوب و قتل حلم تحقيق أحلامها و مصائرها ، يجعلها في مواجهة دامية بين الفصائل الدخيلة على الوطن، فمن فينا يحمل ذنب الآخر؟ صاحب الحق الممثل في النهار و شمس الحقيقة ، أم الليل ؟ ذاك الغاشم يسلب الحق من مستحقيه ؟ هي مجموعة اسئلة استنكارية يضعها الشاعر في مركز القصيدة ، بدايتها حيفٌ و فتنة غيرةٍ ، و قفلتُها :
يفتح دفاتره القديمة
كلما وقعت عيناه على هرة سوداء
تموء تحت قنطرة الحي ،
لينذر فئران القوم باقتراب الساعة…
يقتل الأمم الامبريالية الجشع ، لا تجد سعادتها إلا فيما عند الناس و هذا لا يولد إلا التفرقة و الكره ، فكيف سيكون هذا الاستقرار العالمي ، في غياب العدالة الكونية ، فصدق رسول البشرية فعن سهل بن سعد الساعدي قال : (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس) النووي ت 676 حسن أخرجه ابن ماجة/ و أبو نعيم في (حلية الأولياء)3/252
فشتّان بين من يبحث عمّا عند الناس و بين من يزهد فيما عندهم ، فهاته المفارقة تولّد عداوة للدفاع عن دوحة الوطن و مقدساته و خيراته، و ما أكثر الدرائع المتخذة لغزو الأمم تركوها كالمعلقة لا هي طليقة حرّة و لا هي مطلّقة، تبعية تكبّل الإرادات و تبعية تسلب الإيرادات من خزان الأرض ، يمتصون دماء التكالى و آبار البترول و الغاز الطبيعي… و في كوابيس الأحلام المزعجة رجل دين باع مبادئه ، يحوقل و يضرب الكف على الكف في انتظار نفخ بقرن يأذن له بفتوى يجيش لها من يرفع صبيب وصولها لدروة المتابعة ، فيحرك لها جهادا كاذبا ، و قد علمت نواياه …أمام هاته الكائنات البشرية سُلبَت بكارة الشهامة العربية و النخوة التي أقامت الدنيا و أقعدتها زمن رجال لا يهابون الموت ، و همهم أن تحرص حمى الأوطان .
حتى طفقت الأرواح تتسلل لحافات شواطئ الموتى
و هدير الصمت ينفض غبار الاختيار ( هديرالصمت السلام المغرد له في صمت أو حياد طمعا في مصالح خاصة تقزم من كينونة الجماعة و قوة الوطن)
و هدير الصمت ينفض غبار الاختيار
تغيب الوطنية في عتمات الليل ويبرد أوار الوحدة و القوة ، لمّا يكون التنازع و التناحر، يعقبه الفشل و ذهاب ريح القوة،( فلا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم).
و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون …أنتم الأعلون يا أهل دجلة و الفرات،
يهمس في أذن الغياب فجر العشق قادم بحبل و اعتصام
أنتم الأعلون لو علمتم مكامن القوة ، دون همس بل جهارا لقضيتكم، تدرؤون عن الشبهات و لا تحوموا حول الحمى لتوقعكم في تفرقة مشتتة لعصب انجماعكم و تكثلكم،و هذا ما أدلى به شاعرنا الفاضل في قوله: يهمس في أذن الغياب فجر العشق قادم بحبل و اعتصام
هذا العشق الذي تغنى به و تغنى له الفياض في قصيدة ملكة سبأ
في ساعةٍ
وضَعتْها ليالٍ بعدَ عُقم
تخفقُ القريةُ قلباً
يجمعُ ما شتَّتْهُ سنواتٌ
غرُبتْ في جفوة . . .
هل لشَتاتٍ أنْ يكونَ واحداً إلآ في عِشق ؟
هو ذات العشق الذي تغنى له السياب في أنشودة المطر، و يبقى الوطن جريح و يتغنى فضلاؤه لهذا الجرح، يقول الفياض :
في ساعة
تخفق القرية قلبا
يجمع ما شتتتهُ سنوات
غرُبت في جفوة…
هل لشتات أن يكون واحدا إلا في عشق؟
هذا العشق و هاته الخفقة يلتقي فيها أبناء الوطن الواحد، بعيدا عن الحسابات الضيقة و لغة الخشب ، هو ذات العشق الذي آمن به شاعر السلام عدنان الريكاني : فجر العشق قادم بحبل و اعتصام ، إيمان منه مع شدة خوف و ترقب و الوازع في ذلك الخوف من عدم تحقق الحلم الوردي و لهذا استعمل لفظة الهمس ، همس في أذن الغياب ، انظر المفارقة العجيبة ، غياب فيها بعض خوف من تحقق هذا المراد و قادم فيها يقين تلك هي الساعة التي أشار إليها الفياض في قوله: في ساعة وضعتها ليال بعد عقم تخفق القرية قلبا ، و كأن الشاعرين يقولان على لسان واحد و بصوت واحد : ساعة النصر مع إرادة أهل الوطن في ساعة لكن تبقى النتائج معلقة إلى أن يكون الحبل و الاعتصام و لا يكون و الحبل و الاعتصام بخيانات كبرى للوطن ، و هذا ما يشيرإليه شاعرنا في قوله:
دون مراوغة الأوراق المتساقطة بحلكة الليل
الوطن كصهريج الماء ، يحفظ ماءه لعطاش الوطن و متعطشي الوطنية ، هاته الوطنية تهرق فيها و لها الدماء دودا عن القضية و دفاعا عن وحدة الصف، الوطن لا يقبل من يمزّق أوراقه و يتلاعب بصفقات النجاح و لمّ الشمل ، يدوس مواثيق الأشراف و كرامتهم خلسة بليل العتمة ، تزويرا للحقوق و المستحقات ، فلا يسيل لعابٌ لتفاهات تزيد من تهرّي جسم الوطن و هو جريح.
غربة في وطن
كُثُرٌ هم غرباء الوطن ، حين قابل أبوتمّام نفسه ثم قال : لا أنتِ أنتِ و لا الديار هي الديار، و حين قابل محمود درويش وحدَتَه،فقال:
إن عدت وحدك قل لنفسك: غيَّرَ المنفى ملامحه…
ستحمل الأشياء عنك شعورك الوطنيّ:
تنبُث زهرة بريّة في ركنك المهجور
ينقرُ طائر الدوريّ حرف الحاء في اسمك…
……
أمّا أنت …و لستَ أنتَ
تقول : أين تركت وجهي ؟
ثم تبحث عن شعورك ، خارج الأشياء
…….
هل وجدت الآن نفسك؟
هذا السؤال الذي أجده مناسبا لكل مغترب داخل الوطن ، و لكل مغترب داخل الذات،أقول هل وجدت الآن نفسك ؟ في ضفة أخرى من القصيدة نجد الشاعر الريكاني يُمَنّي النفس لعله يكون سالما من مطاردات تقض مظجعه و تربك راحته، حيث يقول:
و مطاردة وجهي المنفي على أبواب حانوت قريب
هذا الوجه المنفي داخل العشيرة و داخل القرية الواحدة ، و نذهب أبعد من ذلك بل داخل الأسرة الواحدة ، مطاردة راحة الذات و راحة البال، المنفى على مقربة من مُقام الشاعر، و لا يُخص بالخطاب الشاعر وحده ، بل إشارة إلى كل قنديل يُنوّر الفكر و ينمّي العقل دعوة لصحوة الضمائر من أجل تعايش يحفظ ماء وجه الإنسانية.
رُبّ علم ينجيك من فتن القوم بفتوى خارج المعقول، و رب عالم يقود الأمة إلى برّ النجاة ، عاشت الأمة محنا و أزمات بعثرت أوراقها ، و أصيب بعض علمائها بالصمم لا يسمعون لنداء التغيير كما أصيبوا بالشلل الفكري إزاء نوازل ، لم يكن النصّ حاضرا لمعالجتها،كان الاجتهاد محتشما ، و لم يكن الجواب كافيا و لا شافيا يشفي غليل السائل، هاته الأجوبة الشاغرة و هذا الصمت كلّف الأجيال شلل حركة في تغيير الحال و تغيير أدوات التفكير ، تطويرا للذات و للنوازل تعطلت عجلة التقدم و كفّت عن التطور و الازدهار.
هنا الشاعر يذكر الدفاتر القديمة كمراجع و مرجعيات من خلالها يستنبط الحلول و الأحكام ، و قد يقصد بها الثراث و لا عيب في الرجوع إلى القديم و المتوارث ، لكن مع روح التجديد و روح المواكبة و المصاحبة للواقع و الزمن المعاش.
يفتح دفاتره القديمة
كلما وقعت عيناه على هرّة سوداء
تموء تحت قنطرة الحي
لينذر فئران القوم باقتراب السّاعة …
قنطرة الحي جسور التواصل و ملتقى العبور للحضارات السالفة و الحضارات المحايثة لزمن الساعة المعاشة اليوم .
ثم يليها النذير الذي ينذر القوم بالطامة الكبرى ، و بالفاجعة النازلة بالقوم …في انتظار لنتائج المكائد و المصائب النازلة بأهل الوطن… لقد تعمّد الشاعر أن ينعث القوم بالفئران ، في إشارة إلى الهوان الذي أصاب الرجال من فطاحل القوة و الأنفة، إلى المذلة و مدامة الهوان و كأس الخنوع الذي شربوا مدامته…و في انتظار صحوة للقناديل الحافية و للقلوب الجافية من رجوع إلى الإحساس بإنسانية الإنسان و تعايشه في كوكب مسخر له أختم بحثي هذا المتواضع بقول مولانا جلال الدين الرومي:(فإذا كنت ملولا من هذا ، ضع رأسك بين النيام، ذلك أن المتجمدين ، يخلصهم النوم دائما)جلال الدين الرومي (سطر هو سر الروح2432))الصفحة 205العشق الإلهي الإشراف العام مجدي شكري
تم بحمد الله تعالى : 28/11/2022
الأستاذ رحال الإدريسي المغرب
دراسة تحليلية لقصيدة: قناديل حافية للشاعر العراقي :الدكتور عدنان الريكاني
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا