عمر فاخوري أديب ومفكر لبناني، يعد رائدًا من رواد المدرسة الواقعية في النقد الأدبي، وعلمًا من أعلام النهضة في القرن العشرين، كانت له إسهامات جليلة في التأليف والترجمة. ولد في بيروت عام 1895 وتوفي فيها عن عمر يناهز الخمسين عامًا، انصرف خلالها إلى دراسة الآداب العربية والأجنبية. عرف بنزعته التجديدية وأسلوبه اللاذع الذي يجمع بين الفكاهة والجد.
وفي معرض حديثه عن أدب فاخوري، يرى الباحث والناقد السوري وفيق غريزي أن في مسيرته التاريخية لم ينقطع اهتمام الإنسان بالعدالة الاجتماعية والحرية والكفاح في سبيل ما هو قيم خير وحق وجمال. ولقد أكد لنا المجتمع الإنساني في حلقاته الكبيرة والصغيرة، أنه لإبقاء لأدب ما لم يتخذ لبقائه قضايا الإنسان مادة له في كل عصر، فيقف إلى جانب ما هو حق، ويتعدى تصوير ما يجب ان يكون. ويستطرد عزيزي مشيرًا إلى أن فاخوري،قد أدرك مسؤولية الاديب، كما أدرك حقيقة الأبراج، حيث يقضي أصحابها أعمارهم وهم في عزلة طلمسية، منهمكين في تلفيق المعاني وتزويق المباني. ويؤكد مؤرخو سيرته أن عمر «لم يعش يوما في عزلة طلمسية، فقد عاش ومات اديبا مليئا بالحياة، وأن نتاجه القيل الغني إنما يدل على تطور طبيعي منذ كتابه (الباب المرصود) حتى كتابه (الحقيقة اللبنانية)، ولعل الباب المرصود كان نتيجة أدب بدأ ثوريًا في (كيف ينهض العرب) وتوقف ردحًا من الزمن يعاني مرارة الخيبة، والحزن العميق، اثر إعدام رفاق له»، يقول الشاعر جوزيف حرب: «إن من يتعمق في باب عمر فاخوري المرصود يجد أن الأبراج العاجية التي حبس بعض الادباء أنفسهم فيها، إن هذه الأبراج براء من أدب عمر براءة عمر منها»، فقد كان فاخوري في خيبته المرة، ثوريًا، ينتقد، ويثور، ويتهكم، ويسخر، ويعالج فك هذا الرصد مغالبه مشيئة بالقدر، رافضًا قانون واقع أبدي يعجز أن تغيره مشيئة قدر الإنسان.
شنّ عمر فاخوري حربًا عنيفة على الجهل والضلال لمعرفته أن لبنان شيء من المنازعات أوجدته مصالح الضاربين بلبنان عرض الحائط. وهذا ما حداه إلى القول: «لا يمكن أن يكون لبنان لأي دين من الأديان، أو لمذهب من المذاهب… لا يصح لبنان أن يكون إلا وطنًا للجميع على السواء»، هذه هي حقيقة يجب ان يعيشها الشعب اللبناني، وكل من وجد في قدميه عزمًا يخطو به في طريقه إلى بيت الشعب.
لقد اختار عمر فاخوري الوقوف إلى جانب قوى الخير. وكان أمام الحياة الذميمة شاهد اتهام، إذ «لا يستطيع الفنان الحق أن يشهد زور»، وشبه «النزعة إلى التقدم بالقصص التي تخدم ذاتها، فلا يفوز سوى الخير والحق، سوى الترقي على الرجعية»، وإن هذه النزعة الانسانية العميقة هى الطريق الصحيح إلى إمكان تحقيق ما هو كائن، من خلال النزاع المستمر بين قوى التقدم وقوى التخلف. فسنة الوجود، أولاً وأخيرًا، تطور دائم، وتحول مستمر، وصيرورة أبدية، وهل الإنسان غير مؤلف التاريخ، وهل التاريخ غير هذه السنة؟
للأديب عمر فاخوري صفحات في النقد الأدبي، معظمها في كتابيه «الباب المرصود» و«الفصول الأربعة»، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عمق ثقافة صاحبها، وذوقه الشفاف، ورأيه في أن الأدب والحياة عالمان لا انفصال بينهما، «أما الثقافة فتكفي دلالة عليها»، اذ يقول: «إن الكتب التي طالعتها هي أعظم حوادث في حياتي»، واما الذوق فهو عنده نتيجة معرفته العميقة بسر الكلمة وعبقريتها، وقدرته السليمة في الكشف عن مواطن الدمامة والجمال، وانطباعه المفطور على جمالي مرهف، وعاطفة متقدة، وعقل نير.
أما الرأي الذي مفاده أن بين الأدب والحياة تلازمًا مستمرًا، فقد قاس فاخوري به كل عمل أدبي، وكان لديه المحك الوحيد في مجال النقد والتقويم. عرف عمر فاخوري بكتابة أسلوبية فنية سليمة. وعن فنه فإن ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة قال: «وذوقه استقراطي، برغم تبينه قضية البروليتاريا»، فمن يقول إن البروليتاريا لا تفهم الأدب الجيد؟ إن البروليتاريا تفهم من الأدب، الذي كان يعنيها وهو أدب الخلاص، أدب الأبطال الواقفين بجانب الضعفاء، أدب الثابتين في تربة التاريخ قادة في سبيل الشعب، أدب الحب والخبز، لأنها حرمت لذة الخبز والحب. إن أسلوب عمر فاخوري نسيج وحدة، يلتقي وأسلوب الجاحظ على أكثر من صعيد، فكلاهما اضحك، وكلاهما تهكم، اوسخر، إلا أن الجاحظ إذا أضحك هدف إلى الضحك لا غير، أما فاخوري فهو إن اضحك فإنما هدف إلى شيء من الحزن والألم، أو إلى تزويق فكرة أو رأي.
ولعل الفرق بين الاثنين إنما كان من خلال نظرة كل منهما إلى الكون والحياة. أسلوب فاخوري طريف قوي، وقلما تجمع القوة والطرافة. وهو تميز بغنى الذهن، وسعة الاطلاع، ورقة الحاشية، وخفة الظل، فكل ما يقوله ينبئ أنه قرأ كثيرًا، واجتهد كثيرًا، وفكر في معظم الأمور الحيوية، وانتهى من تلقاء ذاته دون أي ايحاء أو إكراه، إلا الآراء يعرضها، ويدور حولها إن في الأدب، وإن في الاجتماع، وإن في السياسة. ويخلص عزيزي إلى أن عمر فاخوري برع في كتابة المقالة الاجتماعية، والنقدية، والسياسية، مدركا أن المقال كأي فن قلمي مختلف عليه من حيث إبعاد مراميه، وتعداد تحديده.
ولعل أقرب تحديد له بسيط الدلالة، شامل رغم التنوع، وهو أنه فصل قليل الصفحات، مختصر الأفكار، يدور على مسائل وآراء تعالج متأثرة بأسلوب كاتبها. ولعل أفضل المقال ما كان منه إبداعًا. إذا كان كما يقول محمود امين العالم إن من أخطر المعاني التي أضافها عمر فاخوري إلى ثقافتنا العربية دعوته ربط الأدب بالحياة، فإنه يعني بذلك، أن يقول للأديب أخرج إلى السوق، لاتقبع في برجك العاجي، لاتنعزل عن الناس، لا تتنقب بالغموض بل أخرج إلى السوق، لا لتشتري حاجاتك المعيشية فحسب، بل لتستلهم حاجات لأدبك كذلك.
والسوق عند فاخوري هو الكون هو الحياة، وهو الآخرون وهو المشاركة، وهو العمل. إنه رمز للوظيفة الاجتماعية للأدب، وتأكيد على أنه لا مصدر للإبداع الأدبي غير الإنسانية. على أن عمر فاخوري لا يكتفي بأن يقول للأديب أخرج إلى الحياة لتعبر عنها، لتتعرف إلى مشاكل ناسها، لتسكنه أسرارها واسرارهم. ليس الأدب إذن عند فاخوري مجرد تعبير عن الحياة، ليس مجرد مسايرة للحياة، وإنما توجيه لها كذلك ولعل هذا أن يكون معنى من أخطر المعاني التي أضافها عمر فاخوري إلى تراثنا الثقافي. إن الأدب عنده التزام إيجابي، ومشاركة فعالة، وتعبير محرك وموجه.
ولكن هل معنى هذا إن فاخوري خرج بالأدب عن حدوده الأدبية، ويجعله دعوة مباشرة خالية من الجمال والفن. لا.. إن الأدب عنده هو أدب أولاً. فما أشد احتفالية بالقيم الجمالية، وحرصه عليها إنه يأبى أن يكون الأديب مجرد محاكاة للواقع وللحياة، بل يريده خلقا وابداعا يرف بالخيال والحلم على حد تعبيره. هكذا كان معنى الأدب عند فاخوري، قيمة جمالية رفيعة، وقيمة اجتماعية موجهة في آنٍ واحد. على أن عمر فاخوري لم يكن أديبًا ناقدًا فحسب بل كان مفكرًا كذلك، يؤمن أن التاريخ تحكمه قوانين علمية، وإن التغيير هو صفته الجوهرية، وإن التاريخ ليس إلا حكاية النزاع المستمر بين قوى التخلف ونزعة التقدم، في فكر الإنسان وأوضاعه، وإن التاريخ تغير متصل نحو الأعدل فالأعدل، والأكمل فالأكمل. هذه بعض ملامح عمر فاخوري، بعض معانيه، بعض عطائه، نموذج رائع للمثقف، المرتبط بتراثه، المتعلق بواقع شعبه، الواعي بالقانون العلمي للتاريخ، المشارك في تغيير الحياة وتجددها.