خالد الشطري شاعر الوطن والفقراء
ا.د.قاسم حسين صالح
كنا في ستينيات القرن الماضي عصبة من الشباب تضم ابن أكبر تاجر في الشطرة،وابن رجل دين بارز فيها،وابن فلاّح يجيد قراءة ” الأبوذيه” وشاب اسمر صار فيما بعد شاعرا غنائيا مشهورا..(زامل سعيد فتاح)،وأنا. وعصرا كنا نتمشى ب(كورنيش) الشطرة من مقهى عبيد الى قصر الحاج خيون العبيد (الذي خصه الملك فيصل الثاني بزيارة في قصره) ،لنعبر جسرا صغيرا ونعود في الأتجاه المعاكس..وكانت (الحلوات ) يتمشين ايضا ويتهادين كاسراب الحمام ، فنخص بعضهن بنظرة من طرف العين( وشحده ) اليتعدى حدوده.
كان زامل وأنا نتبارى بارتجال دارمي حين نرى فتاة جميلة ،وكنت في بعض المرات أغلبه واكثر المرات يغلبني..فعلق أحدهم أن زامل اشطر منك فأجاب..هناك من هو اشعر مني واجمل ارتجالا.
ظهر اليوم الثاني اخذني الى مصور كان اكبر من كلينا عمرا..قال هذا الذي قلت لك انه اشعر مني..فكان (خالد) الذي قرن اسمه بالشطري حبا بمدينته.
سأله:وشسمه الحلو؟..يقصدني.
+ قاسم
نظر لي وارتجل دارمي:
زامل حلو وحباب بس قاسم احلى.
وتدور الأيام فاذا بي ارى (خالدا) في مبنى الأذاعة والتلفزيون.أخذته بالأحضان وجلسنا في (كافتريا ) الأذاعة.
– شجابك لبغداد ابو علي؟
+ جابني الأقوى مني..وانت شجابك؟
– انا اعمل مذيعا باذاعة بغداد
+ معقوله! شيوعي ..وسجنك حزب البعث..وخاليك مذيع!
وفهمت انه يعمل مشرفا لغويا مع انه لم يحصل على شهادة الأعدادية ،ومعه جميل الخاصكي الذي كان ضريرا..يدخل معنا الأستديو ويصحح للذي يقرأ تقريرا اخباريا او مادة اعلامية..قواعديا ولفظيا.
ومن طريف ما حصل اننا كنا ستة جالسين بغرفة في القسم الثقافي الذي كان يترأسه الشاعر (العمارتلي) حسب الشيخ جعفر.نظرت للجالسين واندهشت:
+ ولكم تدرون احنه الكاعدين بنص الأذاعة..كلنا ناصريه!
كان بيننا طالب القرغولي ،زهير الدجيلي(رئيس تحرير اشهر مجلة في حينها ..الأذاعة والتلفزيون)،
حسين نعمه،..وخالد الشطري.
السجن والحرية
من خبرتي الشخصية استطيع ان اقول مقولة( لا تعرف حقيقة الحرية ما لم تعش خبرة السجن)..وخالد الشطري انموذجا لها بوصفه شاعرا.فهو فهو قد خبره في اقسى اماكنه..(نقرة السلمان ) التي امضى فيها عامين ،وسجن الكوت مع الصحفي والشاعر الغنائي وابن مدينته زهير الدجيلي ، وسجن بغداد المركزي..وانتهى في العام 1992 الى اعتقاله في الأمن العامة بتهمة التهجم على رئيس النظام ،وخرج منها فاقد الذاكرة ليغادر الدنيا بعد اقل من ثلاثة اشهر .
شهادات من كبار
كان للشعر مهرجانات تقام زمن الجمهورية الأولى يصدح فيها كبار الشعراء بقصائد في حب الوطن والناس .وكان خالد قد شارك في مهرجان شعري كبير في بغداد ،وبعد ان القى قصائده اعجب به الجواهري فقال له (أتطلع اليك ياشطري مبدعا ومن خلائفي المنتظرين)..وكان كما تطلع،فيما وصفه الدكتور محمد حسين آل ياسين بالشاعر المظلوم نقديا وقرائيا ولم يعط حقه حتى الآن دراسة وكشفا ووقوفا على ابداعه الجميل ..وتعدت شهرته العراق ليصفه الموسيقار العربي فاروق الشرنوبي بأنه من أبرز الشعراء العرب.
وخالد الشطري،بوصف الراحل عريان السيد خلف..ولد شاعرا، وهذا صحي..فالشعر موهبة تولد مع صاحبها،ومن مؤشرات ابداعه انه ترك الدراسة مبكرا،كما فعل بيكاسو ومبدعون كثر وجدوا المدارس ليست بمستوى مواهبهم،فغادروها ليبحثوا هم عما يشبع شغفهم المعرفي ويطور ابداعهم في مدرسة الحياة حيث هي التي تصنع الشاعر وليس المدارس ولا الجامعات.
وخالد ،بينه والشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي،شبه كبير. فكلاهما وقفا مع شعبيهما ،وكلاهما يمتازان بحرارة الأنفعال وصدق المشاعر في تجسيد معاناة المقهورين، لكن الأبنودي سجن ستة أشهر فقط،فيما خالد سجن سنوات، والأبنودي حظي بالتكريم وعاش حياة ممتعة،فيما خالد عاش حياة قاسية ولم يكرمه حكّام يعرفونه حق المعرفة.
خالد..شاعر متفرّد
ما تفرد به خالد انه كتب ثاني موشح بالوطن العربي من مقام اللامي (أجفوةٌ أم دلالُ.. حيرتني با غزالُ) الذي لحنه الموسيقار روحي الخماش وادته فرقة الأنشاد العراقية ،واعتمد مادة دراسية لكل معاهد الموسيقى بالعراق،وفقا لنجله الكاتب والشاعر وليد الشطري.
وانه كان يجيد الأرتجال.فحين سالته طالبة جاءت تأخذ عنده صورة شمسيه بمحله أمام مبنى وزارة الدفاع،ان كان هو نفسه الشاعر الذي وصفه استاذها في محاضرته بالشاعر المبدع المغبون ،اجابها ارتجالا:
(نعم أنا ياحلوة الضفيرة .. نعم أنا الشاعر ياصغيرة
نعم أنا المعدم غير اني .. أمتلك الخزائن الكبيرة
أعيش العمر للقوافي .. أكتبها بأدمعي الغزيرة
…….)
والشاعر نبي زمانه،بمعنى انه يتنبأ بما سيحدث فيقوله شعرا..ففي الألفية الثانية قال خالد:
(حيوا الحسين عدو كل منافق .. باع الضمير بزرقة الدينار).وقال في مناسبة المولد النبوي:
(حاشاك أن ترضى وانت محمد ..شعب يصاد وواحد يتصيد)..وهذا ما حصل للعراقيين في الألفية الثالثة ،حيث باع كثيرون ضمائرهم ونهبوا المليارات بينهم من يدّعون ان جدهم محمدا وامامهم الحسين.
الكاظمي يبادر ..والنتيجة خيبة!
وفقا لما نشر في (الزمان) فان دولة الأخ مصطفى الكاظمي وجهّ مكتبه بمتابعة ملف الشاعر خالد الشطري.ولكن المبادرة توقفت لأنه لا توجد وثائق او كتب تؤيد أنه كان سجينا سياسيا برغم مراجعات نجله وآخرين الجهات المعنية،ليمنح راتبا وقطعة أرض (بالمناسبة..انا،وآخرين، سجناء سياسيين ولم نحصل على قطعة أرض).
ولنقل، لنعفي السيد الكاظمي من منح الراحل راتبا وقطعة أرض لأنه لا يمتلك المستمسكات المطلوبه التي تخوله ولا تساءله..ولكن خالد شاعرا كبيرا كتب قصائد في حب الوطن والناس وغنى له مطربون اغنيات بحب بغداد والعراق..ومستمسكاتها موثقة..أفلا يستحق التكريم لمن غنى للوطن والناس؟.ألم تصدح مائدة نزهت بأغنية (هذا انا الوطن) ،ومهند محسن بقصيدة بغداد ،وانوار عبد الوهاب وفاضل عواد..والفنان الملتزم الكبير لطفي ابو شناق الذي أشجانا وابكانا بقصيدة خالد (ما للمدينة أغلقت ابوابها)..
الا يكفي هذا يادولة رئيس الوزراء ويامعالي وزير الثقافة لتكريم شاعر فيه تكريم لمدينته الشطرة ولوطنه العراق ولكل من وقف بوجه الطغاة مجسدا مقولة الحسين..هيهات منّا الذّلة؟!
عتب لاهل الشطرة..ودعوة
اعجبني اهل مدينة الحلة بنحتهم تمثالا لشاعر مدينتهم (موفق محمد) ونصبه في مكان بارز ،ليعيش موفق هذا التكريم وهو حي..وكان على اهلنا في الشطرة اقامة تمثال لخالد منذ زمن.ومع ذلك ،ما تزال الفرصة قائمة، بتشكيل لجنة ،يكون فيها الأتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق،تقوم بتوجيه الدعوة للتبرعات من اهلنا في الشطرة ومحبيه في داخل الوطن وخارجه. واقترح ان يتم نصبه مقابل مقهى عبيد في رأس الجسر الذي يتوسط المدينه..يكتب تحته بيته الشعري:
( الارض أرضي والتراب ترابي& فعلام تسلب من يدي أتعابي)
ليكون رمزا لكل من لم يحني رأسه لطاغية،ولتتباهى به الشطرة..مدينة الفنانين والأدباء والمناضلين والشعراء.
*