حين تتقدمك المحكمة فتقف امام حاكم يحكم بالعدل المتعارف عليه ، تحس انك غير مغبون ولن يغبن حقك – حتى ولو كان ذلك الحاكم جلفا ، فظا ، ، غليظا ، بلا أخلاق ، او أسلوب مستقيم للكلام ، او منطق للحديث الصحيح – فيرضيك انه عادل ، وتقف أمامه مطمئنا مما سيحكمك به وسلواك انه بجلافته انما يؤنبك على اخطائك ولكنه انسان شريف .
وحين تقف امام حاكم ظالم ، لم يتعرف على العدل يوما ولم يمر به ، ولكنه بوجه يضحك ، واسلوب رقيق . وعندها ليحكم عليك ما يحكم وتتقبل انت ظلمه كما يتقبل السمّ الزعاف ، من ياكله مغلفا بقطعة لذيذة من الشوكولا مع الحليب والسكّر.
تلكما حالتان قد يبدو بينهما التناقض ولكنهما حالتان مقبولتان لعقل الانسان المغلوب على امره المجبر على الوقوف امام قدره .
ولكن ، ان يرفسك حاكم رديء الخلق اكثر جلافة من التمساح بل هو اكثر منه فظاظة ، لايبكي امام فريسته كالتمساح بل ، ولا ترمش عيناه حتى ، وظالم ، فتلك مسالة اخرى .
كان هذا الاخير هو ما حدث لي ، حين كنت في اول خدمتي بالعسكرية التي دخلتها بعد تخرجي من الجامعة . المشكلة انه كان كبير الرتبة كبير العمر وكان الجنود يسمونه ” ابو حمرة ” وكنت اظن التسمية ، للوهلة الاولى ، قد جاءت من تلك الشَرطة الحمراء التي يضعها بجوار رتبته التي يسمونها الاركان .
وكنت صغيرا ، بعمر ابنه الصغير.
سالني ” الآمر” بعد ان انزعوني النطاق وغطاء الراس الذي يحمل شرف دولتهم وجردوني من كرامة قانونهم العسكري :
⦁ انت من أي محافظة ؟
كنت أود لو أقول له ان ليس هناك علاقة بين محافظتي وما انا واقف لاجله . ولكني خفت ان يحطمني تماما بعد ان رايت الحقد الطائفي والجغرافي ، الكامن في عينيه ، . كانتا تكادان تومضان مما يشوبهما من كره تجاه من يحملون جنسيته . كان عدائيا اكثر من خنزير جريح .
⦁ من محافظة البصرة ، سيدي . قلت بكل ادب وانا مكتوف تماما ، في وضع الاستعداد .
⦁ طاح حظ البصرة ، اللي تجيب هالشكول !!.
كان حاكما بالظلم . وقد تجاهل ان البصرة هي من تملا جيوبه بالمال من نفطها وموانئها . كنت ساكتا مغلوبا على امري ، وكان عندي امل يائس ان هذا الحيوان سيهدا بعد ان يصب جام غضبه بي . وكنت امل انه من كلاب ازبال المدينة التي ستهدا دون ان تعض بعد ان تشبع الغرباء نباحا .
ثم سالني :
⦁ يقولون انك خريج كلية ؟
⦁ نعم سيدي .
⦁ من طاح حظ الكليات ، اللي تخرج هالشكول !!.
مددت يدي اردت التاكد من وجهي ، وتثبيت بنطالي الذي راح ينزلق ، فانا كخريج قضى حياته ، لغاية تلك اللحظة بين المدارس والجامعة ، فصرخ بي :
⦁ لاتتحرك اغبر . اخذه رئيس عرفاء وحدة ، ذبّه شهر سجن .
كانت تهمتي اني ، غفلة ، لم اقل للضابط سيدي ، بل ناديته باستاذ .
اسقط ذلك ، محافظتي البصرة ، سلة غذاء ه ، ومحافظته ، وعائلته . تلك مدينة الله ، التي اختبا فيها الحجر الاسود ما جاوز العشرين سنة في ايام ثورة القرامطة الخارجين على ظلم الانسان المستذئب لاخيه الانسان الفقير. واسقط كليّتي التي خرّجت عشرات الالوف من الساعين للحياة ، غيري .
ولم يسالني عن تهمتي . ولا اعذاري . مع ان قوانين الاخلاق تستدعي سقي الحيوان الماء قبل قتله .
وليتني عثرت عليه الان لأساله قبل إصدار الحكم عليه ، لماذ كان يحمل كل ذاك الكره لي . واين هو الان ؟ وفيما اذا كان قد قبر مع الدكتاتور ، …… رصيده ، في السقوط !!
مسلم السرداح