د.عبد الجبار العبيدي
لماذا ……؟
أختلفت أراء المؤرخين في سبب اختيار الامام علي بن أبي طالب(ع)مدينة الكوفة عاصمة لدولته الجديدة بدلا من المدينة المنورة في القرن الأول الهجري،وأختلاف وجهات النظر جاءت لاختلاف وجهة نظر المصادر والمراجع والباحثين على مر العصور. ان الأختلاف لا يفسد في الود قضية ،لابل يزيدها قيمة وأهمية.نحن لسنا بصدد عرض الأختلاف بقدر ما نهدف الى توضيح الأسباب فنقول :
في عرضنا السابق لمدينة الكوفة أشرنا الى نقطة هامة وتعهدنا بها للقراء الكرام بضرورة المعاودة اليها لأستجلاء ما غمض من ملا بسات الامور التي دعت الامام علي بن أبي طالب (ع) ان يعتمد مدينة الكوفة عاصمة له بدلا من المدينة المنورة.
وتلك مسألة شائكة ومهمة يجب ان تدرس بعناية لبيان الاسباب والمسببات والظروف التي احاطت بالأمام الفذ لأتخاذ مثل ذلك الموقف الخطير والذي – مع الأسف – لم يوفق فيه بعد ان خسر حياته الغالية على الأمة في هذا القرار.
بدأت القصة كما ينقلها لنا الطبري (4/455) عندا بلغ الامام عليا خبر اجتماع طلحة والزبير الى البصرة ،وبالذي أجتمع عليه ملؤهم من (قتال علي)،هنا صمم الأمام على مبادرتهم في تعبئته التي كان قد تعبى بها الى الشام،وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخفين في سبعمائة رجل،وهو يرجو ان يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج،فلقيه عبدالله بن سلام الذي أخذ بعنان فرسه وقال :يا أمير المؤمنين،لا تخرج من المدينة،فوالله لئن خرجت منها لا ترجع اليها ولا يعود اليها سلطان المسلمين أبداً.لكن الأمام لم يأخذ بالنصيحة وصمم بالمسير الى العراق.
ان هدف الامام في البداية هو الشام وليس العراق بعد ان رفض معاوية الطاعة للخلافة . يبدو ان رأي أبن سلام كان صائبا ،وكان من الممكن للأمام ان يبعث الى الشام من قيادته بقوة ضاربة حاسمة لتقضي على طموحات معاوية في أقل وقت ممكن دون خسارة المدينة. اعتقد ان الأمام لم يظن ان معاوية له من القدرة ما يواجه الدولة فيما بعد،ولان بعض قواده نصحوه بالعراق اولاً،انها فكرة جاءت بالبلاء العظيم عليه وعلى الخلافة معاً. ويبدو ان عبدالله بن سلام كان هو المخلص الأكثر للأمام ،لكن الامام كان يعتقد ان التوجه للعراق سوف يكون قصيرا ليعود الى الشام لتصفية معارضيه هناك،وبذلك تنتهي مشكلة العراق والشام دون تبعات عليه.
وفي خبر أخر ينقله لنا الطبري :ان فريقا من البصريين طلبوا من الامام التوقف عن ملاحقة طلحه ورهطه ولا يترك المدينة،لكن الامام رد عليهم لن أقبل بخلافة منقوصة ،واذا لم أنظرفيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكفوا عني ،فسكت القوم.
أنها محاورة ما قرأتها الا زاد حبي بالأمام (ع) وحزني على ما أصابه.، فقد كان والله رجالا في رجل من أيمان بالغ وصدق عميق وتضحية قل نظيرها.لكن يبدو انه لم يثق كثيرا فيمن معه فالتجارب علمته الكثير،وفيما كان له الاحسن لو وثق بعبدالله بن سلام وقبل رأيه. هذه الثقة كانت أمراً يحتاج الى سياسة،وعلي (ع) الذي عانى الكثير – كما رأينا- منذ تولى أمر الخلافة بعد أزمة الخليفة السابق وما أحاط بها من تقولات جعلته حذرا من كل رأي دون تدقيق وتمحيص،كان يريد ان يثبت مكانته دون اللجوء الى السياسة،وكان الأفضل له لو لجأ اليها في تلك المعركة التي خاضها مع معاوية ورجاله، وكانوا أهل سياسة قبل أي شيىء اخر.والسياسة والمبادىء دوما يكونان على طرفي نقيض.
ان وجهة نظر المؤرخ المحايد تؤيد لو أن الأمام اقام في المدينة المنورة وتصرف منها كما نصحه ابن سلام،لأتته الجنود من كل مكان،بدلا من ان يذهب هو اليها،فأن مقام رئيس الدولة في عاصمتها يخلع عليه مهابة وجلالاً وقوة واحتراما،ومجريات الأحداث تخبرنا صحة هذا الرأي عندما بدأت قبائل العرب تقبل عليه كما يروي لنا نصر بن مزاحم المنقري .لكن تداخل الظروف قد حالت دون ذلك.
ان المشكلة ليست في الأستشارة من عدمها وهو المستشار الأول،لكن المشكلة تكمن في المبدأية في حماية الدولة والناس خوفا من التبعثر،فقد كان الامام يرى الحق ما لا يراه غيره في كل مواطن الحدث ويرى المستقبل لها غير ما يراه غيره،لقد أدى بلسانه ويده عما جنَ عليه أخلاصه وضميره النقي ،فكانت صفين والنهاية المحزنة لخلافة لو نجحت لاختلفت أمة الاسلام عما سارت عليها من خطأ التقدير فيما بعد، ولما نكب الأسلام بخلفاء غيروا مساره نحو الخطأ والدمار،ولا زلنا نعاني منها الى اليوم.
وهنا علينا ان نعود بالاحداث قبل صفين لنسأل انفسنا –مجرد سؤال- اتكون حركات معاوية وتمرده في الشام لها علاقة بخروج طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام من المدينة بعد بيعة الامام وذهابهما الى البصرة لاثارة المعارضة ضد خلافة الأمام.نحن هنا نطلب الحقيقة وهي مؤلمة أياً كانت،وليس من واجب المؤرخ دائماً ان يعثر على الحقيقة،لان واجبه الاول هو عرض القضية بوضوح، وعلى القارىء ان يستنتج أو يحكم بعد ذلك بما يشاء بعيدا عن راي العوام وعن كل عاطفة .
.
لقد كان الامام يعلم تماما بما يريد في البصرة،ويعلم أنهما من الذين حرضوا على قتل الخليفة الثالث عثمان (رض)،وكان طلحة يعلم ويعرف انه يقاتل اماما لا تؤخذه في الحق لومة لائم ولا يلين للباطل أبداً،حين قال : ما تركت طلحة وذهبت أبحث عن مخلصين الا بعد ان تيقنت أنه لا يؤتمن في الملمات لما في قلبه من غل نحونا.
لقد كان الامام يدرك مسئولية الدولة وحقوق الناس فلن يهمه طلحة والزبير وغيرهما ،أنما في رأسه الحق والعدل ولا غير سواهما. وكان لا علاقة له بحادث مقتل الخليفة ابدا،فقد ألتزم الحياد منذ البداية،لكنه كان يرى ان المشكلة نفسها في عثمان وأصراره العجيب على التمسك بالخلافة رغم المعارضة الشديدة ضده حين قال الخليفة المقتول : (أما أن أتبرأ من الامارة فأن تصلبوني أحب الي من أن أتبرا من أمر الله وخلافته).
وهذا الذي قاله عثمان مبدأ خطير،وكان ينبغي ان يناقشه الفقهاء ،لأن الخلافة ليست بأمر الله بل كانت من الناس،والناس كما ولوه كان لهم ان يعزلوه اذا لم يرضوا عن سياسته وهذه هي الشورى .
نعم ، نحن اليوم بحاجة الى منهج دراسي جديد يتعلم فيه الناس حقوقهم وحقوق القيادة وكيف يجب ان تطبق الشرعية في حكم الناس.وهذا ما نفتقده الآن حتى اصبح رئيس الدولة يعتقد انه هو الدولة ولا تغيير، مبدأ نادى به لويس الرابع عشر من زمن بعيد ورفضه الاسلام.
بعد هذه الاحداث الجسام وما حل بالمدينة من امور السياسة والمعارضة ،فلم تعد المدينة المكان المناسب لعاصمة الدولة،مما شجع الخلافة على الانتقال الى مكان يرى فيه الافضلية في حكم الدول ،فهل كان القرار صائبا؟
الكوفة مدينة نشأة سنة 17 للهجرة على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض)،والاسباب التي شجعت الخلافة على أنشائها،هي وقوعها في حافة الصحراء لا يفصلها بحر عن المدينة،فالأتصال الفضائي بهاقائم بالذات،بالأضافةالى الأسباب المناخية الجيدة التي وردت في أغلب الروايات.ان الاختيار للكوفة كعاصمة مرده انها أصبحت بعد الفتح المكان الجديد والمناسب لتجمع هائل من القبائل العربية التي جعلوا منها مكاناً سامياً للتاريخ المضطرب ورحما أساسياً للحضارة والثقافة الاسلامية الجديدة.
لقد هدف الامام من تخطيطها وتنظيم الفضاء الداخلي لها لجعلها مركزا للأستيطان العربي الاسلامي الجديد ،حتى ظهرت المدينة كقضية حضارية جديدة،فهي لم تعد معسكرا للجند كما خطط لها الخليفة الثاني ،بل أصبحت مدينة حقيقية متكاملة الوظائف وهو توجه معقول ومقبول.
ان بنية الفضاء الداخلي للمدينة واقامة المساحة المركزية فيها،اصبحت اختيارا موفقا كمركز للسلطة والدين والتجارة بعد ان تمدنت واصبحت تفي بالاطار السياسي لوجودها وتطورها والرسم الذي انطلق فيه بناء المدينة ونشوئها.انها كانت نقطة البداية لنواة عملت على ملىء الاتجاه الذي سيكون عليه التطور المقبل في الدولة الاسلامية . بعد ان اصبحت نموذجا ًللامصار الاسلامية التي بنيت بعدها ،باعتبار ان هذا التخطيط كان منظما ومدروسا اكثر مما يكون الانتظام ،لكنه كان بحاجة ماسة الى أدامة وتطوير مستمر.
ومن وجهة نظري ان هذه المدينة المنشأة وفكرة بنائها واتخاذها كعاصمة جديدة للدولة تشكل استثناءً في تاريخ الاسلام ، لان من النادر ان سبق تصورها او تصميمها،وهي دليل مادي ثبت ان العرب عرفوا بناء المدن وتصميمها وفتح الشوارع العريضة فيها وبناء دار الامارة والمسجد الجامع، والموقع الاستراتيجي لها على طرق التجارة والاتصالات مع الدول المجاورة ،فهي ليست بعيدة عنها ولا تفصلها الموانع الطبيعية كما في المدينة المنورة التي خسرت فيها الخلافة هيبة التقديس .
لقد اصبحت المدينة الجديدة النواة لتشكيل المدينة الاسلامية وكيف تطورت في العهدين الاموي والعباسي حين اعتمدالتضامن البشري في الكيان القبلي القديم رغم ان هذا الاعتماد لم يكن له أدنى مفعول على جغرافية الخطط ،وبالتالي على بنية الحزام للمدينة الجديدة.هذه المدينة التي اصبحت فيما بعدالموقع الاستراتيجي للفتوحات الاسلامية فيما بعد لقربها من مناطق الفتوح وغناها،وما استقرت فيها من قبائل قوية لعبت دورا في تثبيت الدولة وأتساعها.
وختاماً نقول : ان بناء مدينة الكوفة واتخاذها عاصمة للدولة اصبحت في عهد الامام قضية تاريخ شمولي اكثر من ان تكون قضية تمصيرمدينة او أعمارها.
هذا التوجه الجديد نحو الكوفة أرى فيه تقويماً على القديم المتعارف عليها في بناء المدن والعواصم وحياة السياسة والثقافة والقضاء في عهده الميمون، لينفتح على الحياة بهذا الفكر الحضاري ولا يعطلها. ويفتح ابواب التلاقي بين القديم والجديد المتحرك ،مدركاً انها ستكون صاحبة مبادرة جديدة لتآلف القبائل المتخاصمة، بعيدا عن ذكريات الردة والحروب وما علق في الآذهان من مآسيها، أملا في تطبيق الحرية والعدالة وقيم الحكم الجديد بين الجميع ، ليغير المفاهيم المتوارثة في ميادين المعرفة لصنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان المسلم قائمة على العقل العلم والحرية وليس على القبلية والثارات القديمة، التي آمن بها هذا العملاق الجديد في حكم الدولة. لتكون بادرة جديدة في توزيع العدل الآلهي المكلف بتطبيقه في مجتمع لم يعرف الا الفرقة والحرب والتعالي على الأخرين. ان فلسفة التشريع التي حملها الامام الى الناس ولا يرى فيها فرقة أوتباعداً،تطبيقا لفلسفته العظيمة التي يقول فيها مخاطبا والي مصر(اسمع ياعمارأنظر الى من معك من الناس أما ان يكونوا أخوة لك في الدين أو نظراء لك في الخلق) نظرية جديدة حملها الامام لبناء الدولة والانسان ليحدد سلطة الدولة عن حقوق الناس عرفها وطبقها قبل فولتير.
من هنا اراد ان تكون الكوفة عاصمة جديدة بثوب جديد ليس فيها أنتقالأ من طغيان الى طغيان، بل من عدل الى عدل أكثرليسود الأستقرار بين الناس. وهو يعلم ان الاسلام أقر للانسان بالايمان الذي يشاء،وحقه في الدين واللا تدين الذي يرضاه (لكم دينكم ولي دين) فلا ردة ولا مرتد ولا رجم ولا قتل بل قانون وتطبيق على الكل سواسية دون تفريق. فالسياسة عند الامام شأن جمعي ، والدين شأن فردي . لا يجوز الخلط بينهما والحقوق لكل الناس دون تفريق، هذا ما لم يعرفه المسلمون ابدا عبر تاريخهم الطويل والى اليوم. لقد أدرك الامام منذ عصر مبكر نظرية الحقوق ،لكن القدر قد عاجله فمات وماتت معه نظرية الحقوق.
من أجل هذا كله كان مشروع مدينة الكوفة الكبير لتنطلق الدولة نحو عالم الحرية والاخاء والمساواة دون تفريق. وليس الانتقال اليها كما يتوهم البعض ليحارب الأعداء ،أو ليبني حصناً يلتجا اليه من الأعداء.لم يكن هذا القائد الفذ يخاف احدا أو يخشى أحدا،الا الحق والوجدان،ألم يقل يوم أستشهاده حين طلب منه عدم الذهاب الى المسجد خوفا من الخوارج،فيرد على اصحابه:ان من يريد ان يحكم بين الناس بالعدل يجب ان يكون بينهم،فرق كبير سيدي ابو الشهداء بينك وبين من يخافون الموت اليوم وهم في قصور مشيدة تحيط بهم حراسات الليل.
فلسفة حياتية جديدة أرادها الامام العظيم للاسلام والمسلمين مستمدة من النطق الآلهي السامي في القرآن،هذا الرجل العادل من يستحق الأنتماء اليه اليوم عمار بن ياسر أم نحن وصعاليك القصور ؟