حياة
قصة
قريتها يخترقها طريق رئيسي قاسما إياها قسمين . احدهما و هو الذي يقع فيه محل حياة يقع شمال الطريق ، و يعادل ثلث مساحة القرية . أما القسم الثاني فهو الذي يضم الثلثين الباقيين فيقع في الطرف الآخر للطريق متمدداً على التلة المتجهة صوب الجنوب .
تتراصف البيوت مقتربة من بعضها البعض لدرجة لا تسمح إلا بتوفّر مساحة صغيرة جدا حول كل بيت تتزاحم فيها هي الاخرى المزروعات و الأشجار . في النقطة التي ينتهي فيها تراصف البيوت يبدأ انحدار التلة بشكل متوسط مما سمح بإنشاء مدرجات زُرِعت بأشجار الزيتون الذي شكّل محصولاً رئيسيا للقرية و للقرى المجاورة .
ينتهي المنحدر بساقية كبيرة تجري المياه فيها شتاء هادرة كهدير مارد اقتلعوا عينه ، و في الصيف يبدو صوت المياه فيها كاحتضار عجوز داهمه الموت فجأة .
قسم القرية الذي يقع فيه محل حياة ينحدر بشكل ألطف من القسم الثاني منتهيا بنهر صغير تتسارع فيه المياه شتاء هادرة هي الأخرى كمارد سمع هدير أخيه الذي اقتلعوا عينه فآزره بالهدير ، و في الصيف يتضاءل الهدير ليصبح كنواح عجوز داهم الاحتضار شريك عمرها بين يديها فجأة .
على جانبي الطريق يوجد القليل من المحلاتةالتجارية ، و الدكاكين الصغيرة التي استغل أصحابها هذا الموقع الهام مما سمح بنشاط جيد لحركة المبيعات بالنسبة لقرية صغيرة كقرية أمك التي يخترقها هذا الطريق هي ، و العديد من القرى الأخرى التي تليها على ذات الامتداد .
محل حياة يتوسط محلين آخرين .. على يمينها محل لبيع الأدوات المنزلية ، و على الجانب الآخر يوجد محل للبقالة .
أمام هذا المحل ، و في ذلك النهار الشباطي العاصف توقفت سيارة سوداء اللون نزل منها احد الراكبين ، و دخل سائلا البائع بعد تحية عادية :
– أخي الكريم هل يؤدي هذا الكريق إلى بلدة (( …. )) .
– إنها التالية بعد هذه القرية مباشرة .
– كم تبعد من هنا تقريبا ؟ .
-إذا تابعت شرقاً تصلها بعد عشر دقائق .
– اشكرك .
فيما كان يتهيأ ليخرج دخل طفلٌ صغير المكان . دخله باقتحامٍ مرحٍ لروح حلوة ، و وجهٍ مبتسم . ابتسم عطا بشكل تلقائي عندما رآه ، و تمهّل قليلا .
بلغة متعثرة قليلا بالنسبة لطفل لم يبلغ الرابعة من عمره طلب عدة أنواع من مأكولات الأطفال . اتسعت ابتسامة عطا عندما سمع كلامه ، و وقف بعد ان كان يهم بالخروج .
– تكرم عينك جادو الحلو
أعطاه العم عباس ما أراد فأسرع جاد يريد الخروج فسأله البائع مازحا :
– ألن تعطيني ثمن مأكولاتك يا جاد ؟
– ماما حياة ستعطيك .
و خرج جادو الحلو راكضا متحديا الأمطار التي تنسكب من السماء ، و الريح التي تلف المكان بغضب .
تبعه عطا فرآه يدخل المحل المجاور . عاد إلى البقالية طالبا علبة سجائر ، و فيما كان العم عباس يحضرها سأله :
– ابن من هذا الطفل ؟
– إنه يتيم من أيتام هذه الحرب .
– مسكين
– نعم مسكين ، و لكن ربك لا يقطع بأحد .
– من يربيه ؟
كانا يتابعان الحديث بشكل طبيعي كأنهما يعرفان بعضهما البعض سابقا معرفة وطيدة ، و ليس كمعرفة غريبين التقيا مصادفة زمن الحرب .
– حياة الخيّاطة تكفّلت بتربيته .
– جيد … هل هي مالكة المحل المجاور الذي دخله الطفل ؟
رفع العم عباس رأسه في تلك اللحظة عمّ بيده ، و كأنه أدرك فجأة أنه يتحدث إلى غريب عابر عن امور تخص القرية . تنحنح قليلا ثم اجاب :
– نعم هي مالكة المحل المجاور … لِمَ تسأل ؟
– لا شيء … فقط فضول لا أكثر بعد ان أخبرتني أن الطفل يتيم .
– حسنا .
لفت انتباهه أنها تكفّلت بتربيته فلعب الفضول في قلبه ليتعرّف إلى هذه الإنسانة التي تربّي ابناً لا يمتّ لها بصلة قرابة مهما كانت درجتها .. مَن تكون ؟ و لماذا تفعل ذلك خاصة في ظرف الحرب الذي تمر به البلاد ؟ .
أخذ عطا علبة السجائر و اشترى مأكولات كتلك التي اشتراها جاد منذ قليل . ودّع البائع و خرج ، و بدلاً من الذهاب إلى السيارة التي كان رفيقه ينتظره فيها بنفاذ صبر اتجه إلى المحل الذي دخله الطفل جاد قبل دقائق .
فتح الباب الزجاجي ، و دخل متوقعاً أن يرى الخيّاطة حياة منهمكة بعملها ، او زبائنها ، و لكنه فوجئ بالطفل الصغير جالساً على الكرسي الوحيد الفارغ من الأكياس الملونة ، و هو يلتهم مأكولاته التي اشتراها .
تعالى صوت الخيّاطة من مكان ما خلف الستارة عندما سمعت صوت الباب يُفتَح و يُغلَق : ( أهلا و سهلا …دقيقة فقط ) . لم يجبها عطا بل وقف في مكانه بعد أن أغلق الباب منتظراً قدومها .
دقيقتان … ثلاث دقائق ، و تحركت الستارة قليلا لتظهر من خلفها حياة حاملة على محياها نظرة مستطلعة ، و مستقبلة في آن معا ، و ابتسامة روتينية اعتادت رسمها على شفتيها بشكل آلي عندما تقابل زبائنها .
– تفضل .. بم أخدمك ؟
– كنت في المحل المجاور عندما كان طفلك يشتري ، و قد نسي بعض مأكولاته فأحضرتها له .
– آه … شكرا لك .. أتعبناك .
– لا أبدا … من دواعي سروري.
توجهت بنظرها إلى جاد المنهمك في الأكل و هو يهز رجله علل الكرسي مستغربة منه هذا التصرف ، و هو المعروف بمدى حرصه ، و حذره على ألا يضيع ، او ينسى شيئا من أغراضه الخاصة لا سيما مأكولاته الحلوة .
( اشكر العم يا جاد ) بفمه الممتلئ قال كلمة مختصرة : ( شكرا ) ، و تابع عمله بالقضاء على مأكولاته .
خلود أنيس إبراهيم