حورية الغناء
ما سر تموج البحر؟ كلما اتكأ الشفق على منكبي افق وَدَّ أن يغمض عينيه لولا طيف نغمة ساحرة اضاء ببريقه طبيعة حالمة؟
ما سر هذا الشهب الذي يعتزل مرقده ليرافق انغام الموسيقى، فيضيء السماء بوهجه ولا يفارقها قبل صحوة عصافير الجنة؟
هي حورية غزلت الانغام على عود زرياب؛ تشدو الاندلسيات، تدندن العتابا والميجانا بصوت يغار منه الحسون ويسحر العندليب فيهوى كعاشق ولهان نَسِيَ سربه ليعيش احلى قصة حب عذري.
ومن لا يعرف حورية الغناء؟ تمر كومضة، تفتن شعراء لامسوا النغمات قبل ان يرفرف الحرف على مقلتي مخيلتهم؛ تطفو كزبد بحر لم يلبث ان صافح شواطئا ليقف مذهولا، يترنح على اوتار قيثارة قبل ان يغادر معشوقه؛ تراقص الامواج فتزهو ثملة… وما إن يصحو البحر من سكرته ينتفض، يزمجر مع تألق صوتها، يعانقها من شدة ولعه بها ثم يودعها قبل ان ترقد في حضن الانتظار.
حورية الغناء تأتي كل يوم على الشواطئ الذهبية ترسم بخفة نغمة خيالية، تبارك بصوتها الشجي زوارا ايقنوا مزايا المعابد وتيمموا بطهر المياه القدسية، قبل ان تعود الى زاويتها بعد ان تلامس المرجان الذي، كل صباح، يتطيب من خمرة خدها وزهر ثغرها وزركشة الوان هندامها.
وحينما يحل الليل يتطاير الدخان من الفانوس السحري يتألق في السماء برقصة تعبيرية على صدى انغامها، لا يتعب قبل ان يأتي الفجر. يذوب الدخان مع اول بريق صبح ساكن، وعلى وقع اقدام كبرياء مارد يتلاشى. يتوارى الظلام خلف الجبال محدقا بهذا المخلوق الغريب الذي حل فجأة ليقضي على أجمل آخر لحظات عاشتها الطبيعة.
تتقدم حورية الغناء بعفويتها وروحها الطاهرة، فتقف امام هذا المتغطرس والكل في حالة ذهول وترقب. ايقونة الغناء تخاطر بنفسها فتقع فريسة وحش شرس لا يعرف الرأفة ولا الرحمة.
ينتابها الخوف للحظات؛ تتزايد دقات قلبها مع كل خطوة يخطوها نحوها. تنكمش روحها كلما نظر اليها نظرة وحشية. يقشعر بدنها فتناشد أوتار صوتها لتنقذها من براثن هذا المفترس. لكن للأسف تضيع النغمات في نفق مظلم فيغيب صوتها لأول وهلة. تتراجع خطوات، لكن الوحش لا يستكين؛ يقترب منها يكتم على انفاسها ثم يصرخ بصوت صاخب مرعب علها تقع صريعة بين يديه. فتنتفض حورية الغناء بصوت مدوي، تزلزل الأرض بصدى صوتها، فيخر المتعجرف مستسلما.
تحلق النغمات الموسيقية معلنة انتصارها، وتعود حورية الغناء الى موطنها بعد ان ابهرت عشاقها وروضت ارواحا شريرة لتطير في ما بعد الى افاق جديدة تنشر فيها مجد الغناء ولذة الحياة.