عزيزة رحموني
خيري حمدان قلم مهاجر ، في قلبه الفلسطيني يغرد الإنسان بأكثر من لغة. نظَم القصيد و سرَد روايات وألّف مسرحيات عديدة .صرخ ذات مرّة:” دعني أعيش دعني أموت” …ناجى شجرة التوت بالعربية و تمتمَ:”مراكبي” ذات مرّة و مرّة أخرى همس لأوراقه: “أرواح لا تنام”…اليوم خيري حمدان فتح لنا شواطئه فرَسَا الحوار التالي على إحدى موجاته…لنتابع:
نودّ في البدء اكتشاف بعض منك…فهل تفتح لنا شبابيك قلبك لنعرفك أكثر؟
حين يفتح الشاعر والأديب روحه يدلف الكثيرون إلى مداراته وعوالمه، قد يشعر الأديب أحيانًا بأن المكان بات مكتظًا لهذا تجده يفضّل المغادرة. لكنّي راغب في حواري مع الأديبة رحموني عزيزة أن أفتح بعض النوافذ المؤدية إلى متاهات حياتي وسيرتي. أحيانًا لا أعرف كيف أجيب حين يسألني أحدهم “من أين أنت؟” يومًا ما كانت الإجابة سهلة للغاية، أسارع بالإجابة “أنا من فلسطين.” لكنّي حين تجوّلت في بلاد الله الواسعة وعرفت الحضارات الأخرى باتت الإجابة صعبة بل مركّبة. أنا حقًا من فلسطين، لا يمكن لأحد أن يغيّر هذه الحقيقة، لكنّ فترة المراهقة وبدايات مرحلة الرجولة أمضيتها في الأردن، ولهذا البلد فضل كبير عليّ. ثمّ انتهى بي المطاف في بلغاريا حيث حصلت على الجنسية البلغارية. وحين صدرت أوراقي ووثائقي الشخصية، فوجئت بأن وزارة العدل البلغارية قد اعترفت بي مواطنًا من أصول إسرائيلية. لأنّه لا توجد خانة أو دولة لدى الوزارة مسجّلة باسم فلسطين.
هل ترين هذا التعقيد سيدتي. أعتقد بأنّني قد أصبحت مواطنًا كونيًا، ولدت يومًا في العام 1962 في قرية صغيرة تدعى وما تزال تدعى “دير شرف”. مواطن دلف إلى المعاهد العليا ليحصل على شهادة جامعية في الهندسة، وما أن انقضت بضع سنوات حتى أصبح أديبًا وصحفيًا. هي الحياة ملأى بالتناقضات وهذا أجمل ما فيها. سيرتي الأدبية مركّبة وتنقسم لمرحلتين، فقد بدأت الكتابة باحتراف باللغة البلغارية وأصدرت العديد من الدواوين والروايات والمسرحيات موّل بعضها من الاتحاد الأوروبي، ولعبت على منصّة الدارة الثقافية الأوروبية في صوفيا، ثمّ فتح لي الانترنت الفرصة لأدلف عالم الأدب العربي، وليس لديّ نوايا بالخروج من هذه الساحة ومن ميادين هذا العالم الجميل، إكرامًا للقضايا الوطنية والمصيرية للأمة العربية ومحبّة لهذه اللغة المعجزة
.
بين الحلم واليقظة يتفتق المخيال أحيانا ويدفع إلى الإسراء بين القلم والدواة..هل يحدثنا حمدي عن طقوس اقترافه للكتابة؟
الأديب لا يجد بدائل عن اقتراف الكتابة، إذا لم يفعل ذلك فإن الكتابة ستقترفه وستعمل على خلق طقوس لإقلاقه وقضّ مضجعه طوال الوقت. لا بديل عن الكتابة، إنها المساحة المحايدة ما بين الجنون والإبداع، بمعنى أن المحكوم بالأدب والكتابة لا يعرف راحة سوى في رفقة القلم وبكافة تجلياته. لكن يجب أن تسبق الكتابة والرغبة بتعاطيها الحصول على معارف كثيرة وهذا لا يتأتّى سوى بالقراءة، وإلا جاءت النصوص ركيكة سطحية بلا معنى. إذا توفرّت الموهبة والمخزون المطلوب من المعارف إضافة لدفق المشاعر عندها يصبح فعل الكتابة واقعًا وحقيقة يتّسم بالجمالية والتميّز. لا توجد طقوس معيّنة للكتابة، أحيانًا أتحدث لأحد الأصدقاء وما أن ينطق بجملة ما حتى أجد النصّ قد بدأت ملامحه واضحة في مخيلتي، خاصّة وأن هناك الكثير من الحوارات والسيناريوهات المتواصلة في ذهني بشكل دائم. هناك صراع دائم في مخيلتي ما بين أبطال رواياتي ومسرحياتي وقصصي، جميعهم يبحثون عن مخرج في الورقة، في الصفحة المتطايرة، ليصحبون قابلين للقراءة. لهذا أسارع إلى خطف القلم أو نثر ما يتفاعل في ذاتي على صفحات الوورد مباشرة.
ابنتي تدرس الموسيقى وكنت أرافقها في صغرها لدروس البيانو في مدرستها الموسيقية المتخصصة منذ الصفوف الابتدائية الأولى. بدوري لم أكن أعرف أصول الموسيقى وعلومها، وكانت المدرّسة تطلب منّي تدوين الملاحظات للحصول على أفضل نتاج موسيقي من بين أصابع ابنتي الموسيقية مريم. هكذا تراكمت لديّ ثقافة موسيقية لعدّة سنوات، وفي إحدى الليالي تدافعت المصطلحات الموسيقية مرّة واحدة طالبة الخروج من ذاكرتي بصيغة شعرية.
Crescendo, Pianissimo, decrescendo, forte
وغيرها كثير من هذه المصطلحات سكبتها في قصائد عديدة حتى ساعات الصباح الباكر، أعتذر لعدم نشرها بالعربية لأنّها كُتبت باللغة البلغارية آنذاك.
لهذا أجد بأن طقوس الكتابة للمجانين مثلي لا تحتاج لشموع أو ما شابه، لكنّي أؤكد لك بأن انعكاس عينا ووجه امرأة في أصل شمعه قادر على وقف نبض كلّ شاعر مرهف، يكفي بأن تكون هذه المرأة تحمل مواصفات أنثوية تتماهى مع توقعات الرجل. لا أعتقد بأن هناك نساء يفتقدن لهذا الحضور، تبقى المسألة متوقفة بالطبع على المعنيّ الذي يجلس قبالتها، المتلقي لإشاراتها وسحرها. لنقل بأن الطقوس ذاتية كالعود يأتي ويرفض الغياب بعد الترنيمة الأولى.
للمرايا قصص وأمزجة، خيري حمدان كيف تراه مراياه ؟
للكاتب تجليّات كثيرة بعضها حلو والبعض الآخر مرّ، لكنّ جميعها ضروريّه، والتباين في نهاية المطاف يصبّ في إغناء روح الأديب والكاتب. القارئ وتفاعله مع الكاتب هو المرآة الحقيقية. إذا شعر الكاتب بأنّ رسالته قد وصلت دون خدش يدرك عندها بأنّه قد أنجز ما يبتغيه، يمكنه في هذه اللحظة أن ينظر إلى مرآة تعكس جمالية ما كتب. أمّا شأن المرايا في الحياة الشخصية فهي كذلك كثيرة ومتباينة. أشعر أحيانًا بالبلل مع أن الطقس في الخارج حارّ للغاية، وأحيانًا أشعر بالصخب مع أن المرايا من حولي تؤكّد لي بأنه لا أحد في الجوار. هي الروح تفرض ما تريد دون مجاملة، دون أن تعير الآخر أدنى انتباه. تتمرّد على الواقع، تفرض أمزجتها، تفرض مرآة الفرح والحزن والانجذاب والنفور والارتقاء والانجراف نحو هاوية قد تحسبها بداية وهكذا. أراني في مراياي قادم حين يبتعد الآخرون، أراني مندفع حين تتوقف القاطرات من حولي. أراني منسجمًا تارة ومتناقضًا مع المحيط الخارجي، هكذا أجدني مندفعًا لأتماهى مع هذا الكمّ الكبير من المرايا، لأذوب في اللوحة الأبدية للهمّ البشري.
العشق ألوان وسُبل والموسيقى أيضا …هل يقود أحدهما إلى الأخر؟
الموسيقى تهذّب الروح، ترتقي بها تجمّلها، لا يمكن لإنسان يجهل الطرق المؤدية إلى الموسيقى أن يعشق. ألوان الموسيقى مختلفة عديدة لكنّها تصبّ في نهاية المطاف في نهر واحد. العشق تجلّيات، حين يعشق الإنسان يصبح كالريشة في مهبّ الريح. اسمحي لي بأن أدرج جزء من نصّ ورد في قصّة لم أنته منها بعد، تتناول حالة العشق تحمل عنوان ((لا قضاة – رفعت الجلسة)) “أريدك أن تعرف بأنّ مسام الإنسان، حواسه، مداركه، رائحته الكيميائية، ذهنه الحاضر الشارد يصبح في مهبّ الريح يا صديقي حين يقع في الحبّ وكمائن العشق. لا يمكنك التحكّم بالإفرازات الهرمونية في مثل هذه الحالات الاستثنائية. تصبح عرضة للفرح والكآبة في كلّ لحظة ممكنة. لا يملك أحدٌ من حولك تفسير حالتك النفسية، ولا يملك ذات الوقت الحقّ في محاكمتك أو توجيه أصابع الاتهام نحوك.” العشق سيدتي هو سوناتا موسيقية، توهّج داخلي، رحلة إلى الذات في مركب متناسق، قد يكون محفوفًا بالمخاطر أيضًا، لكنّه بالرغم من كلّ هذا تجدينه ينزاح بليونة بحثًا عن بداية أو نهاية مجهولة – سيان. الموسيقى تميّز الإنسان عن كافّة المخلوقات الكونية، ناسا حمّلت إحدى السفن الفضائية العائمة في الفضاء بحثًا عن أثر لحضارات ما غير بشرية في هذا العالم الشاسع، حمّلتها بأقراص من الموسيقى، وغناء لا ينتهي يخاطب الكون الصامت “هناك فوق الأرض من يحسن الغناء، هناك مليارات من المصائر البشرية العاشقة، فهل تسمعونا؟” حين يعشق الرجل أو المرأة يبدو صوت الحبيب موسيقى مميّزة تختلف عن باقي الأصوات المحيطة، التي يجدها العاشق في لحظة من اللحظات نشاز، لأنّها تحجب صوت الحبيب. لهذا يصبح الهاتف محملا بعبق خاص حين تأتي المكالمة من الطرف المعنيّ بخفقان القلب. أتمنّى لكلّ عاشق المزيد من دفقات الموسيقى، وكان الله في عون الموسيقيين، يبدو بأنّهم في حالة دائمة من العشق.
خيري حمدان في أحد نصوصه يرى أن الفصول خمسة…كيف ذلك؟
قد يكون هناك أكثر من خمسة فصول، لكن الفصل الذي يعذّبني كثيرًا هو الفصل الذي يلي الصيف، ويسبق الخريف، حين أشعر بأن الصيف قد أفلت من بين يدي، أراني كأنّي أضعت حفلات الجاز ومهرجانات الصيف الصاخبة في حدائق صوفيا. أراني أضعت صيف عمّان المحمّل بالأعراس، بارتخاء الجسد ومطالبته بمزيد من شهق العسل. لكلّ هذا أجد نفسي خارج نطاق الجاذبية. الفصل الخامس هذا يحاول بوقاحة جرفي نحو الخريف، أنا لا أخشاه بالطبع، لكنّي حين أنظر لأصابع يدي أرى الصيف يسيل بجذل، عندها أستمع لفيروز تغنّي من خلف العوالم “حبّيتك بالصيف..”
الفصل الخامس صعب للغاية، سهل ممتنع لأنّه قصير، يحضر خلال أيام، يفرض حضوره ويمتدّ نحو الماضي، أتوسّله البقاء قليلا لكن دون جدوى. لا أملك بعد ذلك سوى الانصياع وهدر ذاتي بانتظار صيف آخر وعالم مليء بسحر الموسيقى والجاز، وحين تهبّ رياح من الشمال أنتبه لذاتي، أجمع شتاتي وأدخل الخريف دون هلع.
الابتسامة مفتاح…لكن حمدي يراها بابا للهزيمة…لماذا ؟
نعم، العنوان يبدو معكوسًا. ((ابتسامتك وحدها تهزمني)) حين يشعر المرء بأن العالم قد أغلق أبوابه المشروعة أمامه ولم يعد هناك من شمعة أو وردة تكثر أشواكها، تأتي ابتسامة لتهزم الهزيمة، لتهزم المشاعر السلبية، لترتقي بنا بعد ذلك نحو آفاق لم نكن نحلم بالوصول إليها يومًا ما. لكن لا بدّ لها هي المعنيّة أن تحسن الابتسام، أن تشعرني بأنّها قادمة حين تُغلق الأبواب المشرعة، ويغيب المريدون وراء السحب وما خلف الموج. الابتسامة وحدها قادرة على تلوين النهار بعبق لم يكن في البال، كي تتمكّن من انتزاعي من عوالمي الخفيّة، تفرضني على الواقع كفنجان القهوة يقدّم صباحًا، تسبقه رائحته المنعشة، ثمّ ندلف في النهار وسط الزحام نركض ونكبو، نبحث عن ذواتنا حتى نلتقي ابتسامة أخرى تهزم الهزيمة.
هل يجوز أن تتوازى الرصاصة مع باقة ورد؟َ
هناك غصّة ما تنتابني حين أرى الفرح قد صودر من منازل وحواكير أهلي وأقربائي في فلسطين. أشعر بأنّ الكبرياء الذي يبدونه مجبول بالألم، كما باقة الورد والإكليل نضعه على جيد الحسناوات ملطخًا ببقايا دماء هدرتها رصاصة، لعلعت في العتمة والنور سيان. باقات الورد حزينة حين تلزمنا بالتعامل مع الواقع على علاته، دون أن نتمكن من الانعتاق من هذه القيود التي أودت بنا إلى حافّة النسيان. الرصاصة رفيقة طريق العودة نحو بدايات نسجتنا، ونرفض طوال الوقت أن نبقى أسرى لها، لهذا فإن طعم الحريّة سيدتي مرّ وحلو وحامض، هو اللسعة التي نشعر بها حين يلامس زيت الزيتون سقف الفم ليعيدنا نحو الوطن دون غيره من أراض الله العامرة المتناثرة في الأصقاع. باقة الورد تتحدّى الرصاصة، تفرض حالة الفرح على الحزن المقيم في مقل اليتامى والأرامل. ليكن الألم وليكن الفرح مرادفًا له طوال الوقت، لتبقى الذكرى قائمة مع الحنّاء والياسمين.
ذات نصّ،كتبَ حمدي عن ليلٍ تمرّد فبكى…لماذا انْسَنَة الّليل؟
الليل هو الأخت الوفيّة القادرة على حمل الأسرار والتفريج عن روح أخيها، ربّما بعكس البحر الذي أراه كالزوجة لا تعرف متى تنقلب عليك. قد أكون مخطئًا لكنّي أرى في الليل نصيرا وشريكا الكتابة وطقوسها التي لا تنتهي. الليل يتحدث، يهمس، يعربد، يأتي ويذهب، يدعو للسهر، يركل الناعسين غير القادرين على مجاراته. الليل يتمرّد حين يصبح شاهدًا على حالة من الحبّ مشبوحة عند أصوله، فيبكي بحرقة العتمة وسطوة ضوء القمر. الليل متناقضات الحياة، رديف الموت، هو الحياة بكلّ تجلياته. الليل يسخر، يسهر لا يتوانى عن الانفجار صخبًا وموسيقى. الليل يضحك، يبكي بطريقته الخاصّة، يضمّد جراح القلب ولا يهدأ. الليل هو ذاك الإنسان الذي تقمّص العتمة فرفض مراقصة النهار، وبقي يترّصد المغيب ليظهر بكلّ أبهته، مرتديًا ثوبًا أسود حالكا وشالا ليلكيّا، وكحلا في العين يرسم تفاصيل الفرح.
لمن يتوسّل حمدي حين يُتمتِم: “بحقّ الموت لا ترحل”؟
حيّرني هذا السؤال! أحاول جاهدًا ربطه بالحالة التي حثّتني على استجداء الموت، لكن ذلك استعصى عليّ. ربّما أربط بين هذا التوسل والفصل الخامس الجميل المتقافز ما بين صيف وخريف. الموت هو الحالة الفيزيائية الوحيدة القادرة على هزم الجسد. حين أوجّه حديثي للموت، أعرف بأنّني أطلب من المطلق أن ينتظر، أن يتوقف ويمتنع عن الرحيل. هو الذي أشعل القلب نورًا، وبتّ أخشى فراقه والهرب من الواقع بشتّى تفاصيله. الموت في هذه الحالة هو حامل الصولجان والميزان. وحده يملك الكلمة الأخيرة الفصل، لهذا جاء الحديث والهمس هذه المرّة موجهًا لجبروت الموت ليتنازل قليلا، ليتراجع، ليبقي ما تشتهيه الروح بالجوار ولك يا موت أن تحصد ما تشاء بعد ذلك من الأرواح السائمة الضجرة. لكن ليس رفيقي، ليس الآن، ليس في هذه اللحظة، ليس جسده.. ابتعد قليلا، دعنا نكمل قبلتنا التالية، لنفجع العالم، لنفاجئه بمزيد من العشق رغم أنف الموت وبإرادته.
بين النقاط والفواصل تجري الأيام…كيف ومتى يلتقط حمدي أنفاسه؟
الحياة عبارة عن سلسلة من نقاط وفواصل متتالية، كنت بصدد البدء بهذه السلسلة وأطلقت عليها هذا العنوان “نقاط وفواصل”، لكني بعد عدة حلقات وجدتني بحاجة ماسّة للانعتاق من كافة العناوين والتعريفات الممكنة. تمرّدت بشكل غير إراديّ على هذه النقاط لأنّها بدت وكأنّها تخنقني. هكذا شعرت براحة عابرة والتقطت أنفاسي. أرتاح أحيانًا من العمل الروائي بالهرب إلى المسرح أو الخاطرة أو القصيدة، وألعن في كثير من الأحيان المقال السياسي لأنّه يفرض نفسه بوقاحة وجرأة في عالمي. التنقل من مجال أدبي إلى آخر هي الأنفاس المعدودة التي أحتاجها، لأن الأديب كما تعرفين يعيش في حالة متأصلة من الوحدة التي تكاد أن تبتلعه، ترميه إلى حوض أسماك القرش حيث الصمت المهيب. أحيانًا أجد ضالتي في الصخب البشري، أجلس مع صديق في مقهى لاستماع الموسيقى، والتماهي مع الهرج من حولنا. ما يحتاجه الإنسان أحيانًا قليل للغاية ليشعر بتجدد روحه، لينعتق ويمضي إلى بدايات، بل نهايات. إلى حالات من الصفاء. لكن أؤكّد لك سيدتي بأنّ الأديب يعيش في حالة مستمرة ودائمة من البحث عن الذات عبورًا بمصائر الآخرين. لهذا غالبًا ما ينسى أو يتناسى ذاته. لكلّ هذا أقفز فوق كلّ النقاط والفواصل الممكنة.
إذا كان للظّمأ حدائق فما الذي يرويه؟
الظمأ حالة دائمة وهنا يستحيل إشباعها وريّها، لكن هل يمنع ذلك من أن يمتلك الظمأ حدائق خاصّة به. ألا يحقّ لنا “نحن الظمأى” أن نتجول في هذه الحدائق والرغبة تمتلكنا برمي أنفسنا في الواحات والبحيرات غير المنتهية، لكن الماء على أيّة حال لا يجد طريقه إلى أفواهنا. الظمأ هو الرغبة بالحصول على المستحيل، وتبقى الأيدي ممدودة لقطفه دون جدوى، هذا بالطبع لا يعني الامتناع عن المحاولة مجددًا لقطف المستحيل. حدائق الظمأ هي الأثرى، الأكثر غنى لأنّها ترفض تقديم الكمال، وتترك روادها يلهثون وراء السراب وهذا أجمل ما فيها. الزهر في هذه الحدائق ميّسر يمكن لأيّ منّا أن يقطف وردة ويمضي بحثّا عن وعاء يحوي شتاتها قبل أن تقضي بين أيدينا. الظمأ في حدائقه ملك وعملاق، لا تقدر الأمواج على التغلّب عليه مهما ارتفعت في فضاءات المكان. أدعو كلّ سئم وباحث عن ذاته أن يرتاد حدائق الظمأ، وأن لا يحمل معه مسبقًا ماءً لأنّه محظور لا يروي.
حمدي يكتب كثيرا عن العشق…سؤالي: هل يؤمن بالحب؟
أؤمن بالظمأ، وخاطبت الموت وكتبت عن كلّ المتناقضات الممكنة فكيف لي أن لا أؤمن بالحب المقيم والعابر. أدرك بأنّ الحبّ هو الطريق لخلاص البشرية لأن العاشق لا يعرف الحقد، العاشق مناهض للحروب، للفقر، للجهل، للجريمة. أؤمن بأنّ الحبّ هو نقيض لكلّ المشاعر السلبية وليس الحقد والكراهية فقط. الحبّ هو ما يربط الأمّ بصغيرها، ترضعه، تحنو عليه، ترتقي به نحو كبريائها، تحميه من الرياح والعواصف والفتك والغواية، حتّى يكبر ويشتدّ عصبه ليطير. الحبّ هو الذي يدمع المقل ويجبر الرجال على السفر لآلاف الكيلومترات، هو الطريق الوحيد نحو الإنسانية وأنسنة الإنسان.
هل صادف أن صمتَ قلبُه؟
لوهلة، للحظة، لثانية، لدهر يصمت القلب. صمت القلب ضروري لتمرير ثقل الفراق ولوعة الشوق. يصمت القلب، يحاول أن يسترق السمع ليعرف ما إذا زلنا أحياءً، أم أنّنا نمارس الحياة بحكم العادة. تذكرون مسرحية وفيلم “طيران فوق عشّ اللقلق” للكاتبين الأمريكيين كين كيسي ودال واسرمان، حيث نفّذ جاك نيكلسون دور البطولة في الفيلم عام 1975. هذا النصّ هو أكبر مثال ودليل على صمت القلب. حين أدرك العملاق النزيل في مشفى المجانين بأنّ قلب نيكلسون قد صمت (لم يتوقف عن الخفقان) واستسلم لإرادة نظام المستشفى وتخلّى عن تلقائيته، وضع الوسادة على وجهه وقتل الصمت ليولد نيكلسون الصاخب المتمرّد من جديد، ثمّ مضى العملاق من النافذة بعد أن فقدت الأدوية المخدّرة تأثيرها على روحه وجسده.
هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يعرفون بأنّ قلوبهم صامتة، مع أنّهم يعاشرون النساء ويتناولون أشهى أنواع الطعام ويشربون ويكسبون المال الوفير، لكنّهم لا يعرفون بأنّ قلوبهم صامتة كما الحجارة الصلدة. واسمحي لي بتقديم مقطع من نصّ “القلب يصمت أحيانًا”.
((خذي قلبي، نعم، أنتِ من دون نساء الدنيا، لا تخجلي، لا تفزعي، كيف يمكن لي أن أمارس حياة لا تتماهى مع حضوري في هذا الوسط الرمادي. لا حياة دون رونق أنت رائدته، فاقطفي ما تبقى من دفق التجلّي، إذا كان هذا العطاء يعني ذوبانًا في أنوثتك المستثارة بحمّى اللقاء المغيّب في جيناتي، فلا تنتظري وهلة قد لا تأتي. اعبري الضفّة الأخرى، لم يبقَ سوى ثلّة من الذئاب التي أطعمتها، فأعلنت الوفاء، يا للغرابة! الذئاب الجائعة لم تنهش لحمي، بل سارعت نحو الغابة القريبة لتصطاد لي أرنبًا أو ما تاه من اللحوم في العتمة، لتردّ معروفًا عابرًا. لكنها الذئاب لم تدرك بأني أنا الإنسان قادر على التوحد مع الفناء للخلاص من لحظة الشقاء.))
لنفترض أنّ ناياً أتى إلى عتبتك…ما الذي ستُغَنّيه له؟
الناي رمز للحنان والدفء وأنا على ثقة من أنّ الناي ما أن يقف على باب بيتي حتى يبدأ بعزف صدى روحي، قبل أن يطالبني بالغناء. الناي ما أن يحضر حتى تصغي الملائكة لدفق النغم القادم من المستحيل، من عوالم لا ندركها حيث يقيم المارد المالك لإكسير الحياة. الناي هو رمز الخلود، يبقى أثره بعد انقضاء النهار وقبل أن يحلّ الليل، وما أن نغمض أعيننا حتى يتدفق النور ليملأ المكان الذي نأويه بأحلامنا. سأغنّي للناي تقمّصات الطموح البشري، حالة انعدام الجاذبية التي نسقط فيها دون هوادة كلّما خفق أو صمت القلب. سأغنّي له عائد عند مفترق الطرق. سأغنّي له لا يأس مع الإرادة والانطلاق نحو المستقبل، ثمّ أدعوه لنشرب كأسًا من رحيق الحياة.
“الربيع العربي” كيف يراه حمدي؟
قبل المضيّ بالحديث عن الربيع العربي، أعتقد بأن الأمة العربية باستثناءات محدودة لم تعرف الاستقلال والتحرر المنشود إثر الحرب العالمية الثانية، لأننا استبدلنا الاستعمار الأجنبي بعائلات أشرفت على استنفاذ مقدرات الدول العربية طوال عقود طويلة من الزمن. الأمرّ من ذلك هو إبقاء هذه الشعوب عند حافة التخلف والأمية ليسهل التحكم بها. من المعروف بأن نسبة القارئين والمثقفين في العالم العربي مقارنة مع الدول المتحضرة منخفض جدًا، ولا تتجاوز نسبة ما يُقرأ خلال العام الواحد في عالمنا عدّة أوراق مقارنة بنسبة ما يُقرأ في الغرب، علمًا بأن الحضارة الغربية استقت أصول علومها من الشرق والأندلس. المشكلة لدينا أصولية ، ونحن بحاجة إلى إعادة البرمجة الجينية للإنسان العربي ليصبح قادرًا على مواجهة هذا الكمّ الكبير من التحديات.
الربيع العربي بالرغم من كافّة الانعكاسات التي رافقته جاء لتعديل بعض المسارات الإدارية والسياسية الخاطئة، بالطبع لا أعتقد بأنّه قادر على تحقيق طموح الشعوب العربية، لكنّه على الأقل تمكن من كسر حاجز الخوف الثقيل الذي عانينا منه طويلا. بات من الأسهل الصراخ بشتى الطرق الممكنة في وجه النخب السياسية حال تبنيها سياسات لا تتوافق مع توجهات الشعوب العربية ولا تخدم مصالحها، والمعارضة والصراخ هنا ليس من أجل إحداث حالة من عدم الاستقرار بل يعتبر حالة صحية طبيعية للفت الأنظار إلى الأخطاء القاتلة والأصولية في عالمنا العربي.
الربيع العربي خلق حالة جديدة من الوعي وإن كانت في بداياتها، لكنّ هذه الشعوب باتت قادرة على تحقيق المعجزات. من كان يتصور بأن ألمانيا وفرنسا اللتان خاضتا معارك طاحنة قبل ستين عام ونيّف خلال الحرب العالمية الثانية، أصبحتا من الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي؟ أين اختفت مشاعر الحقد والكراهية والثأر؟ من السهل الإجابة على هذا السؤال، لأن هذه المشاعر اختفت بحكم ارتقاء الوعي الأوروبي واختلاف المعايير التي كانت سائدة آنذاك. التغيير ممكن لكنه يحتاج إلى معطيات، يحتاج لجرأة وإرادة لإحداثه. هنا تقع المسؤولية على نخبة جديدة من فئة الشباب والمفكرين القادرين على العطاء. مثالا على ذلك “احتل وولستريت” ما هذا التحدّي الكبير! يكفي أن يغلق بضعة آلاف من الشباب مدخل المدينة بأجسادهم لتعطيل الحياة المدنية بالكامل، لوقف إصدار قرار ما أو لإخضاع السلطات للرضوخ لمطالب معيّنة ومحدّدة. هذا النوع من التظاهرات والاعتصامات شديد الخطورة، لأنّه لا يوجد في هذه الحالات قادة، لا توجد هيكلة تنظيمية. مجرد دعوة عامة في الفيسبوك أو التويتر، لتجد في الوقت المحدد الآلاف وقد أقدموا على تنفيذ المطلوب. الشباب العربي لا يختلف كثيرًا بالمناسبة عن الشباب الغربي، سوى في بعض القضايا كالتنقل الحرّ ما بين دولة وأخرى كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، لكنّ القدرة على المعارضة متواجدة ويصعب طمسها، ما لم تبدأ الحكومات العربية بتأمين الحدّ الأدنى على الأقل من شروط الحياة الكريمة، وتوفير فرص العمل والارتقاء في المجتمع، وعدم الاقتصار على توفير ذلك للمقربين من السلطة.
ما علاقة حمدي بالترجمة؟
أنتِ مترجمة محترفة وقد قرأت لك العديد من النصوص المنقولة من الفرنسية للغة العربية، وتعرفين حجم المشاكل التي تصاحب ليس فقط المترجمين ولكن الكتاب أيضًا. لدي في أدراج مكتبي ومن الملفات الالكترونية العديد من الروايات المكتوبة باللغة العربية، وأنا محتار أين أنشرها دون أن أفقد حقوقي، لكن هذه مسألة أخرى. لنعد إلى الترجمة. مارست الترجمة وما أزال من وإلى اللغة البلغارية، وبالرغم من أن تعداد الشعب البلغاري لا يزيد على ثمانية ملايين، إلا أنّ الطبقة المثقفة القارئة كبيرة وواسعة للغاية، وقد استفدت كثيرًا من قراءاتي العالمية المترجمة للغة البلغارية، والتي تعذّر علي العثور عليها باللغة العربية، وفي مرحلة لاحقة بدأت أترجم النصوص التي أراها جيّدة ومميزة للغة العربية، نشرت معظمها على صفحات الانترنت، لكن لا يوجد مشروع عملي ممول لإنجاز كتاب أو لترجمة رواية قيّمة من اللغة البلغارية إلى العربية من أيّة جهة رسمية أو خاصة. أمّا للبلغارية فقد ترجمت عدد كبير من الشعراء والكتاب المعاصرين من كافة أنحاء العالم العربي كأدونيس ودرويش، وأنجزت قريبًا ترجمة مجموعة قصصية للكاتبة سناء شعلان. الترجمة (غير المهنية كالوثائق وغيرها) تعتبر نشاط وهمّ ذاتي غير منظّم وتعتمد على مزاجية الكاتب وتوفر الوقت الذي يسمح له بالقيام بذلك. لهذا أرى بأن حركة الترجمة ضعيفة للغاية مقارنة لما يشهده العالم في الوقت الحالي، والأمر لا يختلف كثيرًا بشأن الترجمة العلمية.
هل تحدثنا قليلا عن الأدب الهنغاري؟
تعرفت على الشاعر الهنغاري ( Gabor G. Gyukics ) في إحدى المهرجانات الأدبية في صوفيا، حيث قدمنا مجموعة من القراءات الشعرية لبضعة أمسيات متتالية. أذكر بعد ذلك بأنني ترجمت قصيدة للشاعر غابور من الانجليزية إلى العربية وأهديتها له بعد انتهاء المهرجان.
قصائد هذه الشاعر تتصف بالحيوية ومن الممكن أن تعتبر ممثلا للأدب الهنغاري. أنا بالطبع لا أعرف الهنغارية فهي لغة صعبة للغاية، وهذه هي القصيدة الوحيدة التي نقلتها من الهنغارية عبر الانجليزية إلى العربية وإلى البلغارية أيَضا بموافقة الشاعر. لكن حين تقرأ هذه القصيدة تشعر بأنك تدور في حلقة يتحكم بها الشاعر لينقلك فور الانتهاء منها إلى برّ الأمان، يتركك هناك مجددًا من حيث بدأت، لكن بعد أن يشحنك بكمّ كبير من الجمال والتجديد.
هنا وهناك
أدرت ظهري للهاوية،
ثم قفزت في النهار.
أدرت ظهري للنهار،
ثم قفزت في الضباب.
أدرت ظهري للضباب،
ثم قفزت في الليل.
اختفيت لوهلة
أدرت ظهري لليل،
ثم قفزت في الهاوية.
أدرت ظهري للهاوية،
ثم قفزت .. في النهار.
أمّا بشأن الأدب البلغاري، فينقسم إلى عدّة مراحل، مرحلة ما قبل الحقبة الاشتراكية، والتي قدم خلالها الكتّاب أروع الأعمال الكلاسيكية، ثمّ تبعتها المرحلة الاشتراكية الموجّهة نحو القيم الشيوعية. هناك الكثير من النصوص الجميلة والهادفة، لكن يشعر المرء بأنّها محاصرة ومخنوقة إيديولوجيًا، ويمكن فهم الفارق في قراءة الأدب الاشتراكي الغربي الحرّ غير الخاضع لضغوط رسمية وما بين الأدب المرسوم باللون الأحمر الشيوعي في أوروبا الشرقية خلال المرحلة الاشتراكية. لكنّها مرحلة وانتهت على أيّة حال. ثمّ بدأت المرحلة الانتقالية حيث انفتحت الآداب البلغارية على العالم وبات من الممكن قراءة كلّ شيء من الأدب الجنسي المكشوف، إلى عالم الجريمة والسياسة والآداب الإبداعية القيمة.
الإبداع والغربة ما جدلية الحضور والغياب التي تندسّ بينهما؟
كأنهما صنوان، كأنّهما توأم، كأنّهما الماء والنار. الحضور والغياب، جدلية أن تكون هنا وهناك في آن واحد. أن تنتمي لعالمين في دفقة دم وخلجة قلب، لدهر من الزمن. أن تتمزق ما بين البدايات والواقع. كلّ هذه المحفّزات تصنع الكاتب والأديب، تنقله إلى عوالم مجهولة لكنّها مركّبة ومختلفة، هجينة ومقروءة بلغات مختلفة، مفهومة وغرائبية. الغربة هي السوط والمحفّز للإبداع والتعبير عن الذات، وإذا تواجدت الموهبة تصبح المسألة أسهل بكثير، تتدفق المشاعر والأفكار بلا حدود. الأمثلة على ذلك كثيرة ومن الكتاب الذين عاشوا الاغتراب وكتبوا بلغات أجنبية ونجحوا إلى حدّ كبير، جوزيف كونراد وإدوارد سعيد وجبران خليل جبران. حين يكون الإنسان متواجدّا في بيئة غريبة يسعى للنجاح فيها وتقديم الأفضل، لأن الحوافز عديدة خلافًا لابن البلد الذي يجد كلّ شيء متوفّر دون عناء.
كلمة أخيرة؟
للحقيقة أود أن أعترف بأنّني لم أتوقع هذا النمط من الأسئلة وكأنّ الإعلامية والأديبة عزيزة رحموني قد سكنت نصوصي، وتمكنت بحرفية كبيرة أن تستفزني بحوار مميز، السيدة رحموني حضرت دون سابق إنذار، نثرت هذه الأسئلة وكأنّها تعرفني وتعرف نصوصي منذ زمن بعيد. أشكرك سيدتي على اهتمامك وعلى هذا التواصل الإبداعي الذي سمحت بفتح فضاءاته. كما أرجو أن يكون هذا الحوار مفيدًا وممتعًا لكلّ من يقرأه ويطّلع عليه.
-_-_-_-_-
اجرتِ الحوار عزيزة رحموني من المغرب.