حتى وإن اعتبرنا أصحاب اللّاعنف الأقرب إلى القلب والوجدان، فإن أصحاب العنف هم ذوو الغلبة في الواقع، وهذا هو السائد و”الغالب الشائع” كما يقال، في حين أن اللّاعنف “الضائع النادر”.
لكن العنف يؤدي إلى التدمير الذاتي للبنى المادية والمجتمعية والإنسانية، وقوته تأكل نفسها بنفسها، خصوصاً إذا لم تجد ما تأكله، وذلك من خلال الفعل ورد الفعل، فإذا لم يجد العنف ما يواجهه سيواجه نفسه، وحتى لو استمر، إلّا أنه لن يدوم إلى ما لا نهاية وسيزول يوماً، على الرغم من أن آثاره المادية والمعنوية تبقى في النفوس على المستوى الفردي أو في الذاكرة الجماعية، وقد تترك ندوباً قاسية وجروحاً قد لا تندمل على الرغم من مرور الزمن وتعاقب السنين، فمثلاً ما تزال تفجيرات هيروشيما ونكازاكي النووية ماثلة أمامنا على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود ونصف من الزمن، لما تركته من كوارث وآثار صحية وبيئية واجتماعية وغيرها.
في غمرة الحرب الباردة وحمّى امتلاك الأسلحة النووية، وخصوصاً من جانب القوى الكبرى جرى تسخير العلوم والتكنولوجيا والإمكانات المادية لفرض الهيمنة، فامتلاك السلاح يعني التحكّم بمصير العلاقات الدولية ومستقبل البشرية، وكان من يمتلك السلاح النووي يسعى للتفرّد فيه كسلاح ردع مرعب حتى لو لم يستخدمه، ويمارس عنفاً معنوياً وإعلامياً ونفسياً ضدّ خصمه قبل عدوّه أحياناً. وهو ما يجعل العالم ينشغل بالسؤال المحوري كيف السبيل لكي يكون طريق اللّاعنف سائداً وبديلاً عن العنف، خصوصاً بإحلال السلام والعدل، لاسيّما بنزع السلاح والتخلّص من أسلحة الدمار الشامل؟ ومثل هذا السؤال بحاجة إلى تفكّر وحوار وعمل وجهد لحشد أكبر الطاقات كي تنتصر فكرة التعايش والتعاون والمنافسة لأجل الخير والسلام.
غير أن أصحاب المذهب العنفي يردّون على تلك الدعوات التي تعلي من شأن سلمية وقوة وروحانية اللّاعنف بقولهم: ما الذي حققه قائد التبت الدالاي لاما الحائز على جائزة نوبل في مسألة ردع التسلطية البيروقراطية الصينية، حيث لم تمكّنه من تحقيق أهداف شعبه في الحريّة، ثم ماذا يمكن أن تفعل مثل تلك الدعوات لتحقيق عدالة التوزيع في الإنتاج والمساواة والعدالة الاجتماعية، ناهيك عن السلم العالمي؟
وتلك أسئلة حياتية واقعية، يجيب عليها أهل اللّاعنف: أن الطاقة التي يمتلكها اللّاعنفي هي نور يرتقي بالإنسان بأبعاده الأربعة: المادية والعقلية والعاطفية والروحية. والإنسان لم يُخلق إلّا لهذه الغايات، والعلم قد يزيدها تأثيراً إذا استخدم على نحو صحيح وسليم وإنساني، لكنه يمكن أن يدفع الإنسان إلى أن يصبح أكثر بطشاً واستكباراً، إذا استمرّ بالاتجاه الخاطئ والشرير والمتوحّش، ففي حين أن الأول يعمل باتجاه السلام والتسامح والتفاهم والتعايش، أما الثاني فهو توجّه نحو الحرب والإقصاء والاستعلاء والهيمنة.
وحسب أصحاب العنف فالإنسان قام على التنافس والتحاسد وحب الغلبة وبالتالي فالحياة للأقوى، والتنازل ضعفاً وهو ضعف في العقل والجسد والنفس والعاطفة، لكن الحساب الترجيحي لأهل اللّاعنف يقوم على اعتبارات مغايرة اخلاقية وإنسانية وحقوقية، فلا مجتمع حقيقي أو سياسة حقيقية أو عدل أو مساواة دون تلك الأبعاد.
والأخلاق تزيد من تماسك المجتمعات وتعاضد أبنائها ،وإذا كانت الطبيعة الإنسانية تحمل الخير والشر حتى وإن كانت السوية الأولى تقوم على الخير والتعايش والإجتماع الإنساني، فإن هذه تتعزّز بالتربية من خلال البيت والمدرسة والمجتمع والإعلام والمؤسسة الدينية والقوانين، وهي مسؤولة أساسًا عن نمو نزعات الخير ووضع ضوابط ومعايير لها والعكس صحيح أيضاً.
قد يكون استحالة القضاء على النزعات الشريرة والعنفية، لكنه قد تنحسر بفعل التراكم والتقدم والمدنية والعدالة لتصبح إستثناءً، أما القاعدة فهي للخير، حيث العنف يكون “منضبطاً” في إطار القانون مع ارتفاع منسوب الوعي من خلال التربية وإعلاء شأن الكرامة الإنسانية، وهو ما تدعو إليه الأديان جميعاً، ويبقى “حق” اللجوء إلى العنف منحصراً بحالة الدفاع عن النفس، وبانتهائها ينبغي إنتهاء رد الفعل العنفي الدفاعي.
واللّاعنف يمتلك طاقة وهذه قوة كبيرة لا يمكن مقاومتها أحياناً بالوسائل الإعتيادية، لأنها تولد الحركة، والحركة قوة، وهذه تحتاج إلى غذاء وهذا الأخير عبر الروح، والإرادة تفعل فعلها لتشغيل الطاقة واستمرارها. ولا بدّ من التوازن بين الطاقة والقوة، وأي قوة تحتاج إلى طاقة تناسبها لكي تصبح فعّالة، وكل طاقة تحتاج إلى قوة مناسبة تستطيع احتوائها واستثمارها لما يحقّق أهدافها.
صحيح أن الاعتماد على الجانب الخيّر في الإنسان وحده لن ينهِ العنف أو ينتج مجتمعاً مثالياً، ولكن الإستمرار في نشر ثقافة اللّاعنف والتربية عليها ووضع القوانين الصارمة لاعتمادها من خلال الرقابة والشفافية والمساءلة هو نوع من أنواع المصالحة مع المستقبل، وهو ما يمكن الرهان عليه.
حوار العنف واللّاعنف
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا