حواء الشعر في مهب العطر ….قراءة في ديوان
ذاكرة الحب للشاعرة …فاطمة الحسن …
قبل الحديث عن الديوان أعرج قليلاً على القصيدة النثرية هذا النوع الحداثي من الشعر والذي ما يزال في طور التكوين .فالقصيدة النثرية ماتزال طفلة تحبو ،
وتلثغ بما شاء لها من أبجدية الجمال ، وليس لنا إلاّ أن نتريّث حتى تكتمل ملامح أنوثتها،فما يزال يرفضها من أخذ برتم موسيقى البحور الخليليّة ،وبل ويرفض حتى مصطلح القصيدة النثريّة .فيرى قول قصيدة نثرية كقول مربع دائري ، أو دائرة مربعة ، و لأنّها تجربة جديدة صرنا نجد اختلاف الشعراء في طريقة تناولها ،إذ يعتمد البعض الومضات المتراكبة ،ويجنح الآخرون إلى الخاطرة ، بل والقصة القصيرة أحياناً والسواد الأعظم يبتعد إلى السردية التعبيريّة ،حيث يتحوّل الشاعرإلى حكواتي يشرح ويفصّل بما تضيق به القصيدة النثريّة التي تأنف الشرح والإطالة في الجملة الشعريّة لأنّ قوامها التكثيف والجملة الرشيقة والخيال المجنّح
والموسيقى الداخليّة والانزياحات المدهشة والوحدة العضوية في بنائها ..
و بتنا نرى الكثير من الشعراء ممن ينأى عن هذه الاشتراطات … وطالما أنه يحل للناقد مالا يحل لغيره فهو كالقابلة إذ يغوص إلى أماكن لا تطالها عيون اخرين ،
أقول ..بأنّ الشاعرة فاطمة استطاعت أنّ توسع لنفسها مكاناً في دوحة الشعر ، وبمقارنة بسيطة بين ديوانها الجديد وتجربتها السابقة في دواوينها (تقاسيم وطن ،نسيم الروح ،ظلال حلم ) نجد الفارق الكبير من حيث تكثيف الجملة الشعرية واستقرارها وتمكّنها من توظيف الانزياحات وتكامل الوحدة العضوية في قصيدتها النثريّة فالأذن الخبيرة تدرك أنّ للشاعرة فاطمة الحسن بصمتها المميّزة وصوتها الخاص في وسط ضجيج أوركيسترا الحداثة. لكننا نلحظ أن الديوان بكامله يكاد يكون قصيدة واحدة مع عزف منفرد على بعض التنويعات في جوانب التعالق بين حواء وآدمها
وحين تبحر في أعماق الديوان تستقبلك الجماليات المخبوءة بوجه يشرق بالدهشة .
عنونت الشاعرة ديوانها ب(ذاكرة الحب ) هو عنوان مغرد يعزف على وتر الحنين
وينوس بين طرفي الزمن ،حيث صور الماضي المغمّسة بألق التوق ،والحب هذا المصدر العصي على عواصف الحياة ولا يتسعه زمن ولا يحدّه كون والذي يشي بكينونة الحضور الدائم .إنّه أوكسيجين الحياة والدافع الكامن وراء استمرار الوجود الإنساني منذ حكاية التفاحة ،بل هو الكتاب الأقدس الذي تنبض بحروفه شرايين الإنسان .
والديوان في معظمه يكاد يكون بوحا لا يغادر ملعب العلاقة العشقيّة ، إذ يفصّل في علاقة حواء بآدمها . هذه العلاقة الملتبسة دائما ، فيبيّن أنّها قائمة على المد والجزر ، الحضور والغياب ،التجاذب والتنافر ، نعم لانّها علاقة بين قطبي الحياة ، بين طرفي النقص الجميل ، ولأنّ الأنثى هي الأكثر رقّة ، والأكثر دفئاً،
فقد جاء الديوان ليوثّق المشاعر الأنثويّة المضطرمة ،فنلحظ كيف تطفر من الحروف تنهّدات أنثى مشفرة عصيّة على الفهم ، وكيف تبدو كقوس رباب مقمط بالأسى ، قوس رباب لكن ..لا تكسره أنّات عازف ، لأنها مفتاح صول في معزوفة الحياة، هي شاعرة مسكونة بهاجس الأنثى في صراعها مع عواصف الحياة ، وهي تدرك أنّها الأنثى الأمارة بالعطر وهي وحدها من يفرش هذا الكون بسبع سموات من العشق ولأنّ الشعر سفر في عالم الأخيلة والمجاز عبر خصوبة اللغة ،لذا فإننا نلحظ كيف برعت الشاعرة في توظيف الإستعارات والإنزياحات (ما عساها تقول امرأة في كامل مخملها ..في كامل سوسنها ) (يعلق حلمه من أخمص روحه)
وثقته العين بأم ّ سخطها ،سراط مستحب من المواويل )
ونلحظ ثقافة الشاعرة وتمكّنها من اللغة والتي تشكّل طين الإبداع وكيف تستخدم اشتقاقات متعددة تقول …(قبست من عينيك قمراً)( أشرنق الحرير ) (أحتاف منك الظمأ)(تناذر )(أقمرت )
كما نلحظ استخدامها لصيغة التشارك بكثرة ( تهامسه )(يعاصف )(يلاعج )
ومما يلفت النظر مقدرة الشاعرة على حسن توظيف المخزون التراثي والديني
عبر تناصات جميلة (عساها ريح يوسف .)إشارة إلى قصة يوسف ..
( حمأت عين الحب )إشارة إلى قوله تعالى ..تغرب في عين حمئة
التهجّد والتعمّد (تعمّدت بنبيذ الغيم )( أينما وليت شوقي هو مالك الخراج )إشارة إلى قصة هارون الرشيد والغيمة ..إذ قال ..حيثما نزلت فخراجك لي
وقد اعتمدت الشاعرة اللغة المأنوسة في انزياحات مدهشة فالشاعرة تغرف من نبع الخيال وترسم لوحات مدهشة تخلق عالما حسيّا عبر تقنيات اللغة وممكنات الخيال والعاطفة مما يترك عطرا في الذاكرة يدوم ويدوم …..
محمد رستم …سورية …