علي السوداني
عرفته يوم فتح عام الرمادة والقحط ألف وتسعمائة وتسعون بابه التعيس على أهل العراق ، فجوّعهم وأمرضهم وأفسدهم وقتلهم وشتّتهم وجعلهم يهيمون على وجوههم المعمولة من صفرة داخنة ، مثل بلدانيين رحّالة عتاة لا يعلم واحدهم بأي أرضٍ سيدلق آخر أنفاسه ويموت .
ببغداد العليلة كنت معه في عصرية مقهى حسن عجمي بالحيدرخانة ، وليلية حان اتحاد الأدباء ومن أتبعهم بساحة الأندلس ، حيث مصاطب المشردين تخرج لسانها الطويل بوجه فندق صحارى والمزاد .
بعد هجيجي الثائر الى عمّان سنة الف وتسعمائة وأربعة وتسعين ، انولدت ثنائية طيبة رائقة بديعة أخرى هي مقهى السنترال وحانة الشرق التي تقع على مرمى نظر من مقهى العم زكي أبو زيد وعلامتها الضاحكة رضا المصري .
لم تحدث تبدلات كثيرة بين مقهى وحانة بغداد ومقهى وحانة عمّان ، فاللعب والمراهنة وحرق الوقت والأعصاب والقلوب بلعبة الطاولي الرائعة ، ظلّ كما كان قائماً تحت سمائنا الأولى ، وتكاثر الربع والمريدون والجلاس حول طاولتنا الساخنة برميات النرد وقفشات المتفرجين الخبثاء الظرفاء الذين يشتهون فوزي العظيم ، لأنني كنت أعدهم بأن في خمرة الرهان خاصتي أو سعرها بقانون المقايضة ، حقٌّ لجمال زهران وزياد شحاده وجان دمو وهادي الحسيني وصالح الجيزاني وجمال البستاني وعلي منشد وحيدر شميس وأُم هيثم ، وليرات فائضات ستطير لاحقاً صوب بغداد المريضة وتحط بمقهى حسن عجمي ، من أجل إنتاج ليلة باذخة من شراب ودخان وتشريب وضحك وغناء ورقص على ساق وحيدة لن ينقطع حتى صياح ديك الحيدرخانة الوفي .
في حانة الشرق كنا نحظى بالكثير من الحب وغض النظر عن زوائد فاتورة الحساب ، لأن صاحب الحان الطويل محمد الفايز كان يعشق الأدباء والفنانين والصعاليك النبلاء .
بزاوية معلنة من زوايا المكان المعلق ، ثمة لوحة جميلة معتقة زبدتها آهة من آهات مارلين مونرو ، وعلى مقربة شديدة منها ثمة نصب البتراء المدهشة .
لا أحد يعرف اسم راسمها وكان ينظر إليها على أنها من معمولات فانوس الرسم التجاري الرخيص كما أفتى بذلك الرسام العنيف محمد مهر الدين ، لكن عبد الستار ظل يكرر عرض شرائها بمائة دولار ، فيرد عليه صاحب المكان برفض ودود وكأس عرق سمينة خارج فاتورة الحساب ، أما أنا فدائماً ما كنت أدعو مارلينة الحلوة صوب مائدتنا الطيبة ، كي تسكر معنا ونرفع كأساً عالية بصحة بغداد العباسية ونواسياتها الرحيمة التي ذهبت ولن تعود .
في تلك السنوات صار عبد الستار ناصر القاص والحكواتي والروائي والضحاك ومغني الحليميات والوهابيات بصوت عذب ، صار قطعة من أثاث وسط ربة عمون ، وعندما سافر الى مهجره الكندي البارد ، انفرطت اللمة العجيبة ، كما لو أن كؤوس الصحب كلها كانت مؤقتة على رنّة كأس « ستّوري « الذي مات غريباً فترمّل الندامى والمقهى والحان .
نقلا عن الزمان الدولية