قصة
حقيبة سفر
ساعاتٌ طويلة مرّت من دون أن تتمكّن من ترتيب حقيبة سفرها …
كانت تعتقد أنها مهمة سهلة ،أو إن لم تكن سهلة فأقل ما يُقال عنها ليست معقّدة ، لكنها اكتشفت أنها مهمة من الصعوبة بمكان بحيث انها تحتاج من يساعدها ، أو من يرتبها عنها .
عندما كانت تفرغ خزانتها من ثيابها كانت تلك هي لحظة حيرتها الأولى . أيُّ الثياب يجب أن يرافقها و أيها يجب أن يبقى هنا منتظراًعودتها ؟ ..
كتبها ؟ تذكاراتها الصغيرة ، و القليلة جدا ؟ الصور العائلية و الشخصية ؟ أدوات زينتها البسيطة؟ قوارير عطرها ؟ . أشياء ؟ و اشياء كثيرة تفكر أن تأخذها معها لتكون رفيقة أيامها مع علمها أنها يمكن أن تحصل على ما هو أفصل منها ، و أجمل ، و لكنها ترغب بأن ترافقها تلك المختارات لترافقها في رحلتها الطويلة . في لاوعيها كانت تحاول أن تنقل أو تنسخ ما تعيشه الآن في زمن ستعيشه لاحقاً ، و لكن بمفردات زمنها الحالي ؟؟.
ثيابها كومةٌ فوق السرير ، و ما تبقّى من كل أشيائها تناثر هنا و هناك في ارجاء غرفتها ..
حالة الغرفة تشي بفوضاها الداخلية التي تصل إليها في كل مرة تقرر فيها ان تعيد ترتيب حياتها.
أن تصلَ لقرار تعتبره أمراً سهلاً لا يحتاج منها لكثير من التفكير فميزانها الداخلي في حالة استنفار قصوى ، و دائمة ، و لكن الصعب بالنسبة لها ان تنفّذ قرارها المتخذ ..
الآن … هي تعلم أنها لن تعود إلى هنا أبداً ، و تلك كانت رغبتها الدائمة مذ كانت صغيرة عندما كانت تخبر أمها و صديقاتها برغبتها بأن تبتعد إلى حيث لا يصلها احد ( بتمنى سافر و أبعد و ما ارجع لهون ابدا ) .. و عندما كانت تُسأَل عن سبب رغبتها تلك لم تكن تجد جواباً مقنعاً لذاتها ، أو لمن حولها ، و لكنها كانت تشعر بأنها يجب أن تمتلك جناحين و تطير بهما بعيداً جداً …
ضاق المكان بانفاس روحها ، و عجزت التفاصيل الصغيرة عن الاستئثار بها لمدة أطول . بداخلها تمرّد الرخّ الذي يريد ان يفرد جناحيه إلى اقصى نقطة يستطيعها ..
و لكنها كأي إنسان إذا ما منحته الفرصة ليحقق ما يرغب به فإنه يحتار قليلاً ، و يشعر بالارتباك إذ كيف لرغبته أن تغدو حقيقة؟ … حقيقة متجسدة بحقيبة سفر …
عادت لتلك الحقيقة أمامها … حقيبة السفر التي تعجز عن حشوها بأغراضها ، و أشيائها الثمينة التي ستنقل من خلالها المكان إلى حيث تطير …
وقفت تفكر بأنها ستكبّل أجنحتها بحقيبة سفر ؟ …
دخلت أختها الغرفة ، و راعها ما رأته من فوضى رغم أنها لم تكن تتوقع أفضل من ذلك ، و لكنها دُهِشَت لأنها في كل مرة تسأل أختها هل تحتاجين مساعدة فيكون الجواب بأنها تسيطر على الوضع . لكنها اكتشفت أن الخيوط كلها تفّلتت من بين أصابعها و صارت فوضى حقيبة سفر…
لم تنتظر طلب المساعدة من أختها ، و لم تكرر سؤالها لها .. بادرت من ذاتها ، و بدأت ترتب الأشياء المتناثرة في علب كرتونية ، و اكياس نايلونية سميكة . اما الملابس فبدأت بترتيبها كمن يرتب نوتة موسيقية : ( بكرة بتبردي .. خدي هالكنزة ..و هالبنطلون بتلبسيه لما … .
جاكيتك الاخضر ليش مو اخدتيه مناسب ل …
.جراباتك مو سماك منيح .. شالاتك .. شالاتك وينهن ؟ ؟ )
و هكذا و بالتدريج بدأ مظهر الغرفة يبدو مظهر غرفة مسافر … .
وقفت تراقب اختها ، و هي ترتب حقيبة سفرها الخاصة … حياتها السابقة .. احلامها القديمة و ذكرياتها التي تود ان تنساها … افكارها المكتسبة و عاداتها التي تبدّت واضحة بمقتنياتها … كل شيء كانت تعيشه هنا رتبته اختها في حقيبة السفر التي سترافقها إلى حيث ستطير …رتّبته و مأن الامر لا يعنيها أو يخصّها .
من النافذة التي تغطّى وجهُها بشبكة من القضبان الحديدية منعاً لتسلل أي لص لمحت طيراً يقترب من النافذة ليحط على الجزء النافر من الجدار كما عادته في كل ربيع يتجدد …
يأتي من دون ان يحمل معه شيئا .. و يبدأ ببناء عشه من قش المكان الذي وصل إليه …
فكرت أنه ذكي ، و أنه لا يعيق حركة أجنحته بأحمال من ماضٍ تركه ، بل إنه يستفيد من المكان الذي وصله ليبدأ رحلة بناءه الجديدة .
لماذا لا تكون مثله ؟ لماذا ترهق نفسها بحمل كل هذه الامور، و كأنها ترغب باستنساخ هذا المكان في منطقة أخرى بنفس التفاصيل حتى الصغيرة منها ؟
إذا مُنِحَت القدرة على الابتعاد عن هذا المكان فلماذا تشلُّ حركتها بأحمال الماضي ؟ ..
عليها ان تبدأ من جديد ان تستكشف و تبني لا أن تستنسخ …
أول ما يجب ان تفعله هو ان تحرّر أجنحتها لتطير بسرعة ، و قوة اكبر .. لذلك قررت أنها لن تحمل معها إلا ما يثبت وجودها و أما جذرها الذي ستتركه فهي على ثقة ان أنثى اخرى مثلها و بذات العينين البنيتين ستأتي لتتملكها الرغبة ذاتها بالطيران و ستتعلم منها هي و ستتبعها في الطيران بعيدا …
حياتنا حقيبة سفر نحشوها او نفرغها بحسب وعينا ، و عزمنا على تحقيق رغبتنا …
خلود انيس ابراهيم – سوريا