حسرة الظل
القراءة الثالثة
توفيق الشيخ حسين
القراءة الثالثة من كتاب ( حسرة الظل / تجارب في الشعرية النادرة والبساطة الجميلة ) للشاعر والروائي والناقد ” محمد الأسعد “.
تقرأ الثالثة تجارب ثلاثة شعراء من فلسطين ( توفيق صايغ ) ومن سورية ( محمد الماغوط ) ومن لبنان ( أنسي الحاج ) , جمعتهم دائرة شعرية واحدة في منتصف القرن العشرين , امتازوا بمنح اللغة وظيفة غير معتادة , خارج كونها مجرد لغة تواصل يومي , لغة لا تختفي منها وظيفة التواصل , ولكن تتبدل الرسالة المرسلة بتبدل فحوى الرسالة واداتها .
(1) أسطورة وحيد القرن
توفيق صايغ ( 1971 – 1923 ) كان استثناءا ً , فقد ظل حقله بعيدا ً ومنعزلا ً , أي ظل نهجه وكشفه غير مبذول لأسباب عديدة أهمها أنه كان برموزه العربية المسيحية أشبه بصاحب قدمين صحيحتين يسعى في ثقافة عرجاء لم تحسن تدبر ثرائها الروحي جيدا ً , إضافة إلى أنه هو ذاته لم يسع الى الإطلال من نوافذ وسائط الأعلام والترويج , ولم يعتقد كما يظن ” الأسعد ” : أن غايته تتجاوز الانهماك في غمار تجربة روحية الطابع ذات خصوصية , تجربة ليست للتعميم ولا للتعليم وإنما إلى مزيد من الصدق بين النفس والنفس , لم تكتب تحليلات وفيرة لتجربة ” توفيق صايغ ” في الأيام الأولى , واكتفى كثيرون من الذين استقبلوا تجربته بحماس بتعابير سريعة إنطباعية , وبعد سنوات مرت على وفاته ستظهر مقالات أكثر جدية يكتبها بالإنجليزية عدد من الكتاب وصدرت سيرت حياته الوحيدة في العام 1989 .
يتفاجأ ” الأسعد ” بدراسة متميزة نشرتها بالانجليزية ( د. زهرة حسين ) من جامعة الكويت في ” مجلة الأدب العربي ” هولندا , ليدن / في العام 1999 , تحت عنوان ( جماليات التنافر : أصداء نيتشة وبيتس في شعر توفيق صايغ ) , توقف ” الأسعد” أمام هذه الدراسة لسببين , الأول أنها درست قصيدة واحدة شهيرة له هي ” بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن ” من كتاب ” معلقة توفيق صايغ ” من منظور تحليلي تعمق في الجذور الفلسفية التي متح منها صايغ , والثاني لأنها وضعت الشاعر في إطار مصادره الغربية وموروثه المسيحي الشرقية ببصيرة نافذة .
قصيدته ” بضعة أسئلة ” نموذجية في عبورها الثري للثقافات , فهي تحمل من جهة رؤيا فلسفية للذات الشاعرة بوصفها نمطا ًبدنيا ًللمثقف كمنشد مخلص من الإنحطاط وتعرض من جهة ثانية متضادات نغمية ” بولوفونية ” تتواجه وتسمع سوية , السخرية والشفقة معا وهما تتنافران وتتكاملان , أساس هذه القصيدة الفلسفي وفرته فلسفة ” نيتشة ” القائلة بالثنائية في صميم الوجود , أما أساسها الجمالي فوفره الى حد ما ” بيتس ” بالربط بين ثلاثية ( البطولة / الفعل / المعرفة ) وموضوعة الخلاص الآخروي الجماعي ” ربط التجربة الشعرية بالتجربة الدينية ” هي قصيدة مركبة إذا ً من عدة أضواء متنافرة وكما تقول ( د. زهرة ) أنها قصيدة عن إحقاق الذات الشاعرة ” رمزها وحيد القرن ” في تحقيق إنجاز بطولي تراجيدي أصيل غير مسبوق , وتقوم القصيدة على قصة أسطورية تروي سعي وحيد القرن الى العذراء , ومقاومته لكل أشكال الإغراء , وينتهي هذا السعي اليها , تلك التي يستريح اليها ويستسلم , فتسلمه للصيادين( إذ ما تفعل بمن استسلم وأبعد قرنه جانبا) ويمزق الصيادون جسده ويأخذون قرنه الذي يستخدم في علاج العقم عند النساء والرجال .
اطاردك ِ من غير كلال لا يصدني الإخفاق .. ويقصيني طرادك ِ يوما ً فيوما ً عن دارتي ومعبدي عن مشغلي وملتقى الخلان عن حقلي وعن ضريح غدي ويشعث مرآي الارتطام بالإشجار والصخور
واطاردك ِ إلى أن ينطلق السهم الكبير واهوي وتهوين لاهثين يجرّنا معا صائد ٌ أيدري ؟ ليس يدري أي شيء يفعل بنا !
هذه الأحداث تؤدي دور المعادلات الموضوعية لكل ما يعتمل في القصيدة من مشاعر وعواطف , أو للفكرة الميتافيزيقية على رأي ( د. زهرة ) .
تصوّر الباحث ( عيسى بلاطه ) في مقال له ” أن وحيد القرن يمثل الشاعر البطل الفاضل والمحاصر , ذلك الذي يفضل أن يظل ّ وفيا ً لطبيعته , بينما تمثل العذراء المثل والمبادىء التي يؤمن بها الشاعر الذي يتنكر له العالم , ولكن الشاعر بدلا من أن يساوم على المبدأ والمثال ويستسلم , يظل متمسكا بحبه لما يؤمن به , حتى وأن قاده هذا الى المعاناة والموت ” , هذا واستنادا الى المنابع الفلسفية التي استند اليها ” توفيق صايغ ” , تختلف ( د. زهرة ) مع هذا التفسير بذكاء فهو ينم ّ عن عدم معرفة أو تجاهل لبنية القصيدة الأساسية القائمة على تنافر الأصوات , وستبرهن في تحليلها المعمق لهذه الأصوات ومرجعياتها ,على أن الدراما لم تكن بين الشاعر وعذرائه التي يؤمن بها من جانب , والعالم , عالم الصيادين من جانب آخر , بل بين تعارض صوت وحيد القرن المثالي والعذراء التي انتظرت كائنا ً من لحم ودم فإذا بها تفاجىء بكائن من غيوم .
توفيق صايغ يجسد في شعره وحياته كل مواصفات البطولة التراجيدية وعناصرها , فهو المنفي عن الوطن وفيه , وهو المختلف لغة ً وتجربة ً وأسلوبا ً , وهو طريد الجغرافية وشريد المرأة وشهيدها , كما يقول عنه الشاعر شوقي بزيغ : ( هو يتشاطر مع يوسف الخال نزوعه اللاهوتي وتجربته الصحافية الرائدة والمضنية , ويتقاسم مع أنسي الحاج مروقه اللغوي ولقب ” القديس الملعون ” ), هذا هو توفيق صايغ المنسي في مناولات النقاد والشعراء , كتب القصيدة بالنثر , في طول الوطن وعرضه , لأنه وعى التجديد أسرارا ً وأعماقا ً وأبعادا ً ومساحات, قول سعيد عقل عن كتابه الشعري ” ثلاثون قصيدة ” : ( إن كتابه لا ليقرأ , إنه ليغدو خلجات فيك , ودما ً دافقا ً ونارا ً , إنه مزيج من شبق ٍ ولاهوت ٍ , من كشف علمي وخطيئة , وبراءة ملائكية أولى , لكم هو ابن ٌ للحياة , هذا الذي لم يتعب من قرع باب الحياة ) .
( 2 ) سريران تحت المطر
يتذكر ” الأسعد ” بأن أول لقاء له بشعر ( محمد الماغوط / 2006 – 1934 ) جاء حين وصل الى فصل” قصيدة النثر” في كتاب ” قضايا الشعر المعاصر ” للشاعرة نازك الملائكة ( 1962 ) , في هذا الفصل أشارت الشاعرة في معرض تنديدها بالشاعر وشعره الى مجموعة محمد الماغوط الأولى ” حزن في ضوء القمر ” , واقتطف ” الأسعد ” منها قصيدة لتدلل للقاريء على أن هذا الذي أطلقت عليه صفة ” بدعة غريبة ” ليس سوى ” نثر طبيعي مثل أي نثر آخر ” لأنه حسب تعبيرها خال من أي آثر للشعر , فليس فيه لابيت ولا شطر .
ويتذكر ” الأسعد بأن اللقاء الثاني حين قرأ للناقد ” صبري حافظ ” في أحد أعداد مجلة ” الأداب ” البيروتية خاص بالشعر الحديث , مقالا ً بعنوان ” هذه القصيدة .. لا شعر ولا نثر ” .
يتابع ” الأسعد ” في دراسته بأن ” الشعرية ” العربية لم تدُرس دراسة كافية , ولم يُستخلص حتى الآن مفهوم للشعرية يضىء الى حد معقول الفرق بين ” البيت والشطر ” أي النظم , وبين ” الشعرية ” رغم توافر إشارات جميلة هادية , الأكثر دلالة على الإحساس المبكر بالشعرية التي لا تعلق لها بوزن وقافية جاء في كتابات البلاغي ” عبدالقاهر الجرجاني ” وبخاصة في كتابه ” دلائل الإعجاز ” حين درس هذه ” الدلائل ” واستخلصها من الشعر الموزون ومن النص القرآني ومن مجرد أقوال وحكم سائرة , ” الأسعد ” يؤكد أن دلائل الإعجاز هذه تناظر في لغتنا المعاصرة دلائل الإبداع , أو الشعرية كما تفهم الآن في الأدب الغربي , وتحضره دائما قصة طفل ” حسان بن ثابت ” حين وصف لأبيه الشيء الذي لسعه بقوله ” كأنه ملتف ببردي حبرة ” فهتف حسان ” قال ابني الشعر ورب الكعبة ” , هذا التشبيه الملموس للنحلة بكائن يرتدي عباءة يمانية حريرية مخططة , كان كافيا ً ليطرب حسان فيهتف هتافه المعروف , ويكشف لنا أن أبنه قال ” شعرا ً ” غير عابىء بما اذا كان قوله هذا موزونا ً أو مقفى , أليس أمرا ً يدعو الى السخرية أن يلتقط العربي منذ زمن مغرق في القدم جوهر ” الشعر ” من بين ركام الأعاريض ” الأبيات والأشطار والقوافي ” بينما يعجز عربي معاصر , شاعرا ً كان أومختصا ً عن التقاطه , فينقض ّ على الشعرية , نافيا ً عنها هذه الصفة , ومؤكدا ً أنها ليست سوى ” نثر عادي ” ومقررا ً أن ” لا مصلحة منها للأدب العربي ةلا للغة العربية ولا للأمة العربية ” كما ذهبت نازك الملائكة , بل والمضي أبعد الى القول أنها ” لا شعر ولا نثر ” مثلما جزم وحزم صبري حافظ ؟ .
أيها الربيع ُ المقبل ُ من عينيها أيها الكناري المسافر ُ في ضوء القمر خذني اليها قصيدة غرام ٍ أو طعنة َ خنجر فأنا متشرّد وجريح أحبّ ُ المطر وأنين الأمواج البعيدة
تبعث هذه السطور أحاسيس لا رصيد لها في الذاكرة الشعرية , وتضعنا منذ الصفحة الأولى من صفحات مجموعة ” حزن في ضوء القمر ” في موقف لا يدعونا الى محاولة فهم معنى ما , بل الى تلقي شعور ما .
يقول ” الأسعد ” أن هذه الصور , العنيف منها والهاديء , والغاضب والطافح بالحنان , قد تجد تفسيرها في هذه الخلفية التي لا تخلو منها قصيدة , ولكنها لا تطالبه بالتفسير بقدر ما تلح عليه إختراق طبقة التفكير الى طبقة المشاعر , وترسيخ إحساس قوي بهذه الحياة المضطربة لمتشرد بألوان حادة , أو بألوان حارة بتعبير الفن التشكيلي , الألوان ربما هي الأكثر حضورا ً في تجربة الماغوط , وكذلك روائح الأمكنة واصواتها , وهو ما يعني حضور الحواس بمختلف تنوعاتها وتداخلها وتراسلها أحيانا ً , إنها أداة فنية , وربما هي أكثر الأدوات الدالة على أن ها هنا وقعة شعرية , لا صفوفا ً من الحكم والأمثال والمواعظ .
لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء
ولكن من يلمس زهرة فيها يلمس قلبي
الحياة مملة كالمطر بلا ماء كالحرب بلا صراخ أو قتلى
هنا نحل ٌ .. وهناك أزهار ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي
لفت نظر ” الأسعد ” أن محمد الماغوط في مجموعته اللاحقة مثل ” غرفة بملايين الجدران ” و ” الفرح ليس مهنتي ” بدأ ينسى كما يبدو تجربته الأولى في ” حزن في ضوء القمر ” أي بدأ ينسى أنه شاعر بداهة أولى وليس ” صانع ” مشاعر أو ” عاملا ً ” على إعادة سبك مشاعر , فتكاثرت في سطوره رغبات قول رأي ذي معنى , فبدأ يخرج من مجال استكشاف الأحاسيس والمشاعر والرسم بالألوان الى مجال المفارقات اللفظية , واستثارة الدهشة بالجمع بين فكرتين متناقضتين , وإعادة سبك وتدوير الصور الأولى .
محمد الماغوط بركان قلق متوتر لكنه صامت , بداياته الأدبية الحقيقية كانت في السجن وكما يقول : ( معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها وأحلم بها , رأيتها من وراء القضبان , وفي الزنزانة عرفت الخوف لأول مرة , وأنطبعت روحي بوشم التوجس من العالم , وهرب مني الأمان وربما الى الأبد ) .
تثير الدهشة كلمات وضعتها ” سنية صالح ” في مقدمة طبعة أعمال الشاعر الكاملة ( 1973 ) تزعم فيها أن ” بدائية الشاعر لعبت دورا ً هاما ً في خلق هذا النوع من الشعر ” , وتمضي الى القول ” إن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي , وهكذا نجت عفويته من التحجّر والجمود ” , صحيح أن موهبة الشاعر كانت ” في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي ” , كما يبدو , ولكن هل يعني هذا أن حضانة التراث ترادف الزجر والتحجّر والجمود دائما ً ؟ لا شك أن إضافته الشعرية كان سيقدر لها أن تكون أكبر وأكثر ثراء ً بما لا يقاس لو حدث هذا التكامل .
أطلق على محمد الماغوط ( كولومبس الشعر الجديد بلا أدنى شك ) , إن شعريته ترسم لقصيدة النثر شكلا ً عربيا ً خالصا ً وصوتا ً عربيا ً نقيا ً , إن الإحساس الذي يحركه فينا شعر محمد الماغوط حسب رأي الدكتور علي جعفر العلاق ( إحساس قاس ومتوتر , إحساس بالوجه القاتم للحياة وإرتباط بالمستوى الجحيمي منها , أي أنه لا يكتفي بالسطح اللامع للأشياء وتفاصيل حركتها اليومية , بل يغوص وراء شحنتها المغلقة التي تأخذنا مشاغلنا بعيدا ً عنها , فلا نجد فرصة للتفكير فيها أو تأمل دلالتها ) . لقد حفل موت محمد الماغوط كما حفلت حياته بالمفارقات , فقد مات هذا الصادق المعذب وكما قال عنه نزار قباني:( محمد الماغوط أصدقنا , يكتب بصدق , وليست لديه أية حواجز ), جعل من خلال موته دموع الحزن تتلألأ في سماء عينيه كالنجوم هذا هو محمد الماغوط واحد من فرسان الكلمة التي أيقظت الكثيرين ولم تزل, وأنها لا بد واصلة طالما أن الحياة مستمرة والضمائر حيّة والعقول تنبض .
( 3 ) حسرة الظل !
يتناول ” الأسعد ” أنسي الحاج ( 2014 – 1937 ) في تقديمه لمجموعته الأولى ( لن ) 1960 , عندما يسأل أنسي الحاج ” هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة ؟ ” , واجاب بنعم , بعد أن نثر بين يدي القارىء عدة مستندات اهمها التمييز بين النثر والشعر , كمقدمة للتأكيد على أن النظم ليس هو الفرق بين النثر والشعر , فقد قدمت التراثات الحية شعرا ً عظيما ً في النثر ولا تزال , وما دام الشعر لا يعرّف بالوزن والقافية , فليس هناك ما يمنع أن يتألف من النثر شعر , ومن شعر النثر قصيدة نثر .
من هنا جاء كل ما طرحه ” أنسي الحاج ” في تقديمه لنفسه قراءة عجولة لمقدمة كتاب الفرنسية ” سوزان برنار ” ” قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا ” 1959 , لم يكن لدى هذه القلة آنذاك وعي ولو ضئيل بضرورة مراجعة حصيلة ما لديها , أو لم يكن لديها في الحقيقة شيء تستند اليه سوى ما توحي به اللغات الأجنبية , كان “مفهوم الشعر ” في الثقافة العربية مغلقا ً حتى دون منجزات أساطين البلاغة العربية من أمثال الجرجاني وحازم القرطاجني وابن رشيق , فلكي يوضح ماهية قصيدة النثر , استعار شروط قصيدة النثر ثلاثة : ” أن تكون موجزة توفر عنصر الإشراق , وأن تكون متوهجة , وأن تكون مجانية “أما علي أحمد سعيد “أدونيس” الذي ذهب الى النبع ذاته , فقد التقط شروط الماهية نفسها ( مجلة شعر عدد14 / 1960 ) , فلديه نجد شروط قصيدة النثر أن تكون كلا ً عضويا ً مستقلا ً , وأن تكون بناء ً فنيا ً متميزا ً لا غاية له خارج ذاته , مجانيا ً بمعنى أنه لا زمني , لا يسعى إلا غاية , يعرض نفسه مثل ” شيء ” من الأشياء , أو كتلة لا زمن لها أو فيها , وأخيرا ً هناك شرط الكثافة أو الإيجاز , تركيب إشراقي بلا شرح ولا تفسير أو استطراد , لكننا لا نجد بعد كل هذه السنوات إلا قلة من شعراء قصيدة النثر استطاعت تدبر هذه المفاهيم تدبرا ً حكيما ً , والإصغاء جيدا ً الى ما قالته الملهمة الأولى ” سوزان برنار ” :
” تنطوي قصيدة النثر على مبدأ فوضوي وهدام لأنها نشأت في التمرد على أعاريض الشعر , وأحيانا ً على قوانين اللغة المعتادة , ولكن كل تمرد على القوانين القائمة مجبر إذا أراد تقديم عمل أدبي باق , أن يحل محلها قوانين آخرى , حتى لا تصل القصيدة الى ما هو غير عضوي يفتقر الى الشكل ” .
وتجاهلت الأكثرية , وما زالت تتجاهل قولها : ” صحيح أن الوزن والقافية ليست كل شيء في القصيدة , إلا أن شاعر قصيدة النثر يبحث عن المتعة الشعرية أيضا ً في مكان غير الشعر المنظوم “, أي أن غاية القصيدة هي الشعر في كلا الحالين , حال التمرد على البنى القائمة , وحال بناء فن ينتظم في قصيدة .
ويتابع” الأسعد” بأن “أنسي الحاج “لم يتقدم مع مجموعته الثانية ” الرأس المقطوع/ 1963) , نحو شعرية متميزة ممتعة , إلا أن قاريء هذه المجموعة يلاحظ أنه بدأ يحكي حكايات , ولم يعد يتوقف كثيرا ً عند رد الفعل , مجرد رد الفعل الغاضب على الجاهز اللغوي المبثوث حوله وفي داخله , ونلمس حنينه الى الشعر في لمحات باهرة موحية في مجموعته ( لن ) نجدها تقف حزينة الى حد ما وسط ركام الكلام .
يجب أن أبكي , كيف نسيت ُ أن الدموع تعكر المرايا ؟ المرآة غابة لكن الدمعة فدائي ّ فلأسمع جلبتك ِ أيتها الرفيقة ! فلأرفع لوائك ِ حتى تتقطع َ أوتار كتفي ! تمُطر فوق البحر . لم يعد في العالم دمعة .
على هذه التجربة أطلقت مجلة ” شعر ” حاضنته الأولى , تعبير ” الشاعر مقنعا ً يغامر مع حاله ” , أي مع لغته التي تعلمها أو أملاها عليه التقليد المدرسي , وتاق ليس الى تحرير الشعر وحده بل الى تحرير نفسه , ولأنه حر , وبمقدار ما يكون حرا ً , تعظم حاجته , حسب تعبير أنسي الحاج نفسه , إلى اختراع متواصل للغة تحيط به , ترافق جريه , تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معا ً, ليس للشعر لسان جاهز , يؤكد ” الأسعد ” بأن أنسي الحاج يقترب من قول أحاسيس ناصعة بالغة الجدة مع مجموعة ( ماضي الأيام الآتية / 1965 ) , وبعد ذلك مع مجموعة ( ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة / 1970 ) , بصياغة بنية لغوية وجسد للقصيدة شبيه بالإنشاد بعناصر أشد تأثيرا ً , الإيقاع هنا أكثر وضوحا ً , ينساب بسلاسة ويتسرب إلى القلب من دون تقاطعات مفتعلة أو تشويهات سريالية مفتعلة , هنا تتواصل الأشياء , وتتصل مثل تموجات , ولا تتنافلا كما يتنافر حطام في زحام من الصور وشظايا الصورة .
( لو عاد زماننا أيتها الطالعة من الروايات لجعلتها أثمن من الموت ) , هنا حزن ٌ شفيف من نوع ما , تقل ! معه المجانية بمفهومها المشوه , وكأن الشاعر ضجر من تلك الرغبات السريعة الإنطفاء , وتحول الى مراقبة وتأجيج مجمرة تشتعل بهدوء ويسري وهجها رويدا ً رويدا ً : أحب ذكرى الأيام التي كانت تمشي تمشي ولا تعرف أنها ستنتهي في كتاب , أحب ذكرى الأزمنة العاملة , المغموسة , الضبابية , ذات العمالقة الذين مشوا مشوا وهم لا يعرفون أنهم سينتهون في كتاب .
وفي النهاية يعبّر ” الأسعد ” بأن هذا الأستكشاف جاء ليمثل بتلقائيته الشاعرية نية وإرادة صياغة قوانين القصيدة الجديدة , ليمنحها قواما ً بعد أن أهتدى الشاعر الى لغته , وهل كانت المغامرة الأولى إلا بحثا ً عن لغة ؟ البحث في نصوص منسية خارج المجال الضيق الموروث , وتأمل طبقات مهملة في تضاريس ثقافة الأرض العربية , وميل واضح الى تركيب للجملة مستمد من تراكيب ترجمات سفر مثل ( نشيد الإنشاد ) , كانت للجملة اليونانية فيها سيطرة , وتعقب نصوص الألواح الكنعانية والبابلية والآشورية التي كشف عنها المنقبون , صحيح أن هذه ” مغامرة سافرة مع الشعر ” ولكنها مغامرة للوصول الى البسيط بساطة جذع لم يلمسه إزميل أو حجر لم يصل اليه النحات بعد .
لم يكن أنسي الحاج شاعرا ً عاديا ً , إضافة الى كونه واحدا ً من رواد قصيدة النثر العربية , تميز بلمسة شعرية خاصة , هو لا يستعير من تراث الشعر شيئا ً يتوكأ عليه في قصيدة النثر, لكنه يخلق من النثر شعرا ً, هو يعرف أكثر من كل الشعراء أن النثر وحده فيه كل مقومات الشعر , يقول عنه الشاعر أدونيس : ( معك يا أنسي , يزداد إستمساكنا بحبل الرؤيا , يتسع أسلوبنا في التعبير عنها , وينمو ويغنى , يصبح لنا نوع آخر من الشعر , ومن النثر أيضا ً ) .
حسرة الظل .. القراءة الثالثة
اترك تعليقا