صباح محسن
قد أبكي عليه طويلاً وقد يظل يهزني مصابه كثيراً، ولأنه جزء مهم من باطني الواعي واللاواعي سيرقد زمناً لا أظنه قليلاً من مخيلتي ولا أظن أن لي القدرة على نسيانه أو تجاوز أمره! لأنه عاش معي عدة سنوات، وظل يكبر ويكبر الى أن تجاوز العشرين ربيعاً.. هو فتى جميل ورائع ونبيل تعرفت عليه من طريق أبيه، ولان اباه يمتهن الشعر، فقد كان قربه مني يزداد بوناً بعد بون، وكنت قد حفظت عن ظهر قلب كل مواصفاته، بل حتى ضحكاته وكان يتردد عليّ عبر قصائد أبيه وأحياناً كثيرة توهمت باني أتحسس وجهه وأمسك بيديه وتهزني ضحكاته وأبتهج حين أسمع انه قام ببعض الواجبات التي ترفع الرأس، مثل تواصله مع ذويه وحرصه على توفير ما تحتاج اليه عائلته بكفاحه من أجل لقمة العيش، كل ذلك كان يبهجني ويدفع بي الى الحسرة؛ لأني لم أنجب ولداً رائعاً وكريماً وغيوراً على نفسه وعائلته، مثله، وما من يوم يمر من دون أن نتنازع انا وصديقي الشاعر عدنان الفضلي عن أخباره ومثالية شؤونه ونرسم كلانا أحلاماً وحياة عريضة وواسعة له كي يتسنى له اكمال مسيرته في الحياة والتي هي مسيرة رجل ناضج ومكتمل، وهذا وحده كافٍ ليشعرك بالغبطة والفرح على فتى ذهب الى الرجولة مبكراً.
لكنها الأقدار، وما أقسى حكمها وتشتتها وعدم بصيرتها وقسوتها! هكذا وبلا انذار ولا خبر موجز ولا مقدمات تختطف يد المنون روح الفتى.. بلا رحمة وهو في ألق انطلاقته وجموحه وصولاته، كيف لي ان أقف بوجه الأقدار وزحفها المرعب لخطف روح غزوان ابن الشاعر عدنان الفضلي؟
ويحي عليك يا عدنان وعلى حزنك وعلى شعرك الذي سوف يسطر أبياتاً من الفراق، ويحي عليك وأنت تفارق نجلك الأكبر غزوان، يا الله كم سيصيب الحزن قلبك الممتلئ بالحياة والشعر، آه ما أقساها من واقعة وما أكبرها من مصيبة على قلب الشاعر وروحه ووجوده وهو يفقد نجله الأكبر الذي زيّنت له الأيام ما كان قد فقده في ذاته من صولات وتمرد وانطلاق.
كيف لي أن أراك وأنت شاحب الوجه مدفون الوجنات بفراق من أحببت وراهنت وعشقت الحياة من أجله، ان لي من قوة الصبر والتحمل وأنا أراك في الأيام المقبلات وأنت تحمل على ظهرك كل الحزن وكل معنى الفراق.
أيا عدنان أيها الشاعر المبتلى خفف عليك الألم واقبل مني مناصفة حزنك وحمل ضيمك الثقيل، حباً بولدك وانصافاً لما أصابك.
ترى أيها الشاعر هل بالامكان المشاركة في الحزن أم هل تراك تظل تحمله وحدك بسكون ووحدة، وتضمد جراحك بالدموع التي تسقي ألف قبر…
كيف؟
عدنان الفضلي
أسئلة الى ولدي غزوان
كيف النسيان ..
وصرير الباب يذكرني
انّك آخر من يسمّر وجه الليل
وانّك لا شريك لك ..
في الهمس قبيل الفجر ..؟
* * *
كيف ..؟
يجلدني هسيس أيّامك
ساعاتك
دقائقك المعجونة بشقاوتك..
كيف أمرّر أسبوعاً خالياً من شكواك
ونفحات الليل ..
المليئة بقلقي من جنونك .. ؟
* * *
كيف سأحرسها ..
قافلة أمنياتك المسرعة
وأنت الذي سحبتني
لصحراء الفقد القاحلة ..؟
* * *
كيف أتخلـّص من ظنوني ..
من انّك ..
تركت مجادلة الآلهة
ورسم الخطوط الحمر للحى ..؟
* * *
كيف ترحل ..
وأنت المدين لي بصفعة
وحفنة من قبلات ..؟
* * *
كيف لمائدة ..
” سلوان “
” رضوان “
” شكران “
أن تحتمل الشكر
ووجهك لم ينهرهم
حين يلاسنون الأواني ..؟
ما تيسّر من صورة الفقد
وأذكر في الغياب ..
انّ صبيّاً سومريّاً
انتبذ لنفسه مكاناً قصياً
وصار ينابز (آنو)
في الطيران…
من الفضاء الى الفضاء
اذ قال لأبيه ..
يا أبتِ ….
انّ اللصوص سرقوا أحلامي
وأنا ذاهب الى السماء ..
أحفّزها ..
أن تمطر هؤلاء ..
بوابل من اللعنات
*******
وأذكر في العتاب
انّ الفتى الناصريّ
لم يدخل البوابة السومريّة
من دون أن يندلق دمه
على كتف الجادة اليمنى
ايذاناً برسم الفقد
على ملامح العائلة..
فالفتى (غزوان)
وهو يفرد أجنحته
ألقى نظرته الأخيرة
ونادى باعلى صوته
أينها أحلام جلجامش
في خلود القوس الأول
وتأطير الأصل
بحجارة تمنع الغرباء
من دخول الزقورة .
*******
وأذكر في السباب
انّ الآلهة ..
من مشرق أوروك
وحتّى مغرب بابل
يلعنون الوسط المظلم
يفتك بالصبْية
والفتيان السومريّين
ويدّخر الرؤوس المعفّرة بالسواد