مهند العزاوي
يشهد العالم فوضي سياسية وعسكرية واقتصادية وقانونية، وانهيار شامل للمفاهيم ومنظومة القيم الأخلاقية والإنسانية والمهنية في ظل حروب الغرف المرفهة والانفراط القومي، وقد شهدنا استراتيجيات هجينة غير متوازنة لتفكيك الخارطة السياسية العربية وفق المنظور الشركاتي العالمي، خصوصا بعد إخضاع النظام الرسمي العربي لخصخصة الدول وحرب الانفراط القومي وتمرير خطيئة غزو العراق وإعادة تشكيله علي أسس طائفية ومذهبية وعرقية كأنموذج للنظام العربي الجديد وبما يخدم منهجية مجمع الحرب الشركاتي الدولي.
يعاني المجتمع الدولي غياب المؤسسات الرصينة التي تنظم هيكل النظام الدولي الجديد، وشهدنا عسكرة العولمة وطغيانها في ظل وحشية مسالك النظام الرأسمالي الارستقراطي والإقطاع السياسي الشركاتي، الذي خلف أزمات اقتصادية مزمنة ومركبة تذكي حروب متعددة لتزال نيرانها تستعر في دول عديدة، وباتت تستنزف المال والبشر والنظم السياسية بالتعاقب، وقد أفقد مذهب الاقتصادي الأمريكي “ميلتون فريدمان ــ رأسمالية الكوارث” وبنات أفكارها “مدرسة شيكاغو” المصفوفة الأمنية العالمية ونسق السلم والاستقرار الدولي والتنمية المستدامة، وتعاظمت الكوارث والفوضي الهدامة وتفاقم النهب والاحتيال الدولي وتسارع بيع الدول.
ينحصر الصراع الدولي بين الدول المتمركزة وعبر منصات الصراع في الشرق الأوسط وباستخدام دويلات الوخز العائمة، ويمكن توصيفه صراع صدارة لان قاسمهم الإيديولوجي “رأسمالية الكوارث” الجشعة المتحايلة علي حق الشعوب، والفاقدة للقيم المهنية والأخلاقية والإنسانية، وتؤكد البصمات الرقمية للكوارث وصول العالم إلي اللاعودة، والانزلاق بحروب القرن الذكية، مما يبيح لكارتل المال الدولي مصادرة إرادة الشعوب تحت مبررات مصطنعة أبرزها: الأمن القومي، العدو الوهمي، الإرهاب، نشر الديمقراطية، حقوق الإنسان.. الخ لرسم خارطة الحروب وتفعيل منظوماتها الحربية المترهلة والعاطلة عن العمل وفتح الأسواق بالقوة، وبذلك تقود العالم إلي مرجل الفناء الشامل، ولعل حركة الاحتجاجات العالمية في أمريكا “حركة احتلوا وول ستريت” وامتدت إلي دول أوربا وكذلك الانتفاضات العربية تؤكد وحشية النظام الدولي وفشله في ترجمة تطلعات الشعوب وتحقيق العدالة الاجتماعية والأمن والاستقرار في ظل تفاقم العوز والجوع والبطالة والتهجير وشرعنه الحروب وتعاظم الفساد المالي والسياسي، واحتكار المال الدولي من قبل حفنة ارستقراطية تقود حروب القرن الذكية عبر الغرف المرفهة.
حرب الغرف المرفهة
تدار الحروب المعاصرة عبر منظومة القيادة والسيطرة وعبر الغرف المرفهة المزودة بشاشات البلازمة المتطورة المعشقة بشبكة المعلومات وأجهزة الاتصالات الفضائية المرتبط بأزرار إطلاق الصواريخ والقنابل الذكية التي تطلق من البوارج الحربية وحاملات الطائرات المنتشرة بأعالي البحار الحربية ضمن نظرية “صدمة العالم وترويع الشعوب” والتي تستهدف بنيرانها مؤسسات الدول الخدمية وممتلكات الشعوب والقوات المسلحة، وتحتكر مجموعة “هاليبرتون” منهجية “حرب الغرف المرفهة”وهذه الغرف الحربية المخابراتية تتميز بخدمات لوجستية متطورة تؤمن شن العمليات الحربية عن بعد، وفندقه القيادة والسيطرة بعيدا عن الميدان الحربي الفعلي وقريبا علي الشاشة، ويعد شكل من أشكال الحرب التجارية الآمنة لجنرالات الحرب بعيدا عن الموت والحصار والأسر في ميدان المعركة، ويمكن وصفها مزيج من حرب الأصابع وحرب النجوم وحرب الأشباح وحرب الفضاء والمعلومات وتلك سمة الحروب الذكية المقبلة.
استخدمت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون مصطلح “الحرب العالمية علي الإرهاب GWOT” لوصف الحرب الشركاتية العالمية تحت ذريعة محاربة الإرهاب وشملت في المرحلة الأولي: عملية الحرية الدائمة OEF غزو أفغانستان:، عملية الحرية للعراق OIF غزو العراق: عملية النسر النبيلONE:- وهو الاسم الرمزي الكود الذي يطلق علي الحروب والمهام والعمليات الخاصة التي تنطلق من القواعد العسكرية الأمريكية، وقد انتخبت الشرق الأوسط ميدان لحروبها، وانتهكت هذه الحروب كافة المحظورات القانونية والإنسانية والأخلاقية، ومارست الأحادية الفكرية والعسكرية والإعلامية، وخرقت خصوصيات وسيادة الدول وألحقت مؤسساتها الحربية والأمنية بمنهجيتها التي تستعدي مواطنيها وتستنزف أموالها وتمزق البني التحتية الديموغرافية وتعسكر مجتمعاتها، لتفتح أسواق تجارة الإرهاب علي مصراعيه: شركات تجارة الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، تجارة السجون، التجهيزات الشرطوية والقنابل الصوتية والدروع، معدات مكافحة الشغب والقنابل المسيلة للدموع وسيارات المياه والدروع الواقية، والمعدات الالكترونية من الحواسيب والكاميرات وكذلك الاسيجة الكونكريتية والحواجز والمنازل الجاهزة، وأيضا الشركات الاستشارية ومراكز الدراسات ووسائل الإعلام المرتبطة بالشركات ورؤوس الأموال، وبتوظيف هلامية العدو وتضخيم تفسير وتوصيف الإرهاب وضبابية التجريم ووحشية الممارسات وصدمة المجتمعات، ولعل ابرز ميدانها الدول العربية والإسلامية وتنميط شعوبهم بالإرهاب، وترتبط هذه الحرب بشكل جوهري بحرب الغرف المرفهة وحرب الفضاء ومكننة حرب النجوم وحرب المعلومات.
حرب المخابرات السرية
اسميها حرب الأشباح -War Ghost وهي الحرب المخابرات السرية، وهي حرب من نوع آخر تخضع لمفاهيم الحروب المعاصرة، وتستخدم فيها منظومات وبرامج مخابراتية تجسسية وفرق خاصة وخلايا عاملة ونائمة حسب مقتضيات الحرب، وتسخر لها منظومات متكاملة للإسناد (معلومات حديثة ــ قدمات لوجستية ــ وسائل الاتصال الخيطي ــ موارد مادية ــ أجهزة ومعدات وتقنيات متطورة) لغرض تحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية في بقعة ما من ارض الصراع، ويراد من تلك العمليات إحداث التأثير الاستراتيجي بالتناسب مع نوع الحدث المطلوب توظيفه سياسيا وإعلاميا وكسب نقطة تفوق علي إرادة الخصم أو نخر منظومته الأمنية أو اختراق مقصود بلغة الإشارة (رسائل محاكاة مخابراتية) لبيان المعرفة الدقيقة بنوايا الخصم وإبعاد تخطيطه، وتنفذ تلك العمليات وحدات خاصة وعملاء أو مليشيات مخصصة لهذا الغرض ويتصف منفذيها بالأداء النوعي والحرفية العالية التي لا تقبل الخطأ وفي الغالب لا تترك أثار تدل علي منفذيها أو هوية الفاعل، وأصبحت هذه الحرب ضمن منظومة الحرب المعاصرة وتوظف لها ميزانيات مالية عالية وخصوصا في الدول المتمركزة ومنصات الصراع الدولي.
تعد الحرب الديموغرافية اخطر المسالك المعاصرة في الحروب الخاصة لأنها تشيع الفوضي والدمار والتمزيق المنشطر لأي دولة، وباستخدام جرثومة الاحتراب الطائفي والعرقي، وقد انتشرت بشكل واسع في العالم العربي انطلاقا من لبنان والسودان والعراق مؤخرا، ويلاحظ ترويج مصطلحات الاحتراب الأيديولوجي إعلاميا وعبر الدعاية السياسية الموجهة كـ (الأكثرية، الأقلية، المظلومية، حكومة المذهب، التخندق الطائفي، الانفصال العرقي، الأصولية الإسلامية، الشيعة، السنة، الكرد، التركمان.. الخ) وبذلك تلغي منظومة القيم الدينية والأخلاقية والوطنية (المواطنة، الوطن، الدولة، الدين، الأمة ) ويتجاهل معتنقي هذا المذهب الحربي أنه سلاح ذو حدين وقابل للانفجار الديموغرافي الأفقي في دولهم لتعدد مكوناتها وأعراقها، وتعمل منظومة الحرب بالاستفادة من “عراق برايمر” علي ترسيخ ثقافة العزل والإقصاء والتكفير المهني لعزل “الطبقة الوسطي” واستبدالها بطبقة من الجهلة والمزورين لكي يستعينوا بالشركات وبعقود مليونية في إدارة أوطانهم وبالتزامن مع التكفير الطائفي الذي يقسم الدين إلي كانتونات مسلحة تحترب فيما بينها وتبرر تقسيم الدول، ناهيك عن التكفير السياسي وإقصاء الأخر واغتصاب السلطة وطوئفتها، وتلك المسالك تستنزف مقومات الدولة وتلاحم المجتمع وتنسف النظريات والنظم السياسية التي تشكل هيكل النظام الدولي وفق “نظرية الدولة”.
حرب الدعاية والأفكار
أصبحت الدعاية جزءا رئيسيا من المجهود الحربي وأضحت تجارة حربية مربحة، ويعتبر التضليل ابرز وسائلها، ويتصف بنشر وبث المعلومات والأفكار المغلوطة عن عمد وعن سابق تصور وتصميم لخلق واقع مزيف ومغلوط ومقنع بما فيه الكفاية، وذلك بهدف إيقاع الخصم في الخطأ بينما هو يفكر بشكل صحيح، والدعاية هي “نشاط منظم يمارس علي الرأي العام، لجعله يقبل الأفكار أو المذاهب، خصوصا في المجالين السياسي أو الاجتماعي” وتعد نشاط مصمم للتأثير علي فئة من الناس بقصد إقناعهم بفكرة ما لتوجيه أو تغيير سلوكهم” وهو شكل من أشكال العدوان ونشاط تخريبي سيكولوجيا يقع ضمن حرب الكلام والأفكار والمفاهيم وهو سلاح العصر السري.
تمارس الدول المتمركزة والمتحالفة معها حرب المفاهيم والأفكار ضد الدول المستهدفة، وبتوظيف خبراء التأثير وممارسي التلاعب والمؤسسات الفكرية المنتشرة في أرجاء العالم التي يديرها من يطلق عليهم “مفاتيح الفكر” وهم المحاربين الإيديولوجيين، ويعملون علي تسطيح المفاهيم والتلاعب بالكلمات والمصطلحات والصور لصناعة بيئة الحروب وتغيير الفكر، ويجري التأثير علي الرأي العام وهيكلة العقول بالعدو فوبيا (العدو الوهمي) وتضخيم التهديد لتبرير تجارة الحرب والدمار، وتعد من اخطر الحروب لأنها تخرق القانون الدولي وتضلل المجتمع الدولي وتبًسط تدمير الدول وتخلق الفوضي وتسطح وتلغي تاريخ الدول وتمارس ملئ الفراغ بعد الصدمة وبذلك تحقق الولوج ألشركاتي الجشع وما يطلق عليه “الولوج بعد الصدمة”.
حرب العروش
والانفراط القومي
تستهدف حرب الانفراط القومي القضاء علي الأمم والشعوب ونسف مفهوم المواطنة والوطن والأمة والدين من خلال استخدام الهندسة السياسية المعكوسة لتفكيك المنظومة القيمة، وقد استهدفت عالمنا العربي ونخرت مرتكزات القوة الأساسية للمجتمعات وذهبت لفلسفة التفكيك الصلب إلي مكونات ومذاهب وطوائف وقبائل وعوائل مسلحة والتمزيق الناعم بإشاعة ثقافة الطائفة والعرق والمذهب وحق الانفصال أو الفدرلة وبذلك تمزق الجيوبولتيك العربي الإسلامي.
شهد مطلع الألفية حرب إسقاط العروش والأنظمة السياسية تارة بالحروب النظامية وأخري بالضغط الاقتصادي والحرب عن بعد، وقد اسهمت سياسة الوصول الشركاتية التي تعمل علي بيع وخصخصة أصول الدولة ورفع الدعم عن المواطن في انتفاضة الشارع العربي، ناهيك عن هيمنة الحواشي المنتفعة علي الأصول والممتلكات الحكومية والتي تعني بأحوال المواطن اليومية أدت إلي تفاقم الفساد والبطالة والجوع والجهل، إضافة إلي تداعيات الانخراط بالحرب علي الإرهاب وترهل حكومات الظل من الأجهزة الأمنية التي أضحت تمتهن استعداء المواطن وإذلاله وحرمانه من حقوقه الأساسية، وبنفس الوقت تعظم هاجس الخوف لدي الحاكم من الشعب”الشعب فوبيا”، وجميع تلك التداعيات شكلت شرارة الانفجار الشعبي الذي شهدته دول بوليسية مميزة فشلت في إدارة أزمتها الشعبية ومطالب الإصلاح والتغيير السياسي، مما يجرف منظومات الدولة بعد التغيير وباستخدام مسلك الاجتثاث السياسي والمهني والفكري لتحل الشركات بديلا عبثيا يعزز الاحتراب والفساد والقتل والنهب والاحتيال الحر في تلك الدول.
افتقر العالم مطلع الألفية الثالثة لبوصلة قيمية وقانونية ترسم الخطوط العريضة وتحدد الكوابح الصارمة لحماية الإنسانية والشعوب من بطش الحروب المركبة وتجارة الأمن القومي وجشع الشركات المصنعة للسلاح وشركات النفط القابضة، وأضحت المنظمات الدولية المعنية بالشؤون القانونية وحقوق الإنسان ديكور أممي يجري تفعيله للضغط السياسي عند صناعة بيئة الحرب ضد بلد ما، ويبدوا أن هذه المنظمات أصبحت ملحقة بمنظومة الحروب العالمية بما ليتسق بمفاهيم تشكيلها وجوهر عملها، وباتت تتلاعب بالقانون الدولي لصناعة الحروب الفتاكة التي تقود العالم إلي اللاعودة.
تشهد الدول العربية تجريف جيوبوليتكي منظم ينطلق من مخطط تجريف العراق، ويتصارع كل من إيران وإسرائيل وتركيا علي التركة العربية، وقد فشل النظام الرسمي العربي في رسم خارطة طريق تحقق المكانة والتطلعات الشعبية والتنمية الفكرية والمواطنة العربية ودولة المواطن، واسهم هذا الفشل في أخراج العرب من معادلة التوازن الإقليمي وصنع القرار الدولي، ليقع في فخ العالم الرابع ويدخل طوعا في أتون “حرب المائة عام” التي تعتمد علي فلسفة التقطيع العمودي بحرب الأديان والتمزيق الأفقي بحرب الطوائف بين مكونات الشعوب العربية، وفي ظل غياب الإستراتيجية المسؤولة والمعالجة الواقعية الناجعة والعقلنة السياسية والإرادة الشعبية الصلبة نكون قد أصبحنا حطبا للحروب الذكية التي تدار عن بعد وتستنزف دولنا وشعوبنا ويمكن تسميتها “حروب الغرف المرفهة والانفراط القومي”.