حرز وشفاعة علي..
يَجِدّان في السير، لحست الأرض بطن اقدامهما فصارت تشعر بهستيريا التحرشف، فالأرض التي يسيران عليها كانت من المرمر الذي لم يعتاداعليه، يعيشون الصحراء، التراب بالنسبة لهم هو محور الكون منه خلقا وعليه يسيران وتحته يدفنان… عباءته التي نفقت ضمت جانب واحد من كتفه، لثام غطى وجهه كما اعتاد له ان يلبسه.. يجر صبي بحبل قد ربطه في رقبته وحوله قطعة قماش باهتة الخضرة عن لونها، صبي شعث الشعر متيبس الشفاه كان كل شيء قد توقف فيه، فاغر فاه وعيناه لِما يراه أول مرة في حياته التي كانت برفقة كلب وبعض أغنام مخاطها مثل مخاطه الذي يسيل على شفتيه وما ان يشعر ببرودتها حتى يشفطه ويرجعه مكانه، ثوب مخطط بلا أزرار فَلَك الريح يدور في فراغ جسمه مارا بكل أعضاءه التي لم تتقي ستر نفسها فباتت تتحرك بحرية جهل دون خجل او قيود… شاهده من كانوا في تلك الباحة الكبيرة المباركة التي ما أن وصل بابها الكبير حتى صرخ ( ابا الحسنين جيتك وأنا بشاربك يا حر يا إبن الحرة ) ونخ ولده الى الأرض كما البعير ليركع والصبي يرى والده الصعب المراس المتيبس المشاعر الفض الغليظ ولأول مرة يراه يلثم عتبة باب يشمها ويقبلها ثم نَحَبَ فوقها دموعه، وهو يسمع ولا يعي ما الذي يحدث!!؟ ضحك على منظر والده وراح يلثم العتبة لا شعوريا كما يفعل والده…
سادن الحضرة شاهد استغراب الناس!! من هذين الشخصين لكنه لم يحرك ساكنا إلا أنه قام بفسح المجال لهما، عرف إنهم طالبي حاجة ومن الناس الذين لم يألفهم التحضر لكن ساقتهم الفطرة والشغف بحب صاحب المقام لأن يفعلوا ما يحسون أنه الملاذ الآمن لهم، إنهم في حضرة وصي رسول الله صلوات الله عليهما.. جثى مرة أخرى وأناخ ولده عند العتبة الداخلية للباب وراحا يسيران على ركبتيهما، ولده دخل عالم من الحلم والإنبهار فالإنارة وروائح العطعور التي لم يشمها من قبل ولم يعرفها، كم الناس وهم يتحركون بشكل لم يعرف عنه ولا يدري لِمَ؟ الزجاج المتلألئ البراق عبق المكان ذهول الناس!!! شيء لم يراه من قبل، يسير خلف والده حتى وصلا الى شباك الضريح، فعقد الحبل بالشباك وقال: ( علي يا بعد حيلي وشيبي يا من فدوه أروحلك ) إجيتك بترابي ناخيك يا كل هلي وناسي، اريد منك إبني حسين هذا مدري شنو صابه صار مثل المسطور وهِبِل)…
كان ذلك قبل فترة من زمن خرج فيها حسين يرعى الغنم بعد ان أوكل إليه والده هذه المهمة وذهب هو في رحلة صيد قريبة وليست بعيدة وقال له: حسين عد الى البيت قبل ان تظلم الدنيا، يعني قبل الغروب فهمت؟ هز رأسه حيسن ورد قائلا: صار بويه إنت تامر.. سار القطيع خلفه وهو يمسك بعصا صغيرة يحدث الأغنام ويقول لها: ما رأيكم نذهب الى غير المكان الذي اعتدت أن آخذكم إليه؟ ربما يبعد قليلا لكن سنبقى بعض الوقت ثم نعود مسرعين هل توافقون؟ نبح الكلب الذي يرافقه كأنه وافق على طلبه، راحت الأغنام كلها بالمأمأة ردا عليه.. جد في الخطى، بينما هو كذلك راح يفكر بالحكاية التي قصتها جدته له عن الجني الذي يخرج الى الولد الذي يشكي ويشاغب ولا يسمع كلام أمه أو أبيه… راح باطن خياله بتتصور ذلك الجني خاصة أنه عصى والده فراح يغني للغنم بما سمعه من أهله في تلك الليالي التي يتسامرون فيها، أخذته نسمة باردة بقشعريرة، غلبه الخوف عثر دون إرادته ظنا أن هناك من كاد له العثرة فصرخ ( شتريد مني أنا رايح ارعى الغنمات مثل ما قال والدي لم أكسر كلامه حتى تضربني) تفرقت الأغنام عن بعضها البعض، الكلب أخذ بالنباح والابتعاد والاقتراب من حسين، غير أن حسين كان يرتعش كجنح ذباب طنان.. تراءى له أن جن ما قد خرج عليه وهو ممسك بعصا غليظة ليضربه سارع هو الى ما البسته أمه من حرز في رقبته، أمسك به يصيح ما اخاف منك انا بحماية مولاي علي ابو الحسنين ثم راح يجري مسرعا عائدا الى بيته ناسيا قطيع الأغنام التي أخذت تتسابق معه الى العودة، إلا أن صوت ما كان يقترب من إذنه يقول له: سآخذك عندي سأمسك لسانك، أجعلك مجنون مثلك مثل هذه الخراف هههههههههههه حسين… ستكون بين يدي منذ اليوم سأكون في بطن نفسك كل وقت ستصبح مُلكا لي الى الأبد… شارف الوقت الى ما قبل غروب الشمس عندما رأته والدته يجري بسرعة جنونية وهو يصيح جني… جني بعيدا عن الأغنام وقد سبق الكلب، رمى بنفسه الى حضنها مرتجفا يصرخ جني أخذني.. أخذني الجني… قامت والدته بالصلاة على النبي وآله، تمسك به وقد سارعت أخته الى لفه ودثاره إلا إن إرتجافه يزداد، عيناه جحظت، الزبد يخرج من فمه دون توقف… ليلة طويلة لم ينم أهله فيها حتى بعد ان عاد والده قبل منتصف الليل وقد وجد الجميع ملتفين حول حسين، علم بالأمر بعد ان حكت له زوجته ماذا رأت؟؟ مر اليوم الثاني والثالث بعد ان قامت العرافة بصنع ما تعلمه من طب عرب وأعشاب الى جانب قراءة أدعية تلك التي قامت بها العرافة والتي ما ان عجزت قالت: ( دواه عند الأمير، أخذه من باجر الصبح كوده بحبل من رقبته وشده عند الشباك وهو يتكفل بيه )..
توقف الجمع في تلك اللحظة عندما سمعوا ما قاله ابو حسين عند ضريح أمير المؤمنين… أما حسين فقد إلتصق بشباك الضريح وهو يصيح ( هذا الحرز منك يا أمير أمي تكول، إذا لبسته ما يصيبني شي، أنا كلت للجني أنا بحمايتك هو ما صدكني، أنا ما أعرفك بس سمعت عنك من هلي وناسي وأمي وابوي… إنت أمير المومنين علي داحي باب خيبر أسد النبي وانا بحمايتك يا علي فكني من هذا الجني وأصير خادمك طول العمر)
والده ملتصق بالشباك يبكي على ولده، لعلها المرة الأولى التي يسمع حسين يتحدث بهذا الشكل، صاح هو أيضا ( ونذر علي أبو الحسنين يا بعد روحي اجيلك وذبيحة حسين وياي اذبحها ببابك بس تشافيه إنت عند الله جبير وبشفاعتك نتوسم لا تحرك قلب أمه وخواته وقلبي هذا وحيدي من الدنيا) راح يبكي وهو يمسك بولده… الجميع كان يشاهد المنظر حتى السادن أخذه الموقف أدمعت عيناه، البعض بكى والكثير صاحوا (يا علي بالله وبيك هذا المسكين) فجاة صرخ حسين وأنفلتت العقدة التي بالشباك وصاح: بويه أنا زين صرت زين طلع مثل الدخان من راسي شرد الجني شرد بويه…
صاحت الناس ( اللهم صل على محمد وآل محمد) ثم راحت تنال من الصبي بركة بلمسه وبعضهم مزق ثوبه اما القطعة الشبه خضراء فلا يعلم ابو حسين اين صارت!؟ كل هذا وحسين مستغرب!!! غير أنه يمسك بالحرز الذي في رقبته ويصيح ( هذا حرزي من سيدي امير المومنين محد يأخذه )..
هاهو حسين وبعد أكثر من عشرين سنه لا زال يتذكر ذلك الحدث ولا زال مستمرا في زيارة امير المؤمنين ابو الحسنين علي عليه السلام ممسكا بالحرز بعد أن غيرت الحياة مواقفها وصار عاملا في محطة القطار النجف الأشرف.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي