الدكتور زاحم محمد الشهيلي
اخذت الدول العظمى تفكر مليا في كيفية تجنب الحروب التقليدية، نتيجة للخسائر الاقتصادية والبشرية والجهد الاستخباراتي والدعم اللوجستي التي ترافق هذه الحروب، فاخذت تنتقل من حرب الكتل البشرية بالسلاح الابيض قبل الثورة الصناعية، وحرب الكتل البشرية باستخدام الاسلحة التقليدية ابان الحربين العالميتين الاولى والثانية التي كلفت العالم، خاصة الدول المتحاربة، ترليونات الدولارات وملاييين الضحايا البشرية بين قتيل وجريح، الى حرب اكثر فتكا بالعدو واقل خسائرا بالنسبة للمخططين لها.
رأت الدول العظمى، خاصة الولايات المتحدة الامريكية حليقة الصهيونية العالمية، ضرورة اللجوء الى حرب الضربات الاستباقية سواء بالقنابل التقليدية او القنابل الذرية لحسم المعارك لصالحها دون عناء وجهد اقتصادي وبشري كبير. فقاد هذا الامر الى تحول استراتيجيات هذه الدول الى الحرب النووية التي لجات اليها امريكا في ضرب اليابان ابان الحرب العالمية الثانية 1945، والتي حسمت المعركة لصالحها. وهذا ما هدد ويهدد به الكيان الصهيوني في حربه المستمرة مع العرب بعد ان امتلك القنبلة النووية بمساعدة غربية فرنسية في ستينات القرن الماضي.
لم ير الغرب ان الحرب النووية ستكون مجدية ولها مردودا ايجابيا في حجم التدمير ومراعاة لمصالحه في الدول المستهدفة بسبب التلوث البيئي والتشوه الخلقي الذي تخلفه لسنين طويلة، لذلك لجأ الى استخدام اسلوب حرب جديدة ضد دول العالم الثالث اقل تكلفة واكثر تدميرا للبنى التحتية والبناء الثقافي والحضاري والفكري للدول المستهدفة، وهي ما تسمى بـ “حرب مكافحة الارهاب” الذي عجز الكثيرون من الباحثين عن تعريفه بعد ان جير باسم الاسلام لتشويه صورته في عيون الناس وعقولهم، والتي تم من خلالها محاربة عدوا افتراضيا ليس له ارض محددة وعابر للحدود الاقليمية والدولية.
وبعد تطور الاحداث العالمية في مكافحة الارهاب التي ارتبطت باحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والتي تدور حولها شكوك الاعلاميين والباحثين والكتاب ومنضري السياسة ، وتحديد بوش الابن لدول محور الشر في الشرق الاوسط التي كان على امريكا محاربتها، والتي انتهت بالاحتلال الامريكي للعراق وتدميره عام ٢٠٠٣ ، كان لا بد من ايجاد نوع اخر من الحروب لادامة الصراع في المنطقة وجرها الى ماساة الخراب والدمار ماديا ومعنويا وبشريا وثقافيا وفكريا.
لجأ الغرب الى “حرب الجيل الرابع” … وهي ترك العدو يقاتل ويدمر نفسه بنفسه ، بإستخدام واستثمار الصراعات الفكرية والدينية وتاثيرها سلبا على المجتمع مثل ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن … بعد أن تم طرح مشروع الشرق الاوسط الكبير على طاولة الصراع الذي رفضته دول الشرق الاوسط جملة وتفصيلا، والتي حكمت بلدانها بصرامة اكثر من ثلاثون عاما، هذا المشروع الذي كان يبدو للجميع “ظاهريا” اعادة رسم خارطة المنطقة الجغرافية من جديد، اي تقسيم المقسم وتجزاة المجزء، ولكن هدفه في “الباطن” تدمير المجتمعات من الداخل من خلال تنمية الكراهية والحقد وخلق صدام دامي ومدمر بين الانظمة الدكتاتورية الحاكمة والجماهير… وبعدها تشجيع صدام الجماهير مع بعضها … المهمش ضد ما يسمى بالمستفيد… وتصارع الطوائف والعرقيات فيما بينها لاثبات الوجود والذات على الارض… اي جعل العدو يحارب نفسه بنفسه ويدمر نفسه بنفسه … بمساعدة ودعم الغرب ولكن دون تحمله لخسائر مادية وبشرية تذكر… اي خسائره المنظورة وغير المنظورة = صفر.
وبعد ان اوشكت الحرب الطائفية على الانتهاء تم تشكيل جبهة النصرة في سورية بدعم امريكي واسرائيلي، والتي انطلقت منها فكرة تاسيس مايسمى “دولة الخلافة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) التي قام المسلمون من خلالها … بقتل انفسهم بانفسهم وتدمير بلدانهم بانفسهم … حتى استنزفت المنطقة ماديا ومعنويا وبشريا وحضاريا ، في حين يقف عدو هذه الدول موقف المتفرج ينتظر حصد النتائج عن ما زرعه في المنطقة من نعرات وصراعات دينية وعرقية ومذهبية وفكرية مدمرة.
تعتمد اجندات حرب الجيل الرابع على التطور المضطرد في البحث والتقصي وسهولة الحصول على المعلومة تكنولوجيا لرسم السياسات العامة لتحديد مستقبل الدول وادارة دفة الصراع، يقابله قصر في الرؤيا وتخندق في العلاقات وتخلف في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري الذي تعيشه مناطق الصراع المفترضة في الشرق الاوسط، بحيث اصبحت ارضا خصبة لتاجيج الصراعات وتنفيذ الاجندات الخارجية دون عناء يذكر. وعليه تبقى التكلفة الصفرية لحرب الجيل الرابع تعني ان العدو لا يخسر شيئا في الحروب … ثم ينتصر .
ان ادارة الدولة على اساس القبضة الحديدية المبنية على الطبقية والمحسوبية والعرقية والطائفية والتمييز بين ابناء المجتمع الواحد ينمي الحقد والكراهية في داخل الانسان ويحول المجتمع الى قنبلة موقوتة أو برميل بارود الذي اذا ما توفرت له الظروف وانفجر سياتي على الاخضر واليابس في البلاد. وهذا ما يعول ويعمل عليه الاعداء في تدمير حاضر ومستقبل البلدان والشعوب التي تتمتع بنوع من الاستقرار. ولذلك يجب ردم بؤر التوتر والحقد والكراهية داخل الانسان اولا، وتنمية الروح الوطنية لديه، لمنع استغلالها من قبل الاعداء واستثمارها في تاجيج الصراعات حين تبقى مهمولة دون معالجة، ولكي يشعر الانسان بانتمائه الوطني وانسانيته المحترمة من قبل الجميع.
ولذلك بات من الضروري مواجهة حرب الجيل الرابع مواجهة فكرية توعوية، ومن خلال اشاعة روح القانون الذي يضمن العدل والمساواة والحقوق والواجبات والحريات للجميع لقطع الطريق امام المتربصين بمصائر الشعوب وامنهم، ومنعهم من تنفيذ اجنداتهم المبنية على سلبيات الفكر والتصرف التي تنخر في جسد مجتمعات دول الشرق الاوسط، وان ما يحصل اليوم من غليان شعبي هو نتاج لما تم ذكره آنفا.