حديدان مجرد إسمه يوحي بالشغب لذلك لُقب“ بحديدان الحرامي“ ولقبه هذا في اللغة العامية هو نسبة لأفعاله وليس لأصله.. هو شخصية من الموروث الثقافي المغربي صاغها المخيال الشعبي بذكاء لينتج قطعة فنية تتوارث من جيل إلى جيل ولو أن محاولة تجسيدها دراميا حصر الشخصية في قالب محدد واغتصب ملكات الخيال الحرة في ذهن المشاهد. لهذا ارتأيت ان نتشارك القصة سوية هنا علنا نذكي وهجها بخيالنا لنعيد إحياءها من جديد فينا وبنا؛ فكان ياماكان كان اسمه حديدان عقله لا يهدأ ويسخر ذكاءه في المكائد والحيل و لا يمكن أن يمر على مكان دون أن يكيد بأهله وأولهم عمه الذي تبناه بعدما فقد والديه، لكن حين ضاق ذرعا من حيله ومكائده أصبح كل همه أن ينفيه ليرتاح ويريح أهل القرية من شغبه، خاصة حين بلغ به الامر أن يأتي على حصاد السنة كله بفكرة مجنونة، فذات مساء حين كان العمال منهمكين في الحصاد ذهب إليهم بشعلة في يده وأخبرهم أن عمه حضر لهم وليمة على العشاء ويأمرهم بحرق كل الحصاد قبل القدوم لتناول العشاء وما كان لهم إلا أن نفذوا أمره ،ولما دخلوا على عمه الخيمة لمح سنبلة من بقايا الحصاد على نعل أحدهم فقال له: ألا تخجل من نفسك؟ تدوس نعمة الله بنعلك هكذا؟ فرد العامل متهكما: وماذا تكون هذه السنبلة أمام الحصاد الذي أمرتنا بحرقه؟ صعق العم ..ولما علم أنها فعلة حديدان . قرر نفيه بعيدا. ومن دون أن يكشف لحديدان عن نيته أخذه إلى الغابة و شده إلى شجرة هناك وأحكم وثاقه جيدا ثم رحل. أمسى حديدان ليله هناك ومع بزوغ خيوط الشمس، لمح شخصا على صهوة جواده يقطع طريق الغاب فبدأ يثني ويشكر بصوت مرتفع على الشجرة: „الله الله على راحة هذه الشجرة مباركة“ ثار فضول الرجل فتوجه نحوه وسأله:“ ما قصة الشجرة؟“ أجابه حديدان: „هذه الشجرة بركتها عظيمة، فقد أوصاني حكيم بأن أمضي ليلة مشدودا إليها كي أشفى من آلام ظهري، وها قد صار العجب وشفيت ،كأن شيئا لم يكن“ تحمس الرجل للأمر وقال له: „آه أنا أيضا أشتكي من آلام في ظهري“، فك الرجل الحبل عن حديدان وأخد مكانه، فأحكم حديدان وثاقه جيدا وفر بالحصان عائدا إلى القرية…هناك سمع عمه وهو يحدث أهل القرية قائلا : “ عهد علي إن عاد حديدان ، أذبح عجلا وأقيم وليمة“ .ففرح حديدان وتوجه مباشرة إلى عمته وأخبرها بأن عمه يريد أن يحتفي برجوعه سالما غانما وهو يأمرك بذبح البقرة الرقطاء وتوزيع لحمها على الفقراء, وقد كانت أفضل بقرة يملكها عمه لأنها تدر حليبا وافرا، فأمرت العمة بذبحها ثم ذهبت تسأل أخاها عن كيفية توزيع اللحم ولما رآها بادرها بالسؤال عن الحليب الذي اعتادت جلبه معها فقالت له: لكن عن أي حليب تتحدث ؟ ألم تطلب مني للتو بذبح البقرة احتفالا بعودة حديدان؟.فصعق العم:“ حديداااان ؟ متى عاد وكيف ؟ آآآه يا ربي حتى البقرة لم تسلم من كيده، لكن هذه المرة سأتخلص منه نهائيا“ وتحت فورة الغضب ومن دون تردد شد العم حديدان على ظهر حمار مدرب على وجهة واحدة, البحر… وضرب على ظهره بقوة كي يركض باتجاه البحر دون توقف إلى أن يرتمي فيه دون رجعة… لكن في طريقه كان لحديدان متسع من الوقت ليجد مخرجا، فبمجرد أن لمح راعي غنم بدأ في البكاء والنحيب:“ أنا لا أريد الزواج من بنت السلطان لا أريد!“، ولما سمعه الراعي استغرب الأمر وقال له: „ومن يرفض خيرا كهذا؟“ أجابه حديدان :“لكني لا استطيع التخلي عن حبيبتي وهم يرغمونني على الزواج بمن لا أحب لدرجة أنهم ربطوني على هذا الحمار الذي يتجه نحو القصر مباشرة حتى لا أهرب“ ولما بدا له أن الراعي يصدق كلامه أردف مباشرة “ إن كنت ترى هذا الزواج نعمة فلم لا تأخذ مكاني لأعود أنا لحبيبتي وتظفر أنت ببنت السلطان ؟“ قبل الراعي العرض المغري على الفور فأخذ مكان حديدان ليستعيد حريته مرة أخرى وقد غنم هذه المرة قطيع الراعي المسكين، وعاد يهتف لعمه فرحا:“ عمي عمي وسع الزريبة لتستطيع استعاب كل القطيع الذي غنمته هههه. لكن بعضا من أهل القرية ممن قرصتهم شوكة حديدان توجسوا من أمره واتهموه بسرقة الغنم من القبيلة المجاورة وأنه سيجلب عليهم الفتن وستُغيرعليهم تلك القبيلة حالما تكتشف الأمر، لكن حديدان كان له مخرج من ورطته كالعادة فأخبرهم بالقصة وكيف أنقذته حورية البحر من الغرق وأخرجته حتى برالأمان وكافأته بالأغنام بعد أن رقت لحاله حين أخبرها أن اليأس ومشاكله المادية الغير منتهية هي سبب ارتمائه بالبحر كي يخلص من هم الدنيا، فكان أن رأفت به لأنها تحب مساعدة كل بائس، وهي تنقذ دائما كل من يحاول أن يغرق، وتعطيه كل ما يطلبه أو دون أن يطلب منها حسب درجة الغرق واليأس… بقي على حديدان الآن سوى أن يريهم اتجاه البحر ومكان وجود الحورية فكان أن اتجه كل أعدائه فورا صوب البحر ودون رجعة. لم يستطع عم حديدان تصديق قدرة هذا الداهية على قلب عقول الناس ولم تعد له أية حيلة لثنيه عن أفعاله…فهم حديدان الأمروأدرك حيرة عمه فاقترح عليه أن يبعده عن أي مكان يسكنه إنسي و يرسله خارج الحدود حيث تسكن الوحوش والأغوال وطلب منه أن يبني له كوخا من حديد كي يحتمي فيه منها وأن يجعل فيه حوض ماء يخزن فيه ما يكفيه… وافق العم فورا ونفذ طلب حديدان… كان الكوخ على مقربة من العين التي تسقي منها الغولة والتي تعيش في تلك المنطقة الشاسعة المحاطة بالحقول مع ابنة لها شديدة البلادة لا تكاد تفقه شيئا، وبمجرد أن يستشعرحديدان غياب الغولة يخرج خلسة ثم يمتطي البغلة ويجني من حقولها ماطاب له، ويعثو فسادا في الباقي، ويسقي ما يكفيه من ماء ويعكر الباقي ولما تعود الغولة تجد حقولها مقلوبة رأسا على عقب فتستشيط غضبا، لكن ما بيدها حيلة فحظها أن ابتليت بحديدان ،وهي عاجزة عن الامساك به لشدة فطنته وحرصه فحتى عندما يخرج لجلب الماء من العين لا تكاد تلمحه، ظلت على حالها إلى أن صادفت يوما رجلا كهلا من الحكماء عابرا من أراضيها فقصدته وسألته عن طريقة للامساك بحديدان، فكر الحكيم مليا ثم قال لها: „عليك بدهن ظهر البغلة بمخ شيخ عجوز، هكذا حين يمتطيها سيلتصق ولن يتمكن من الهروب أبدا“ إنفرجت أسارير الغولة وتمتمت وهو كذلك „ماطلبت غير الموجود“ ففصلت رأسه واستخرجت مخه ثم ذهنت به ظهر البغلة. عند عودتها من رحلة الصيد وجدت حديدان عالقا هناك .. وأخيرا أمسكت به، ولما همت بالفتك به صاح حديدان: „مهلا، مهلا عمتي الغولة، أنا الآن تحت أسرك ولن تستفيدي شيئا إن أكلتني فجسمي هزيل جدا، لن يسمنك ولن يغنيك من جوع، إن أردت نصيحتي فأمهليني بضعة أشهر حتى أسمن وأثخن، بعدها كليني“.. اقتنعت الغولة بالفكرة فاحتجزته عندها وبدأت تجلب له الطعام والشراب صباح مساء وتغدق عليه من كل الخيرات، وأحيانا تكلف ابنتها بالأمر وتنبه عليها أن تتفقد سمنته من حين لآخر وبما أن بنت الغولة كانت شديدة البلادة فقد استغل حديدان الأمرلصالحه، فكانت كل ما تجلب له صحن طعام أو فاكهة يخبرها أن نظرة إلى وجهها تغنيه عن كل أكل وشرب… يا لرومانسية حديدان، صدقت كلامه المعسول فظل يتفنن في مدحها واستمالتها إلى أن أحبته، وهكذا مرت أيام وليالي إلى أن اكتسب حديدان الكثيرمن الوزن بفعل الراحة والأكل وفي نفس الوقت كسب تحالف بنت الغولة الواقعة في غرامه ولما حان الوقت لتذبحه الغولة وتعد بلحمه وليمة لها ولأهلها، تدخلت ابنتها وقالت لها:-أنا سأتكفل بكل شئ يا أمي وهي فرصة لأتعلم الطهي، أنت فقط إذهبي واستدعي الأهل والأحباب وستجدين كل شئ جاهز. سُرّت الغولة بحماس ابنتها وذهبت على الفور لإحضار أهلها فسارعت ابنتها بإطلاق سراح حديدان الذي احتجزها مكانه وقام بذبح بغل الغولة وطهيه بالقدر حتى تظن الغولة أنه هو، ثم احتمى بكوخه الحديدي..لما عادت الغولة وجدت قدر الطعام يفيض لحما فسال لعابها والتف الجميع حوله لازدراده، حينها صاح حديدان من كوخه: -هنيئا مريئا لك عمتي الغولة بلحم ابنتك أليس لذيذا؟ لقد أعددته بعناية لكم هههه. ثارت الغولة لما ظنت أنه لحم ابنتها وليهدئ حديدان من روعها قال لها: -إن أردت الأخذ بثأر ابنتك فما عليك سوى الاستعانة بوجود أهلك، وليجلب كل واحد منكم شجرة أحيطوها بكوخي ثم أضرموا النار، هكذا سيلين الحديد وبمجرد أن تدفعوه كلكم دفعة واحدة سيتهاوى وأكون حينها مشويا بالداخل. بالفعل ذلك ما قامت به الغولة وبمجرد أن خمدت النار وبدا كوخ الحديد لينا التف الجميع لدفعه لكنهم التصقوا هناك، فأطل حديدان برأسه من حوض الماء الذي بناه له عمه ليخزن فيه المياه وزفر: -أوف أخيرا نجوت. غنم حديدان هذه المرة كل كنوز الغولة الثمينة وحمّلها كلها على ظهر الدواب وعاد بها إلى القرية ففرحت كل القبيلة بعودته وتصالح مع عمه، ونسي الجميع أفعاله ومكائده، وهكذا قررعمه تزويجه كي يستقر وكان لابد أن تكون امراة استثنائية ذكية مثله تستطيع مجاراته في أفكاره وتكون سببا ليترك الشغب ويلتفت لحاله، أظن أنكم عرفتم من هي… إنها عيشة الدويبة. مبروك على حديدان ونتمنى أن يكون عمه قد اتخذ القرار الصحيح هذه المرة بتزويجه هههه. انتهى