ثمة من يرى أن الغرور يجعل من المثقف غير مقبول في المشهد الثقافي والاجتماعي مهما كان مبدعًا، فالناس يأسرهم الإنسان المتواضع القريب منهم، بعكس ذلك الذي لا يسمع إلا نفسه، ولا يبصر الانعكاس مرآته الخاصة، ويتعامل بدونية مقرفة كما لو أنهم فائضون عن حاجته، إن المثقف أو المبدع الحقيقي لا يتعامل مع الآخرين بتلك الطريقة مهما كبر وحلّق مع إبداعه، بل يحلق بالتساوي مع جميع البشر الذين هم متذوقون لما يكتبه من إبداع. يعني ذلك، أن المثقف هو ذلك الكائن الذي يحترم الإنسان بعيدًا عن الطبقية والجنس. ولدى تناولنا هذه الإشكالية لابد من الإشارة إلى رأي الناقد الأكاديمي السعودي عبدالرحمن العناد بأن المتغطرس من المثقفين و- السياسيين – ومهما كان ما وصل إليه من الإبداع والشهرة وغيرها فإن ذلك مدعاة من التقليل من شأنه. وهو بعيد عن المثقف الحقيقي الذي يبتعد عن صفة الغرور فهو أكثر أريحية وأكثر تواضعًا وقابلية للنزول للجذور العادية للإنسان.
إن المثقف الذي يتعامل مع الآخرين بفوقية وتعال وغرور ونرجسية فإنه يحاول أن يخفي شيئًا يخشى من ظهوره أو تكشف بعض الأوراق بذلك الغرور، فيضع المسافات بينه وبين الآخرين حتى لا تتكشف بعض السلبيات التي فيه، ونجد ذلك ليس على مستوى الأدباء بل على مستوى المتعلمين الأكاديميين والسياسيين! وفي الواقع إن الثقافة على عكس ذلك فكلما ازداد المرء ثقافة يجب أن يزداد تواضعًا لأن الثقافة تهذب وترتقي بالإنسان.
وعن علاقة المثقف بالمجتمع يقول المفكر الألماني هربرت ماركيوز: «موت المثقف يكمن في تخليه عن وظيفته المتمثلة فى تحرير الوعي عن الأوهام، ورفض الاوضاع السائدة.. إن مهمة المثقف هي صون الحقيقة من الضياع».
كتب أحد المثقفين السوريين مقالاً عن المثقف والتحديات ملخصه جرت العادة أن تتطلع المجتمعات الى دور إنقاذي للمثقفين في أوقات المحن والأزمات أو في لحظات التحول العاصفة، كنوعٍ من الإقرار بالوظيفة الخاصة لهم في الرد عما يستجد من تطورات، وفي إعادة بناء وعي نقدي وأفكار جديدة يفترض أنهم أقدر المعنين ببنائها، الأمر الذي يفسر الحال السؤال عن حال المثقفين اليوم وما يمكن أن يفعلوه مع تسارع انكشاف أزمات مجتمعاتنا العربية.
وعلى الرغم من أن المثقفين لا يشكلون كتلة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، بل هم جماعة متنوعة المهام تخترقها المصالح والصراعات الاجتماعية، إلا أن ثمة مشترك يجمعهم بصفتهم عمومًا أشد البشر التصاقًا بالمعرفة واقربهم الى تحكيم العقل والنقد وأكثرهم استعدادًا للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم، ما يضع على عاتقهم مواجهة الأزمات والمازق المختلفة.
لقد لعب غياب الديمقراطية والحريات دورًا نوعيًا في انحسار الفكر وتراجع دور المثقف النقدي والملتزم، ونجاح أغلب الأنظمة العربية في إلحاق المعرفة بالسلطة ومطاردة المفكرين المخلصين وتحطيم أقلام النقاد أدى إلى خنق الثقافة وتدجينها لتصبح مجرد صدى لا فعل إبداع، وما أكمل الدائرة ضعف مقاومة المثقفين الديمقراطيين تقصيرهم في نصرة الديمقراطية أو اختزالها في وعي بعضهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المثقفين أحجموا ولأسباب متنوعة عن ممارسة نقد حازم ضد انعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان.
تذهب بعض التحليلات الى أن الألفية الثالثة أظهرت إن معظم المثقفين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعضهم مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات الطائفية والمذهبية لمصلحة طرف ما.
يقول الكاتب والباحث الفلسطيني المستنير حسن عاصي انقسم المثقفون بين من انتقل من جادة اليسار الثوري الى اليمين الرجعي والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الاستبداد والشقاء والتخلف. لقد ولى الزمن الذي فيه المثقفون العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفون فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفون ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.
إن مواقف بعض المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يمينًا ويسارًا عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون من أشد دعاة التنوير والديمقراطية، فأصبحوا يدافعون عن الإسلام السياسي، وعن الديكتاتوريات العربية. في الشرق المفجوع بالقهر والاستبداد، يتعمد بعض المثقفين أن يلجأ لصياغة مواقفه بلغة متوارية تحتمل التأويل والتفسير على أكثر من معنى، وبذلك يتمكنون من التملص إن تم إخضاعهم لمحاسبة أو مساءلة أو توظيف المعنى لمصلحة تحقيق مآرب محددة، ذلك لأنهم لا يستطيعون التصريح تمامًا بأفكارهم كما هي، لأن الضوابط التي حددتها السلطة السياسية أو الدينية أو المجتمعية لا تتيح للمثقفين حرية أن يقولوا ما يؤمنون به ويكتبون ما يعتقدون. الأمر السيئ هنا أنه قد تنشأ نتيجة هذه الأوضاع، شريحة من الانتهازيين تقدم على هذا الخطاب غير الواضح، وبالتالي تسهم في خلق حالة من عدم احترام الفكر لذاته، وأجواء ثقافية غير صحية تعزز الرأي الواحد وتقمع الرأي المستقل.
مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوربا، وكما فعل عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر بمقاربات التجديد الديني، فإن الراهن العربي بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسمية وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب.