من الغرابة الملفتة للإنتباه ان تجد رأيا متداولاً في جيل الشباب من الشعراء يُقدّم فيه الشعرَ على اللغة حين يظن البعض منهم ممن اختلط عليه الأمر ان الشعر “فوق” اللغة وحجتهم في ذلك ان الضرورات الشعرية هي تجاوز للشعر على اللغة فـ “خضعت” له ولم يخضع لها.
وقد أوقفتني مفردتا “الخضوع والفوقية” في نظرتهم والمقصود بهما؛ خضوع اللغة للشعر وفوقية الشعر على اللغة.
وهذا الفهم قديم جداً أول من اطلقه ونطق به هو الشاعر الفرزدق بقوله لاهل النحو: “علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا” وقد أعجب هذا القولُ كثيراً من اهل الشعر وراق لهم فاخذوه دليلاً وساقوه حجةً لهم وكلما شطَّ احدُهم او خالف قواعد النحو ووقع في المحظور قال لنفسه -اولاً- ثم لمن حوله من اهل الدراية بالنحو واللغة: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا.
وعودة الى “الخضوع والفوقية” الى هاتين المفردتين الخشنتين في اكثر الفنون رقة وعذوبة وتأثيرا في حياة الناس، فان استخدامهما يُعد امراً غريباً وجنوحاً غير مبرر عن النظرة السوية والفهم الصحيح للعلاقة بين اللغة والشعر وقد دفعني ذلك لان اجد تعليلاً مقنعاً لهذه الفكرة الشاذة وهذا الاندفاع غير المبرر وأحاول ان اجد ما يؤكد بطلانها ويفند صحتها في اقوال أهل اللغة، وبعد بحث وتمحيص ليس بالطويل وجدت أمرين متعلق أحدهما بالآخر كافيين لأن يكونا حجتين لتفنيد هذا الرأي ونسفه.
وقبل الولوج فيهما يجب ان نعرف اولاً ان القرآن الكريم هو مرجع اللغة العربية على مدى الاربعة عشر قرناً الماضية من الزمان وما تبقى منه الى قيام الساعة وقد اقرّ علماؤها بذلك فعادوا له فيما اختلفوا فيه حتى اصبح حجتهم التي لا خلاف عليها على الاطلاق.
أما الأمران فهما:
الأمر الاول: إتفاق أهل العلم والدراية في اللغة والأدب ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم افصح وأبلغ الناس حتى تقوم الساعة جاء ذلك من خلال ما سُمع منه ونُقل عنه من كلام وهذا امر مبرر ومسلّم به فهو نبي مرسل وانه اول ناطق بكلمات الله وأنه لا ينطق عن الهوى.
وأما الأمر الثاني: فقول ربنا في التنزيل الحكيم: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
نستنتج مما تقدم: أن اللغة بحر حوى في باطنه كل فن متعلق بها ومنها الشعر، وأن الشعر ليس في المراتب المتقدمة للغة، ولو كان الشعر في المراتب الاولى للغة لكان النبي أولى به ولكان -حاشاه- شاعراً بل كان أشعر الناس بعد ان كان ابلغهم وافصحهم.
وإذا ما علِمنا ان اللغة تحوي البلاغة والفصاحة فيما تحويه فالشعر ليس اكثر من أحد محتويات هذا الوعاء العظيم الذي اسمه اللغة، وان أردنا ان نعطيَه صفةً تليق بجماله وتجعله مميزاً سنقول عنه انه الإبن الجميل والمدلل للغة فان خرج عن قواعدها شذ وصار بين صفتين: اما السذاجة واما العجمة وكلاهما شين وجماله على الدوام مقرون بالبقاء في حضنها وداخل حماها.
ولكن سيبقى هناك سؤال مطروح: هل ان الضرورات الشعرية كافية لإغراء من يقدّم الشعر على اللغة؟
وان لم يكن الشعر متقدماً عليها فلماذا ابيح له ذلك؟
هنا يجب ذكر ما عزز هذا الراي ودفع باتجاهه وهو قول الفرزدق آنف الذكر، والفرزدق شاعر عظيم وهو حجة في اللغة وشعره حفظ ثلث اللغة كما ذكر مؤرخو الأدب العربي.
ولكي نحيط الامر من جوانبه يجب ان نذهب الى ابعد من ذلك في امرين:
الاول: توضيح الضرورات الشعرية ودورها في الشعر
والثاني: تحليل قول الفرزدق والذي كان في جدال بينه وبين عبد الله بن أبي إسحاق النحوي حين قال له : “علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا” ويقصد أن على الشعراء القول فإن خالفوا قواعد النحو وخرجوا عنها فعلى أهل النحو إيجاد التأويل لهذه المخالفة وذلك الخروج.
فأما الضرورات الشعرية التي يحتج بها أصحاب هذا الرأي فهي ليست أكثر من سماحات ورُخص أعطيت للشعراء في مخالفة بعض قواعد اللغة، بعضها لإقامة الوزن وبعضها لتحسين وتجميل القول، ولأن للشعر قيوداً تحدده كالوزن والقافية واللفظ الجالب للجمال الفني، أعطيتْ للشاعر هذه السماحات للمحافظة على جمال الشعر وروحه بميل طفيف وخروج لطيف على بعض قواعد اللغة من صرف ونحو.
وقد اعجبني من وصف الضرورات فقال: الضرورات كالحرام، فالذي يأكل ما حُرّم لضرورة لا يحق له أن يملأ بطنه أو أن يشبع بل يأخذ ما يقيه الهلاك فقط، كذلك الضرورات لا يكثر منها كي لا يشين القصيدة(١)
او لعلها -والكلام ما يزال عن الضرورات- كالتهاون الذي تهبه الأم لوليدها ليبدو أجمل واعذب وأرق وأقرب وليست للإستعلاء والفوقية كما يفهمها ويفسرها البعض.
وأما قول للفرزدق: فليس له اصل في كلام العرب ممن سبقه او لحقه وهو قول شاذ لا برهان له ولا حجة وانما قال الفرزدق ما قال انتصارا لنفسه بعد ان أصابَ قولَه لحنٌ وأعياه أحضارُ الحجةِ له وأجهده تبيانُ الدليل فيه وهو قوله في فائيته الرائعة والتي استهلها بقوله:
عَزَفْتَ بأعشاشٍ وَما كِدْتَ تَعزِفُ … وَأنكَرْتَ من حَدرَاءَ ما كنتَ تَعرِفُ
والعزوف هو الترك وحدراء زوجة الفرزدق، …
حتى يصل الى قوله:
وعَضُّ زمانٍ يَابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ … منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
والمُسحت: الزائل وسمي المال السحت سحتاً لانه زائل لا بقاء له والـمُجَلَّفُ: الذي اجلفه الدهر اي اذهَبَ مالَه.
والأصل في البيت هو نصب “مجلف” لانه معطوف على منصوب. وقد رفعه الفرزدق من أجل موافقة القافية المرفوعة.
وقد قال الزمخشري فيه: هذا بيت لا تزال الرُكَبُ تصطك في تسوية إعرابه، وقال فيه ايضا ابن قتيبة في كتاب الشعراء: رفع الفرزدق آخر البيت ضرورةً وأتعب أهل الإعراب في طلب الحيلة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشيء يرضي.
ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به من العلل احتيال وتمويه؟ انتهى قول ابن قتيبة
يقصد بعض أهل اللغة ممن حاول إيجاد تخريج له.
وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت فشتمه وقال: علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا. وهذا يُعد في باب “اخذته العزة بالإثم” لأن الفرزدق أعلم من غيره بفنون اللغة وقواعدها. والجدير بالذكر ان هذه ليست هي الحالة الوحيدة لخروج الفرزدق على قواعد النحو فقد خالف القاعدة في ميميته الشهيرة في مدح الامام علي زين العابدين والتي يقول فيها:
ما قال لا قطُّ إلاّ في تَشَهُّدِهِ … لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
والأصل: كانت لاؤه نعما
فان قال احدهم انه قدم الخبر والصحيح هو : كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ عندها سيكون تقدير الجملة “كانت نعمُه لاءً” وهذ يقلب المعنى تماماً ويجعل المدح هجاءً وليس ذلك ما اراده الفرزدق انما اراد المدح.
الخلاصة: الشعر كما اسلفت هو الابن الجميل المدلل للغة فان صار هذا الابن مشاكسا في بعض حالاته -كما وصفه الشاعر مهدي النهيري في احدى مقالاته- فهي مشاكسة التحبب والتقرب والرقة والعذوبة لا مشاكسة الاستعلاء والفوقية.
.
١- محمد أبو الفتوح غنيم