المقدمة
من أجل ان تنتظم حياة المجتمعات ، فأن الدول تلجأ في سبيل ذلك الى وسيلتين ، الاولى ، وسيلة تشريعية تتوجه بالخطاب الى الكافة ويعبر عنها بالقوانين ، اما الثانية ، فهي وسيلة قضائية يقصد بها حسم المنازعات التي تنشب بين افراد معينين ويعبر عنها بالاحكام القضائية . ولما كانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية للدولة لم تعد محدودة بحدودها السياسية ، بل اصبحت تتعدى هذه الحدود لتتصل بحياة الجماعات الاخرى ، وعليه فأن مجرد صدور هذه الاحكام القضائية لايعني شيء اذا لم يقترن ذلك الصدور ، امكانية التطبيق في دولة اخرى او امام محاكم دولة اخرى ، واذا ما كان الامر كذلك فأننا سوف نكون امام حالة من التفاعل المشترك فيما بين القوانين. وهذا هو ديدن هذا القانون ، والذي يحاول ان يوقف ما بين اعتبارين حاجة المعاملات الدولية والمحافظة على مصالح الافراد الخاصة الدولية عبر الحدود من ناحية ، وسيادة الدولة على اقليمها من ناحية اخرى .
وتوفيقاً بين هذين الاعتبارين لم يشأ المشرع العراقي ان يعترف بالحكم الاجنبي بصفة مطلقة وينزله منزلة الحكم الوطني ، ولا ان ينكر عليه كل قيمة ، وانما توسط في الامر ، فسمحا بتنفيذه مع اخضاعه للرقابة من قبل القضاء العراقي تحت مجموعة من الشروط هذه الشروط هي ( خارجية ) تلامس الاطار الخارجي للحكم الاجنبي، وهذا كله مكرس لمصلحة الحكم الصادر من تلك المحاكم الاجنبية للتحقق من انها قد راعت المعايير اللازمة في اصدار تلك الاحكام القضائية .
بمعنى اخر ان المشرع اشترط لأجل تنفيذ الاحكام الاجنبية الحصول على قرار من المحاكم الوطنية ، وهذا الامر في رأينا يمثل اصلاً عاماً، ويمثل في نفس الوقت مطلباً سيادياً ، ذلك ان هناك احكاماً لايمكن ان ترتب آثارها الا بعد التأكد منها وعرضها على القضاء الوطني ، حيث انها قد تستدعي اجراءات تنفيذية معينة ( قد تستدعي على سبيل المثال اللجوء الى استخدام القوة ) من اجل تنفيذها ، وهذه تمثل مساساً جوهرياً بسيادة الدولة ، لذلك وبغية التلطيف من ذلك مكن المشرع الوطني الحكم الاجنبي من الدخول للمجال الوطني ، الا ان ذلك مقروناً بأستحصال اذناً بالتنفيذ من قبل القضاء الوطني ، وبجانب ذلك هناك طائفة اخرى من الاثار التي ترتبها الاحكام القضائية الاجنبية لاتستلزم ضرورة استحصال امراً بالتنفيذ فهي تخلق مراكز قانونياً مباشرة لاصحابها مثال ذلك الاحكام القانونية الصادرة في موضوعات ( الحالة والاهلية ) من مثل تسجيل (حالة ولادة او وفاة) ، تسجيل (عقد زواج او طلاق ) . هذه الاحكام او الطائفة من الاحكام تولد مراكز قانونية مباشرة لاصحابها ، الا ان ذلك مقروناً ايضاً بضرورة تواجد مجموعة من الشرائط يمكن تصنيفها على نوعين عامة وخاصة .
وفقاً لذلك يهدف هذا البحث المتواضع الى مناقشة التحقق من مدى امكانية حصول هذا الاعتراف المباشر للاحكام الاجنبية ودخولها التنفيذ من دون اشتراط الحصول على امراً بالتنفيذ وتقدير القيمة القانونية لهذا الحكم كسند يمكن التذرع به امام المحاكم الوطنية دون ان يكتسي بصيغة تنفيذية ، وسوف تكون ادوات الاثبات التي يرتكز اليها البحث لاثبات تلك الامكانية ، هو معيار ضرورة اللجوء الى التنفيذ ، بمعنى هل ان الحكم المعروض يستدعي اجراءات تنفيذية جبرية من عدمه. ثم معيار التسهيل والتخيف عن اطراف العلاقة القانونية ، والقضاء من سلوك اجراءات ورفع دعاوى لاحاجة لها .
وتتمثل الاهمية العلمية للموضوع من النواحي التالية :
1-لم يعالج المشرع العراقي في قانون المرافعات المدنية لسنة 1969 او قانون الاثبات أو قانون تنفيذ احكام المحاكم الاجنبية لعام 1928 هذه المشكلة ، ومثله المشرع المصري في قانون المرافعات المدنية لعام 1968 بعكس المشرع اللبناني في قانون اصول المحاكمات المدنية وكذلك التونسي ( مجلة القانون الدولي الخاص) لعام 1998 فقد حرص على النص على هذه المشكلة .
2- ان موضوع البحث يمثل حالة استثنائية من الاصل العام ذلك الاصل الذي يحتم على من حصل على حكم اجنبي ويروم تنفيذه ان يسعى في الحصول على امراً بالتنفيذ من قبل القضاء الوطني.
3- ان الاعتراف بهذه الطائفة من الاحكام يمثل حالة من التلطيف من مقتضيات السيادة لحاجة المعاملات الدولية ، ذلك ان اعفاء هذه الاحكام القضائية الاجنبية المتعلقة بالحالة المدنية والاهلية من اتباع اجراءات الاذن بالتنفيذ ، هو خيار املته المصلحة في الابقاء على كل الروابط التي تشد مواطنينا في الخارج الى وطنهم وذلك من خلال تيسير وتبسيط الاجراءات القانونية المتعلقة بحالتهم المدنية باعتبارها من اهم مقومات الرابطة الوطنية التي تشدهم نحو الوطن .
4- يعتبر الاعتراف المباشر بالحكم الاجنبي من الموضوعات العملية التي تفعل دور القانون الدولي الخاص وذلك يتحقق عندما يكون هناك تنسيق متكامل من قبل الدول على ذلك ، حيث ان هدف القانون الدولي الخاص هو التنسيق والامتداد والتعايش السلمي فيما بين الدول .
ولما كان الحكم الاجنبي يرتب انواعاً مختلفة من الاثار ، فهو بوصفه حكماً يتمتع بقوة تنفيذية وبحجية في حسم النزاع ، يستند اليه في طلب التنفيذ الجبري ، ويعتبر عنوانا للحقيقة لما فصل فيه ، فيحول دون تجديد النزاع نفسه ، وبوصفه سنداً يتمتع كذلك بحجية في الاثبات ، كما انه قد ينتج لبعض الاثار بوصفه واقعة قانونية ، لذلك ومن اجل الاحاطة بكل هذه المفاصل ، فأننا رأينا ان نناقش هذا الموضوع في مبحثين، في الاول منهما التعريف بحجية الحكم الاجنبي المقضي فيه ، وفي الثاني نخصصه لمدى حجية الحكم الاجنبي المقضي فيه .
والله ولي التوفيق
المبحث الاول
مفهوم حجية الحكم الاجنبي المقضي فيه
بغية الالمام بمفهوم ” الحجية ” المقضي فيها للحكم الاجنبي ، فأن الامر يستلزم منا بداية ان نقف على تعريف تلك الحجية من الناحية اللغوية وكذلك الاصطلاحية ، ثم بعد ذلك نتولى بيان مسوغات الاعتراف بتلك الحجية للحكم الاجنبي ، تبعاً لذلك سوف نقسم هذا المبحث الى مطلبين ، الاول يهتم بالتعريف بحجية الحكم الاجنبي ، والثاني نوفره لدراسة المسوغات التي تدعو الى الاعتراف بحجية الامر المقضي فيه للحكم الاجنبي .
المطلب الاول
مفهوم حجية الحكم الاجنبي المقضي فيه
الحجية في اللغة ، تعني الدليل او البرهان ، أو تأتي على انها الدعوى او الذريعة التي يتذرع بها لأخفاء السبب الحقيقي ، وقد يراد بها احياناً الكلام المغلف كاللغز يتحاجى الناس فيها(1).
اما من الناحية الاصطلاحية ، فأننا نعني بها ثبوت الحجية للحكم فيما فصل فيه من حقوق ، وبحيث تعتبر هذه الحجية قرينة قاطعة لاتقبل نقضها ، ومؤداها ان هذا الحكم قد صدر صحيحاً ، فهو حجة على ماقضى به(1).
ولعل من المناسب القول هنا ان الاحكام الصادرة من المحاكم الوطنية تتمتع بحجية الامر المقضي به ، ونعني بذلك ان تلك الاحكام التي صدرت من القضاء تعتبر حجة فيما فصلت فيه وقرينة لاتقبل اثبات العكس ، تفيد ان الحكم قد صدر صحيحاً من ناحية الشكل وعلى حق من ناحية الموضوع(1).
فالحكم الصادر يحمل في ذاته قرينة الحقيقة القانونية ، كما انه يحمل في ذاته قرينة الصحة ، وينتج عن تلك الحجية اثران ، الاول هو الاثر السلبي ومن مقتضاه عدم جواز اعادة نظر النزاع ، أي انه يمتنع على الخصوم عرض النزاع من جديد على القضاء ما دام قد سبق الفصل فيه، اما الثاني فهو الاثر الايجابي وهو يفيد ان ماقضى به الحكم يمكن الاحتجاج به امام اية محكمة اخرى (2).
وحجية الامر المقضي به ، بهذه المثابة تختلف عن مايسمى بقوة الامر المقضي ، ومرد ذلك ان الحجية تثبت للحكم القطعي بمجرد صدوره سواء اكان قابلاً للطعن فيه ام لم يكن ، واياً كان طريق الطعن الجائز فيه ، اما قوة الامر المقضي ، فهي وصف لايلحق الا الاحكام الغير قابلة للطعن فيها بطرق الطعن العادية وهي المعارضة والاستئناف ، بغير ذلك فأن قوة التنفيذ فهي قابلية الحكم للتنفيذ الجبري على الاموال او على الاشخاص بواسطة الحجية التي يناط بها التنفيذ وبمعاونة السلطات المختصة ولو يفضي ذلك الى استعمال القوة عند اللزوم(1).
والقوة التنفيذية للحكم تكون من وقت صدور الامر بالتنفيذ لان اثر هذا الامر بالنسبة لتلك القوة هو اثر منشيء ، هذه القوة هي ذاتها التي يتمتع بها أي حكم وطني وتخضع طرق التنفيذ واجراءاته للقانون الوطني ويتحدد ما يجب تنفيذه وفقاً لمنطوق الحكم الاجنبي(1).
والملاحظ ان المشرع العراقي تطلب لأجل الاعتراف بالتنفيذ للحكم الاجنبي ، اللجوء الى القضاء العراقي من اجل الحصول على اذن بالتنفيذ لذلك الحكم(2).
وبغية وضع اساس متين لهذا الموضوع فأننا نضع التساؤل التالي ، هل ان الاذن بالتنفيذ ضرورة سياسية أم قانونية ؟ فأذا ما تمكنا من الاجابة بدقة عن هذا التساؤل ، فأننا نستطيع ان نصل الى حقيقة هل بالأمكان ان نعترف بحجية للحكم الاجنبي في بعض المسائل بغض النظر عن اقترانه بقرار التنفيذ ( امر بالتنفيذ ) ام لا.
في الواقع ان مسألة اشتراط المشرع بالحصول على امراً بالتنفيذ للاحكام الاجنبية ، تمثل في شقها الكبير برأينا المتواضع ضرورة سياسية وفي جزء منها ضرورة قانونية، وآية ذلك بأن للدولة فقط سيادة على ارضها واشخاصها ، حيث لايجوز الاعتداء على تلك السيادة بأي شكل من الاشكال(1). الا انه يجب علينا ان نلاحظ بأن مفهوم (( السيادة ) يجب ان لايفسر بشكله الجامد ، بل يجب ان يلامسه التلطيف ، ومعنى ذلك ان على الدولة ان تقبل بالمفهوم المخفف او الملطف لتلك الفكرة ، دعماً لفكرة التعاون والتنسيق بين الدول ، وهي بنفس الوقت تمثل فلسفة القانون الدولي الخاص ، وفقاً لهذا التوجه فقد قبل المشرع الوطني بتنفيذ الاحكام الاجنبية ولكن تحت مجموعة من الشرائط هذه الشرائط باطنها يمثل حماية قانونية ولكن مبتغاها الاخير هو سياسي (2) ذلك ان القاضي الوطني عندما يتفحص تلك الاحكام الاجنبية ، فأنه يقوم بعملية حماية السيادة الوطنية ، هذا هو الاصل العام .
بجانب هذا الاصل العام ، هناك طابع استثنائي يتمثل ذلك ، بأن هناك احكام اجنبية لاتستلزم تدخل من القضاء لاجل تنفيذها ، ولاتمس السيادة الوطنية او تنتقص منها بأي شكل من الاشكال ، لذلك فهي تلج مجال التنفيذ مباشرة دون ضرورة استحصال امر بالتنفيذ(1).
واذا ما كان الامر بهذه الكيفية ، هل ثمة شرائط معينة يمكن ان نضعها لأجل الأعتراف مباشرة بالحكم الاجنبي .
وللأجابة على ذلك نقول ان الحكم الاجنبي في شأن الحالة والأهلية على هذا الوجه يجب ان يكون مستوفياً لشروط الصحة من ناحية المعايير الدولية ، وهي الشروط التي تمثل الحد الادنى الذي يتطلبه المشرع الوطني لتنفيذ الاحكام الاجنبية، شريطة ان لايضع في حسبانه شرط المعاملة بالمثل اعتداداً بأن حالة الاشخاص واهليتهم توجب رعاية خاصة ، هي بررت من الاصل اباحة الاعتراف بالاحكام الاجنبية الصادرة في شأنها دون ان تشمل بالامر بالتنفيذ(1).
وبجانب ذلك ، فأن هناك من يرى(2) ان الشروط المفروضة على هذا المستوى هي نفسها المطلوبة وبالنسبة لبقية الاحكام الاجنبية الا انه يجب استبعاد شرط اكتساب الحكم الاجنبي القوة التنفيذية في الدولة التي صدر بأسمها ، لعدم الحاجة اليها ، كما انه يجب ان لايكون قد صدر بذات النزاع الذي ادى صدور الحكم الاجنبي حكم نهائي صادر عن القضاء الوطني بين ذات الاطراف وان لاتكون هناك أي دعوى قائمة بين ذات الاطراف وذات النزاع تقدمت بتاريخ سابق للدعوى التي اقترنت بالحكم الاجنبي .
ويتضح من ذلك ان الشرائط المتصورة هنا ، يمكن ان تكون على نوعين ، شروط عامة ، وهي تلك الشروط التي يضعها المشرع الوطني والتي يستلزم توافرها لأجل تنفيذ الاحكام الاجنبية بشكل عام ، ولسنا هنا بصدد الحديث عن تلك الشروط ، اما الشروط الخاصة فهي تلك الشروط التي تتعلق بالطابع الاستثنائي لتلك الاحكام المتعلقة بموضوع ( الحالة والأهلية ) ، فبالنظر لذلك الطابع الاستثنائي لتلك الاحكام والطبيعة الخاصة التي تتمتع بها في مجال التنفيذ ، فأنه من المفروض ان تتوفر بذلك الحكم الاجنبي المراد تنفيذه مجموعة من الشرائط ، حتى يمكن ان نعترف بحجية مباشرة له وهذه الشرائط تتمثل بالآتي :
1- طبيعة الحكم المراد طلب التذرع بحجيته امام المحاكم الوطنية ، ويلاحظ هنا ان الاحكام القابلة للتنفيذ المباشر هي فقط تلك الاحكام التي لاتتطلب التنفيذ الجبري على الاموال او الاكراه على الاشخاص(1).
فالمتصور هنا ان بأستطاعة المرأة الاجنبية التي حصلت على حكم بالطلاق من دولة اجنبية تستطيع ان تتمسك وتحتج به بمناسبة رغبتها في عقد زواج جديد امام المحاكم العراقية ، بأنها غير مرتبطة بزواج سابق استناداً الى الحكم الاجنبي الذي حصلت عليه والذي يشير الى انحلال الرابطة الزوجية ودون ان يكون هذا الحكم مشمولاً بالأمر بالتنفيذ في العراق .
والسؤال الذي يبدو من الجائز ان نضعه ، ماذا لو تضمن هذا الحكم الاجنبي الذي تحتج به تلك المرأة الاجنبية تسليم مبلغ من النقود او تسليم طفل ؟
ان تسليم مبلغ من النقود او طفل ، هذه الامور تقتضي اللجوء الى استعمال القوة من اجل السير في تنفيذها وبالتالي فأن من اللازم عند الشروع بأجراءات التنفيذ ان يتم الحصول على اذن او قرار التنفيذ .
2- ان يكون الحكم الاجنبي او المسألة التي يناقشها الحكم الاجنبي تتعلق بالحالة والأهلية للشخص كتثبيت حالة ولادة او وفاة – تثبيت حكم بالطلاق او انهاء زواج …..) فقد قلنا بأن هذا التوجه يمثل حالة استثنائية من الاصل العام ، فالأصل العام هو ضرورة استحصال اذن من القضاء الوطني لغرض تنفيذ الحكم الاجنبي متعلق بموضوع الحالة والاهلية . فهذه الاحكام غير لازمة لأي اجراء تنفيذي .
3- ان لايكون الحكم الاجنبي موضوع نزاع.
يضيف قانون اصول المحاكمات المدنية اللبنانية الى هذه الشروط شرطاً اخر مضمونه ان لايكون الحكم الاجنبي موضوع نزاع(1).
فأذا كان المتبع ان تلك الاحكام تنتج آثارها بصورة حتمية دونما حاجة للتذرع بقوة القضية المحكمة ولو بالقوة التنفيذية ، الا انه يلاحظ في هذا الصدد ، اذا تذرع احد اطراف الحكم بقوة القضية المحكمة ونازعه في هذه الصفة الطرف الاخر ، وجب على المحكمة اخضاعها لرقابتها ، وهذه الرقابة تهدف الى التحقق والتثبت من توافر بعض الشروط اللازمة لصحة اصدار الحكم الاجنبي وتتطابق مع تلك المطلوبة لمنح الصيغة التنفيذية(2).
المطلب الثاني
مسوغات الاعتراف بحجية الحكم الاجنبي
المسِّوغ لغة : من تسوغ أو ساغ الشراب وسَهُل مدخُله ، والسواغ ما ساغت به الفَضِّة ويقال الماء سواغ الفصص ، والمساغ هو المدْخل (1) ، وعليه يكون المسوغ كل مايلتمس فيه ( تسهيل / تذليل ) عائق جدلي او محاججة معترض على امرٍ ما ، والغاية من المسوّغ توفير الغطاء المناسب لتدعيم فكرة او تسبيب حيثيات سلوك او نهج معين ، وتتعدد وتختلف المسوغات بحسب ظروفها ، فمنها ما هو قانوني وهو مسوغ خاص ، ومنها ما هو عام يتعلق بمختلف شؤون الحياة اليومية. والمسوغ بهذه المثابة قد يكون قانونيا ، وقد يكون واقعياً في احيان اخرى وذلك على الشكل التالي :
1- المسوغ القانوني
ان الحاجة الى تنفيذ الحكم الاجنبي تبقى مرتبطة جوهريا بوجود ضرورة اللجوء الى التنفيذ ، اما على شخص المحكوم ضده كمن يُلزمه الحكم بضرورة القيام بعمل معين من مثل تسلم اشياء او ارجاع محضون ، وقد تتمثل تلك الضرورة بأتخاذ اجراءات على اموال المحكوم ضده ( كالبيع الجبري للمتلكات لاستخلاص الدين منها ) ، فأذا لم يكن ذلك الحكم الاجنبي في حاجة الى التنفيذ على شخص المحكوم عليه وعلى ممتلكات ، فهنا تبدو المسألة متعلقة بالتفريق ما بين الحكم نفسه وما بين الاثر المترتب على ذلك واعتقد ان ما يهمنا هنا ويهم اطراف العلاقة القانونية هو ذلك الاثر الذي يترتب على الحكم ، وما دام ذلك الحكم ليس في حاجة الى اجراءات تنفيذية ذلك انه ينتج اثاره في البلد الذي صدر فيه بشكل اولي وتلقائي دونما حاجة الى اجراءات تنفيذية يستلزمها بمجرد صيرورته قابلاً للتنفيذ بها ، بذلك فأنه يعتبر قد استوفى اثاره في البلاد التي صدر فيها وبالتالي فأن من الممكن ان يعترف بتلك الاحكام في العراق اذا ما اريد الاحتجاج بها (1).
فضلاً عن ذلك ان الاعتراف بالحجية للأحكام الصادرة في مسائل الحالة والاهلية دون توقف الامر على شمولها بالامر بالتنفيذ ، مرد ذلك ان هذه الاحكام منشأة لمراكز قانونية لايمكن انكارها ومن ثم يجب الاعتراف بالحجية لها فوراً وبصفة مباشرة ، والا ترتب على ذلك نتائج غير مقبولة في نطاق العلاقات الخاصة الدولية ، مثالها ان يعد الشخص متزوجاً في بلد ومطلقاً في بلد اخر لمجرد انتقاله من مكان الى آخر ، ومثال عن احكام التفليس الذي يحدث اثرها بمجرد التصريح بها اذا ما صار نهائيا ، اذ يعتر التاجر بحالة افلاس انطلاقاً من ذلك التاريخ ولايحتاج هذا الحكم سوى الاعتراف به امام المحاكم الاخرى بنفس الوضعية ونفس الكيفية التي صدر بها(1) .
2- المسوغ الواقعي
ويتمثل بضرورة التخفيف عن كاهل المتخاصمين 0 اطراف العلاقة القانونية ) وكذلك التخفيف عن كاهل القضاة ما دام ان الامر لايستلزم سلوك اجراءات معينة ، وبدعاوى لاضرورة من القيام بها ، فمن يرفع امام القضاء العراقي دعوى استرجاع ما دفعه بموجب عقد وقع ابطاله بحكم اجنبي ولايحتاج الى استصدار حكم بالاذن بتنفيذ الحكم الاجنبي القاضي بالابطال وانما يمكنه الاحتجاج بذلك الحكم حتى تعترف به المحاكم العراقية التي تنظر في دعوى استرجاع ما تم دفعه وترتب عليه النتائج القانونية .
واحيانا لايمكن تصور ان ينتج الحكم الاجنبي اثاره بغير وسيلة الاعتراف به ، فاذا تم مثلاً استصدار حكم اجنبي بالزام مدين بأداء الدين الذي عليه ، لكن الدائن يرفع ضده دعوى ثانية في العراق باستخلاص نفس الدين ، ففي هذه الحالة فأن الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للمدين الدفاع عن نفسه هي ان يطلب من المحكمة الاعتراف بالحكم الاجنبي كوسيلة للدفع بسبق النظر بالنزاع ، فالمدين لايمكنه بداهة رفع دعوى في طلب الاذن بتنفيذ الحكم الاجنبي طالما انه لاتوجد مصلحة له من ذلك ، كما لايمكنه رفع دعوى في طلب التصريح بعدم الحجية ان كان الحكم الاجنبي مستوفياً لشروط الاعتراف ، وبذلك فأن المحكمة العراقية المرفوع امامها دعوى الاداء الثانية لايمكنها الا ان تعترف بالحكم الاجنبي حتى تتمكن من القضاء بعدم سماع الدعوى لسبق النظر فيها ، فأن لم تفعل ذلك ورفضت الاعتراف بالحكم الاجنبي آل بها الامر الى القضاء بالزام المدين بدفع الدين مرتين (1).
المبحث الثاني
مدى حيازة الحكم الاجنبي بحجية الأمر المقضي فيه
تعتبر احكام القضاء عنوانا للحقيقة وحجة فيما بين الخصوم ، فبمجرد صدور الحكم فأنه يحوز على حجية الشيء المقضي فيه ويقدم قرينة قانونية على صحة الحكم شكلاً وموضوعاً .
وللحجية مظهران احدهما ايجابي يتمثل في القوة التنفيذية للحكم ، والآخر سلبي يتمثل بالاعتراف للحكم بقوة الشيء المقضي فيه وبانه حجة بما فصل فيه بالنسبة لأطرافه او الغير ، فالحكم القضائي يؤدي الى انشاء مراكز قانونية تؤثر بطريقة مباشرة على حقوق الاطراف وبطريقة غير مباشرة على حقوق الغير وذلك للترابط بين هذه الحقوق ومراكز الخصوم .
واذا كان الأمر المتقدم مصداقاً للأحكام الوطنية ومفاعليها امام القضاء الوطني ، فأن التساؤل يثار عن مدى امكانية امتداد نطاق المصداق المتقدم ليشمل الاحكام الاجنبية ؟ بمعنى آخر هل ان الاحكام الاجنبية يمكن الاحتجاج بها امام القضاء الوطني دون ان يتم اللجوء الى منحها الصيغة التنفيذية ام لا؟.
ولما كانت مسألة ترتيب الاحكام الاجنبية لآثارها تتأرجح بين اعتبارين ، الأول حاجة المعاملات الدولية والمحافظة على مصالح الافراد الخاصة الدولية عبر الحدود ، والثاني سيادة الدولة على اقليمها ، الامر الذي يؤدي الى عدم امكانية الاعتراف بالحكم الاجنبي بصورة مطلقة ومساواته بالحكم الوطني من ناحية ، ومن ناحية اخرى انكار اية قيمة لذلك الحكم .
لذلك نجد ان هناك حداً ادنى من الشروط ينبغي توافرها الهدف منها هو التأكد من سلامة وصحة الحكم الصادر وضمان حقوق الدفاع لأطراف النزاع وعدم مساس ذلك الحكم بالنظام العام للدولة التي يراد الاعتراف بها بأثار ذلك الحكم .
وبين هذا وذاك تتأرجح مواقف التشريعات ، من مسألة صياغة القواعد الضابطة لتمتع الحكم الاجنبي بحجية الشيء المقضي فيه وضبط احكامها ، بين اتجاه تقليدي ينكر تمتع الحكم الاجنبي بحجية الشيء المقضي فيه مجرداً من الاقتران بالصيغة التنفيذية ، وبين اتجاه حديث ينحو الى الاعتراف بحجية الشيء المقضي به للحكم الاجنبي ، وهذا ما سوف نبينه في مطلبين :
المطلب الاول
عدم تمتع الحكم الاجنبي بحجية الشيء المقضي فيه مجرداً من الأمر بالتنفيذ
يذهب جانب من الفقه التقليدي الى عدم الاعتراف بالحجية للحكم الاجنبي ما لم يكن مقترناً بالأمر بالتنفيذ ، واية ذلك ان الاعتراف للحكم الاجنبي بالحجية مجرداً عن الامر بالتنفيذ انما هو اعتراف بمظهر من مظاهر السلطة الامرة في دولة اخرى ، بوصفه اجراء من اجراءات المرافعات صادراً من سلطة قضائية في دولة اجنبية وهو امر غير جائز (1).
يضاف الى ذلك ان القوة التنفيذية وحجية الامر المقضي فيه هما وجهان لمسألة واحدة وهي تنفيذ الحكم ، فقوة التنفيذ تخاطب السلطة التنفيذية ويراد منها اقتضاء صاحب الحق حقه جبراً عند الاقتضاء ، اما الحجية فأنها تخاطب السلطة القضائية ويراد من التمسك بها اقرار الحق وعدم اعادة النظر فيما فصل فيه الحكم الاجنبي ، مما يؤدي الى اعتبار الاعتراف للحكم الاجنبي بحجية الشيء المقضي فيه من قواعد الامن المدني التي يقتصر نطاق تطبيقها على الدولة التي اصدرته(2).
كما ان هناك حجة اخرى مؤداها ان الاعتراف بحجية الشيء المقضي به للحكم الاجنبي يعني افتراض الصحة القانونية للحكم الاجنبي بوصفه يمثل عنواناً للحقيقة فيما قضى به وهذا امر يصعب التسليم به دون التأكد من توافر الشروط الاساسية المتطلبة لذلك ، ذلك لان القاضي الذي يراد التمسك امامه بحجة الشيء المقضي فيه للحكم الاجنبي لايقبل بسهولة افتراض صحة هذا الحكم في بعض الفروض التي يكون الحكم فيها قد صدر وفقاً لاجراءات غير صحيحة تفقده قيمته القانونية(1).
المطلب الثاني
الاعتراف بحجية الشيء المقضي فيه للحكم الاجنبي
خلافاً لما ذهب اليه الاتجاه السابق نحو رفض الاعتراف بحجية الحكم الاجنبي ، نجد ان هناك اتجاهاً اخر ينحو نحو الاعتراف للحكم الاجنبي بحجية الشيء المقضي فيه دون استلزم صدور الأمر بالتنفيذ ، حيث يعتبرون تعليق الاعتراف بحجية الشيء المقضي فيه للحكم الاجنبي على صدور الأمر بالتنفيذ هو اسراف في الشكلية لامبرر له(2).
الا ان مشايعوا هذا الاتجاه ليس على مسار واحد ، اذ نجد ان هناك من يضيق نطاق هذا الاعتراف لطائفة معينة من الاحكام الا وهي الاحكام المتعلقة بحالة الأشخاص واهليتهم ، وهذا الموقف يتجلى في احكام القضاء الفرنسي والمصري وتبعه في ذلك القضاء اللبناني(1)، مع ملاحظة ان هناك من يقيم تفرقة بين الاحكام المقررة والمنشأة والاحكام الملزمة ، حيث يشترط في النوع الثاني من الاحكام التي تقضي اتخاذ اجراء عمل تنفيذي ، دون النوع الاول ان تقترن بالامر بالتنفيذ ، اما النوع الاول من الاحكام المقررة كالحكم بالطلاق فأنه يكون كافياً للاحتجاج به وبقوة القانون دون حاجة لان يكون مقترنا بالامر بالتنفيذ(2).
ويستند الاتجاه المتقدم في تبرير ما ذهب اليه الى فكرة الحقوق المكتسبة التي تأخذ مداها بشكل واضح في مجال تنفيذ الاحكام الاجنبية ، ذلك ان هذه الطائفة من الاحكام هي احكام منشأة لحالة واقعية لايمكن انكارها ومن ثم يجب الاعتراف لها بالحجية فوراً وبصفة مباشرة ، اما القول بغير ذلك ، فأنه يؤدي الى نتائج غير مقبولة في الحياة الخاصة الدولية ، كأن يعد الشخص متزوجاً في الدولة ومطلق في الدولة (ب) او شرعي البنوة في الدولة ( أ ) وليس كذلك في الدولة (ب) ، وكل ذلك بمجرد انتقاله من دولة الى اخرى(1).
وقد ذهب البعض من مؤيدي المنهج السابق ، الى تعليق الأعتراف بحجية الحكم الاجنبي في المسائل المتعلقة بحالة الاشخاص واهليتهم على ضرورة توافر شرطين هما(2) :
الاول : ان تكون الاحكام الخاصة بحالة الاشخاص واهليتهم في الحدود التي لاتتطلب التنفيذ الجبري على الاموال او الاكراه على الاشخاص.
الثاني : ان يكون الحكم الاجنبي مستوفياً لشروط الصحة من الناحية الدولية .
واذا كان الاتجاه المتقدم يقصر الأعتراف التلقائي بحجية الحكم الاجنبي على الاحكام الخاصة بحالة الاشخاص واهليتهم ، فأننا نجد اتجاها اخر يوسع من نطاق الاعتراف بحجية الشيء المقضي فيه للأحكام الاجنبية دون تمييز منها ، حيث يرون ان الحكم الاجنبي الصادر في الخارج يرتب ذات الاثار خارج النطاق الاقليمي للدولة التي صدر عن محاكمها ، كل ذلك شريطة ان يكون الحكم قد صدر صحيحاً من الناحية الدولية بأن يكون قد صدر عن قضاء مختص وقد روعيت فيه سلامة الاجراءات القانونية وليس فيه ما يخالف النظام العام او يتعارض مع حكم وطني اسبق الصدور في ذات النزاع(1).
فاذا تيقن القاضي الوطني الذي يراد الاحتجاج امامه بالحكم الاجنبي من سلامة هذا الحكم واطمئن الى صدوره صحيحاً وفقاً للشروط المتطلبة لمنحه الامر بالتنفيذ فأنه يمكنه ان يرتب ما لزم من اثار ناجمة عن تمتعه بالحجية(2) ، مع ملاحظة ان الرقابة التي يقوم بها القاضي الوطني في مثل هذه الحالة هي ليست رقابة لاجل التنفيذ بل رقابة لترتيب الاثر على الحكم بعيدا عن التنفيذ.
وقد ذهب الاتجاه المتقدم في تدعيم رأيه بالاستناد الى فكرة ان الفقه والقضاء قد اعترف بالحجية لطائفة من الاحكام الاجنبية دون حاجة الى صدور الامر بالتنفيذ الا وهي الاحكام الخاصة بمسائل الحالة والاهلية وهي احكام على درجة كبيرة من الاهمية.
كل ذلك من اجل حماية مصالح الاطراف وعدم تغيير حالتهم ، وذات الأعتبار المتمثل في حماية مصالح الاطراف في العلاقات الخاصة الدولية وتوفير الامان القانوني لهم يقتضي ان يتم الاعتراف بالحجية لكافة الاحكام الاجنبية بغض النظر عن موضوعها طالما توافرت فيها الشروط اللازمة للاعتراف بها (1).
فيما ذهب الفقه في مصر في تبرير اطلاق الاعتراف بالحجية للاحكام الى ان المشرع المصري لم يشترط الحصول على الامر بالتنفيذ الا عندما يراد وضع الحكم الاجنبي موضع التنفيذ في مصر ، ولعل اغفال المشرع المصري لمسألة تعليق حجية الاحكام الاجنبية على شمولها بالامر بالتنفيذ دليل على عدم ضرورة الحصول على الامر بالتنفيذ للاعتراف بحجية الحكم الاجنبي(2).
فالامر بالتنفيذ غير لازم الا لترتيب القوة التنفيذية للحكم الاجنبي ، اما الاعتراف للحكم الاجنبي بالحجية فأنه يجدر بالقضاء وان يعترف بها بمجرد توافر الشروط الخارجية اللازمة لصدوره صحيحا من الناحية الدولية(1).
كما يرى هذا الاتجاه ان الاحتجاج يكون الحكم الاجنبي هو عمل من اعمال السلطة العامة الاجنبية ولايمكن الاعتراف به بوصفه كذلك امر غير مقبول فقد اضحى من المقبول الاعتراف بالاعمال الصادرة من السلطات العامة الاجنبية التي تحكمها قواعد القانون العام ، علاوة على ذلك ان الدفع بالاحالة لقيام ذات النزاع امام محكمة اجنبية هو امر مقبول ومعمول به في اطار القانون الدولي الخاص ، واذا كان مقتضى هذا الدفع هو ان يتخلى القاضي الذي ينظر النزاع عن نظر الدعوى لمجرد قيام اجراءات بصددها امام محكمة اجنبية ، فأن من الأولى ان يتخلى عن نظر الدعوى فيما لو كان قد صدر فيها حكما بالفعل من القضاء الاجنبي ، والتخلي هنا يكون بالاستناد الى الاثر الذي يترتب على الاعتراف للحكم الاجنبي بالحجية والمتمثل بمنع اعادة طرح النزاع من جديد(1).
واذا اردنا ان نقيم الوضع في ظل القانون العراقي من مسألة الاعتراف المجرد بالحكم الاجنبي وتمتعه بحجية الشيء المقضي فيه خارج النطاق الاقليمي للدولة التي صدر منها من حيث الحقوق التي انشأها هذا الحكم او قررها ويمكن الاحتجاج به امام القضاء العراقي دون حاجة الى اقترانه بأمر أو قرار التنفيذ فأنه يمكننا القول بأن المشرع العراقي قد تطرق في قانون الاثبات الى موضوع حجية الاحكام الصادرة عن المحاكم العراقية فقط ، ولم يناقش موضوع حجية الاحكام الاجنبية ، ولاتوجد في قانون المرافعات او قانون التنفيذ العراقي اية اشارة الى ذلك . وبالرجوع الى قانون تنفيذ احكام المحاكم الاجنبية في العراق رقم 30 لسنة 1928 والذي عالج مسألة تنفيذ الحكم الاجنبي فقط في المواد من 3-9 والذي اوجب على من يريد تنفيذ حكم اجنبي في العراق مراجعة محكمة البداءة المختصة لأصدار قرار التنفيذ(2).
وهذا الأغفال من جانب المشرع نرى انه مبرر فلو اراد المشرع العراقي ان يساوي بين الاعتراف بالحكم وتنفيذه لكان نص على ذلك صراحة ضمن هذا القانون وذلك بأن من يريد ان يتم الاعتراف له بالحكم الاجنبي ليحتج به امام المحاكم العراقية المختصة لاصدار القرار بذلك وهذا ما لم يفعله المشرع كما فعل بالنسبة للتنفيذ ، ومن ناحية اخرى فأن هذا القانون قد استلزم اصدار قرار التنفيذ بالنسبة للاحكام التي يكون مضمونها الحكم بدين او مبلغ معين من النقود او ان يكون المحكوم به تعويضا مدنياً فقط عندما يكون الحكم الاجنبي صادر في دعوى عقابية(1)، وهذه الاحكام كما تعلم هي احكام ملزمة وليست مقررة او منشئة ، وبالتالي فان مفهوم المخالفة لهذا النص يفيد بأن الاحكام الاجنبية المقررة او المنشأة لمراكز قانونية لاتحتاج ، عندما يراد الاحتجاج بها امام المحاكم العراقية ، لاصدار قرار بتنفيذها ولو كان الامر كذلك لكان المشرع قد شمل هذه الاحكام بمضمون الفقرة (ج ) من المادة السادسة من قانون تنفيذ احكام المحاكم الاجنبية في العراق رقم 30 لسنة 1928.
كما نرى وجود الحكم الاجنبي وصدوره صحيحاً وفقاً للشروط المتطلبة لذلك ، يكفي لوحده للاعتراف بفاعلية تلك الاحكام ، حيث ان ذلك يضمن مصالح الاطراف وحماية توقعاتهم المشروعة ، فاطراف الحكم يعرفون مضمونه وقد اسسو توقعاتهم عليه ، وان عدم الاعتراف بالحجية للاحكام الاجنبية يؤدي الى الاخلال بتنسيق الحلول وتوحيدها وهو الغرض والهدف الرئيسي من وراء دراسات القانون الدولي الخاص وذلك ينعكس سلباً على العلاقات الخاصة الدولية لما يؤدي اليه من نتائج غير مقبولة ، فمثلاً لو صدر قرار بمدينوية ( س لــ ص ) وعرف بأنه بدين له ، ولابد من ان ينفذ الدين ، ونفذ الدين فعلاً ، الا انه بعد ذلك رجع ( س) واقام دعوى امام قضاء دولته الاصلية دعوى دفع غير المستحق ، فاذا رفض القاضي الذي ينظر النزاع الاعتراف بالحكم الاجنبي الذي يقر مدينوية ( س لـ ص ) فسوف يعتبر ان الدين غير مستحق وبالتالي يحكم بأستعادة المبلغ المدفوع من قبل المدين وهي نتيجة غير مقبولة ذلك لانها تؤدي الى تفريغ الحكم الاجنبي من محتواه وعدم اقتضاء الدائن لحقه .
يضاف الى ذلك ان المشرع العراقي في قانون الاحوال الشخصية للاجانب رقم 78 لسنة 1931 قد اعترف بالحجية للاحكام الاجنبية امام المحاكم العراقية صراحة وان كان قد قصر ذلك على الاحكام الخاصة والمتعلقة بالأرث او الوصية حيث نصت المادة (17) من القانون المذكورة اعلاه على (( ان قرارات المحاكم الاجنبية التي يكون قانون دولتها الشخصي للمتوفي اذا كانت متعلقة بحقوق الارث او الوصية فتعتبر لدى المحاكم العراقية كحجج قطعة للاستدال بمضامينها ام قراراتها الاخرى المتعلقة بالتركات فعلى المحاكم العراقية ان تستدل بمضامينها بقدر الامكان مع مراعاة حقوق الدائنين المحليين )).
ونضيف الى كل ما تقدم ان اتفاقية الرياض لعام 1983 الخاصة بالتعاون القضائي وتنفيذ الاحكام الاجنبية قد الزمت كل دولة متعاقدة بموجب هذه الاتفاقية بالاعتراف بالاحكام الصادرة عن محاكم الدول الاخرى المتعاقد في هذه الاتفاقية وذلك في القضايا المدنية والتجارية والادارية والاحوال الشخصية متى كانت هذه الاحكام حائزة على درجة البتات وفق قانون الدولة التي اصدرتها ، وان تكون صادرة من محاكم مختصة وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي لدى الدولة المراد الاحتجاج بالحكم امامها دون الحاجة الى اشتراط اصدار امر بالتنفيذ(1)، مكل ما على الجهة التي تطلب الاعتراف بالحكم لدى أي دولة طرف بالمعاهدة ان تقدم صورة رسمية من الحكم مصدقاً على التوقيعات فيها من الجهة المختصة وشهادة تفيد بأن الحكم اصبح باتاً وحائزاً قوة الامر المقضي به ان لم يكن مذكوراً في الحكم ذاته دون ان تستلزم اصدار امر بالتنفيذ بل بالعكس نجد انها قد ميزت بين الاعتراف والتنفيذ حيث اضافت مستلزمات اضافية يجب تقديمها عندما يراد طلب تنفيذ الحكم .