المرآةُ تعكسُ ما أمامها دون إرادة ولا وعي. تعكسُ الجميلَ جميلاً، والقبيحَ قبيحًا، والنورَ نورًا، والظلامَ ظلامًا. فإن قعّرناها، شوّهت المشهد سماكةً، وإن حدّبناها، شوهته نحافةً. فهل نحن مرايا تعكس ما تسمعه، إن كان حلوًا أو مُرًّا؟
تترائي لي تلك الأفكار كلما اصطدمتُ بقسوة الألفاظ على فيس بوك وتويتر لكل من يختلف في الرأي، وخصوصًا للمنادين بالتنوير والمدنية والعدالة واحترام حقوق الآخر المختلف عقديًّا. لم ننسَ نحن المصريين ما عانيناه من الإخوان وأذنابهم باللجان الإلكترونية، فجعلوا منّا: كفارًا وخاضوا في عقائدنا وأعراضنا وقذفوا مُحصّناتنا وأهدروا دمنا، لأننا رفضناهم حكّامًا علينا. والآن، بعدما استرددنا مصرنا من أنياب تجار الدين والدم، ورزقنا اللهُ بالرئيس السيسي قائدًا وطنيًّا متحضرًا مستنيرًا، لم تتهذَّب ألسنُهم من قيحها، بل ازدادت غلًّا ومقتًا، وهذا طبيعي. لكنني لا أحبُّ أن نردَّ لهم اللعانَ لعانًا، لأننا لسنا مرايا تردُّ الدنس بمثله. فأنا أؤمن أن الله قد نصرنا على أعداء مصر لأننا أرقى منهم وأجمل وأكثر تحضًرا وإيمانُا ووطنيةً. فكيف وقد عَلوْنا وانتصرنا أن ننحدر في خصومتنا فنستخدم أسلحتهم الرخيصة التي حاربونا بها حين أرادوا اغتيالنا معنويا وأدبيًّا وأطلقوا حولنا الشائعات الكاذبات؟ لماذا نكون مثلهم، ونحن لسنا مثلهم؟! كيف نقبل أن نكون مرايا تعكس للبذيء بذاءته؟ نحن بشرٌ ذوو عقل، نعكسُ الجمالَ جمالا، والبذاءة أيضًا نعكسها جمالاً، لأننا نصدر عن أنفسنا ولا نقبل أن نكون “ردة فعل” لما نلاقي. لهذا انتقد النبيُّ مَن “إذا خاصمَ، فجَر”. فالتحضُّر أن نكون كبارًا في الخصومة، لأن ذلك هو دليل الترقّي والإيمان والعلوّ الإنساني.
أحكي لكم قصة من المأثور. يُحكى أن راهبًا اعتاد كلَّ نهار أن يذهب لشراء الجرائد من بائع في الحي. كان البائعُ كلما شاهد الراهبَ لعنه وبصق عليه. فما يكون من الراهب إلا أن يأخذ الجريدة ويدفع ثمنها ويشكر البائع، ويمضي. ذات يوم ذهب الراهبُ لشراء الجريدة كعادته، يرافقه أحدُ أصدقائه. ولما لعنه البائعُ كالعادة، تمتم الراهبُ بالشكر وانصرف، فذُهل الصديقُ وقال للراهب: “لقد لعنك!” فأجابه الراهب: “نعم، لا عليك، هو يفعل هذا كل يوم، الله يسامحه.” فاندهش الصديق وقال له: “كل يوم يشتمك ولا تأخذ موقفًا بل تأتي للشراء منه مجددًا؟!” فقال له الراهب: “نعم يا صديقي، لأنني أرفض أن أكون ردة فعل. أنا أصدر عن نفسي، وهو يصدر عن نفسه.”
وفي كتاب “كتب وشخصيات”، يردُّ الإخوانيُّ “سيد قطب” على كتاب شفيق جبرة “العناصر النفسية في سياسة العرب”، مدافعًا عن “عليّ بن أبي طالب”، مهاجمًا خصميه: “معاوية بن أبي سفيان”، و”عمرو بن العاص”، قائلا: (معاوية وزميله عمرو لم يغلبا عليّ بن أبي طالب؛ لأنهما أعرفُ منه بدخائل النفوس، وأخبر منه بالتصرف النافع فى الظرف المناسب، بل لأنهما طليقان فى استخدام كل سلاح، وهو مُقيَّد بأخلاقه فى اختيار وسائل الصراع. وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم، لا يملك علىٌّ أن يتدنى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان، ويفشل. وإنه لفشلٌ أشرفُ من كل نجاح). ثم يكمل سيد قطب قائلا: (ونحن نأخذ على المؤلف “شفيق جبره” هذا الاتجاه الخطر. فما كانت خديعة المصاحف ولا سواها خديعة خير؛ لأنها هزمت “عليًّ” ونصرت “معاوية”. فقد كان انتصارُ معاوية أكبرَ كارثة دهمت روحَ الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس. ولو قُدِّر لعليّ أن ينتصر لكان انتصاره فوزًا لروح الإسلام الحقيقية: الروح الخُلقية العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال. لم تقم لتلك الروح قائمة بعد- إلا سنوات قليلة على يد عمر بن عبد العزيز- ثم انطفأ ذلك السراج، وبقيت الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية. قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده؛ ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهرِمت، بل انطفأت.)
انتهى كلام سيد قطب، الذي كان ناقدًا أدبيًّا رفيع الطراز، قبل أن تدهسه روحُ الإخوانية المتدنية، فيفسد. والآن، لكلٍّ أن يختار: إما أن يكون إنسانًا متحضرًا لا يفعل ولا يقول إلا الجميل الطيب، مثل المثقف المستنير عليّ بن أبي طالب، أو أن يكون أسفنجةً عجماء تمتص الطِّيب والنجس، فتفرز ما تمتص دون إرادة، أو مرآة صمّاء تعكس ما تراه، لأنها لا تعي من أمرها شيئًا.
“الدينُ لله، والوطنُ للمتحضرين من أبناء الوطن”.
***