حبل الكذب
ــــــــــــــــــ
الكذب كلمة مذمومة ليس في معناها ولكن في تأثيرها العام سواء كان ذلك على المستوى الفردي او الجماعي , وعلى الرغم من أن هناك محاولات لتجميلها وجعلها ذات مغزى ايجابي , فراح أحدهم ينعتها بالكذب الأبيض او الكذبة البيضاء معللا ذلك بما ستؤول نتائجها كاللجوء إليها عند اصلاح ذات البين , إلا أنه مهما كانت الغاية من الكذب وفي أي مجال فهذا لايعني اخراجها من اطارها الذي وجدت به , الكذب كذب وليس هناك ابيض او احمر أو ازرق او اسود , صحيح أن الغاية تختلف حسب الحالة متطلعين إلى نتائجها ، الا أنه يبقى كذبا , إذن هناك غاية حميدة وغاية مذمومة وبات الكذب حميدا أو مذموما .
قبل ايام كنت في العشار لقضاء بعض الأشغال هناك , والتقيت مصادفة صديقا لي فحمد الله بأن وجد من يصاحبه هناك , وعندما سألته عن وجهته أجابني أنه مشوار قصير في محل صيرفة ليس ببعيد ورجاني أن أجاريه في الذهاب إلى حيث يبغي فلم أجد بدا من مطاوعته ووافقته بالأيجاب , وعند ولوجنا الى المكتب المقصود فإذا بي وجها لوجه مع صديق قديم لم اره منذ مايقرب خمسين عاما , وبعد الترحاب والعتاب عما كان من طول فراق , استفسرت منه عن عمله لتكون إجابته أنه يعمل في مجال الصيرفة , ولكني أخذت في التركيز على ملامحه فإذا بي لم أر تغيرا ملحوظا في تقاطيع وجهه ولم يغير الزمن من هيأته وملامحه الا ماترتب على بعض تقاطيع وجهه الشيء القليل بحكم تقادم الزمن .
بالأمس كان جارا لي وأنا في مرحلة المتوسطة , تعرفت عليه بعد انهائه خدمته العسكرية الإلزامية من خلال بعض الزملاء ونحن نلعب لعبتي الشطرنج وطاولة النرد , في ذلك الوقت كان قد تقدم باوراقه للتعيين لدى وزارة النفط بشهادة السادس الإبتدائي ويعتزم اجتياز الأمتحان الوزاري للثالث المتوسط كطالب دراسة مسائية , وتم قبوله للعمل في دوائر وزارة النفط ولم اره فيما بعد الا أن اخباره تصل الي ّ بعدما تزوج وسكن محلة أخرى لأن مسكن أبيه لايتحمل السكن معه , وعلمت فيما بعد أنه أنهى أمتحان بكلوريا المتوسطة وأجتازه بنجاح مكتفيا بتلك الشهادة لغرض تعديل الراتب حسب ما ورد لمسامعي من خلال شقيقه الأصغر , ولكن اليوم قدم نفسه على أنه ماجستير محاسبة كومبيوترية , فأندهشت من هذا الأختصاص الغريب , ولو قال ماجستير محاسبة فإن المصداقية تكون أكثر عمقا وسهولة في الأدراك , مما جعلني أضع علامة استفهام على إدعائه , ويبدو أن ادراكه لايعي المعنى الحقيقي للمحاسبة , وربما يعرفها على أنها عبارة عن عمليات جمع وطرح ليس إلا ، وهذا ما دعاه لانتحال صفة الحصول على تلك الشهادة , متناسيا أن المحاسبة هي ذلك العلم الذي يبحث في الأمور المالية وتبويبها والتعامل مع المدخولات المتمثلة بالأمور الأقتصادية وفق أنظمة وأساليب علمية معينة بهدف استلام وتوزيع وتدقيق الموارد المالية وثبيتها في سجلات وجدولتها بما يعزز الحالة الأقتصادية للمؤسسة , هنا ناقشته في كيفية الحصول على شهادته هذه ذات الاختصاص الغريب متسائلا إياه عن الجامعة التي نال منها تلك الشهادة , ويبدو أنه ادرك المغزى من سؤالي وراح يتهرب باسلوب ملتو وبعد اصراري والحاحي أجابني وحسب مايعتقد بذكائه من أنه حصل عليها من جامعة بغداد .. كلية الأدارة والأقتصاد سنة 1975 , فقلت له أن شقيقي ( شخصية وهمية ) الدكتور رياض كان عميدا لهذه الكلية في تلك الفترة , فأجابني على الفور وعلامة التعجب ظاهرة على محياه … ما شاء الله .. دكتور رياض , شقيقك ؟ إنه كان رئيسا للجنة المناقشة التي منحتني شهادة الماجستير , فأندهشت من رده الذي ينم عن ادعاء كاذب ليس له من مصداقية على الأطلاق , هنا اكتفيت في مناقشته وعلمت من أنه يكذب ، مثله مثل ذلك الذي يدعي أنه رأى الشمس في منتصف الليل ، وليس هناك من داع لتكملة الحوار , فليس لي شقيق بهذا الأسم على الأطلاق وليس هناك أي وجود لشهادة بهذا العنوان , حينها أنهى صديقي عمله هناك وهممنا بتوديعهم . خرجت من ذلك المكتب برفقة صديقي الذي لم يتمالك نفسه من الضحك وهو يقول , لقد لويت يده لوية لحد الكسر … قلت له أنه وبتفكيره الساذج قد فضح نفسه بنفسه من خلال رده غير المنطقي , ولكن هنا كان كذبه هينا بالمقارنة مع ذلك الذي يكذب على أناس انتقلوا إلى جوار ربهم ويستشهدون بكذبهم أحيانا بشهادات أناس توفاهم الله أيضا , إذ قبل أيام طالعت مجلة فيها حديث لأحدى الفنانات العراقيات وهي تتحدث عن صداقتها وعلاقتها العميقة بالفنانة سعاد حسني أثناء تصوير الأخيرة أحد أفلامها في العراق وأنها قد اصطحبتها إلى أطباء من له إختصاص في العقم ببغداد بناء ً على طلبها ، إذ أنها لم يرزقها الله بطفل على الرغم من ميلها الشديد للحمل , فكانت النتائج ؛ استحالة الحمل , تصور ياصديقي أن الكذب هنا كان على إنسانة أصبحت بجوار ربها , فهل من المعقول أن سعاد حسني التي كانت كثيرة التردد على لندن وباريس تترك الطب المتطور هناك وتأتي إلى بغداد لعلاج العقم ؟ وعليك أن تتصور مدى تماديها بالكذب حينما تكلمت عن حياتها الخاصة , وأنها من مواليد البصرة قضاء أبي الخصيب , هنا لابأس في كلامها ولا غبار عليه ، ولكن الملفت للنظر إضافتها الغريبة من أنها نشأت وكبرت وهي تعيش على مقربة من أهوار أبي الخصيب !! أسمعت ؟ أهوار أبي الخصيب ؟ ولا أدري عن أية اهوار تتكلم ؟ وصدق من قال .. إن حبل الكذب قصير .
ســــــــــعد عبدالوهاب طه