ناظم محمد العبيدي
في بيته القديم الذي إحتلت واجهته سدرة كبيرة، طالت وتفرعت أغصانها فأصبحت مملكة لما لا يحصى من العصافير، ونمت في حديقته المهملة نباتات القصب والحلفاء فغدت أعلى من جداره الخارجي،في ذلك البيت الذي شحب لون طلاؤه الأصفر والمطل على ساحة ترابية انتشرت فيها الأنقاض والأزبال، إنزوى الكهل منذ سنوات ولم يعد يشاهده أحد من الجيران، وإذا صادف وسقطت فيه كرة لأحد الأطفال الذين يلعبون قريباً من المنزل فإن صمتاً طويلاً يشوبه التوجس يرين على الصبية، لأنهم يعرفون سلفاً أن لا أحد سيفتح لهم الباب مهما طرقوا، وأن على أحدهم أن يجازف ويقاوم خوفه متسلقاً السور ليجلب الكرة.
ولولا إبن أخيه الشاب الذي يأتي كل شهر لتفقده، لما عرف أحد على وجه اليقين، إن كان مازال هناك أم خرج؟ إن كان حياً أم غادر هذا العالم في إحدى الليالي الغريبة؟ إذ قلما يخرج من البيت وماعاد يكترث بما يجري من حوله بعد موت زوجته وهجرة ولديه وابنته الوحيدة الى خارج الوطن، كأنه أعلن إحتجاجه على الحياة بأن أضرب عن الخروج، بل إنه لم يذهب حتى لتسلم راتبه التقاعدي منذ أشهر، فقبع بين جدران منزله وحيداً لا تؤنس وحشته الا أشباح مخيلته وأغنيات روحه الحزينة .
كانت الصور والأصوات القديمة التي احتفظ بها في ذاكرته، قد انبعثت على نحو غامض لترسم له حلماً شائكاً، فهو يسمع بعض الأحيان صدى ضحكة نسائية ساحرة، تغازله وتدعوه لكي يتأمل فستانها الجميل، يقف في غرفة نومه ثم يخرج الى الصالة ساحقاً بقدميه الفوضى التي أحدثها في المكان، يسرع متنقلاً بين الغرف في حيرة وقد ارتسمت على وجهه المصفر ابتسامة غامضة، أوشك على اليأس من مجيئها، تلك المرأة التي راودته في الحلم، مجابهاً الفراغ المرعب الذي يحيط به، ظلام وحيرة لا يفارقانه ولايدعانه ينعم بالسكينة والهدوء، كان يشعر بوجودها الحميم ويسمع همساتها، إلا أنه لم يهنأ برؤيتها أبداً، بإستثناء تلك الزيارات الخاطفة حين يستيقظ في أوقات متأخرة، غير أنها تجسدت له أخيراً بعد شهور طوال قضاها معذباً تحرق روحه الأشواق المضنية، استوى فيها الليل والنهار، ظهرت حين خلد العالم من حوله الى السكون، وصار بإمكان روحه السفر دون أن يعترض مساربها شيء، بهت للحظات لا يعرف ماذا يصنع، بهرته بجمالها فتمتم بلا شعور: آه …ما أجملك! علت وجهها ابتسامة غامضة ومشت اليه بخطوات بطيئة حذرة، كان يجلس على الأرض متربعاً على بساط قديم رافعاً رأسه، يحدق اليها بعينين أنهكهما السهر والإنتظار، هاله جمالها الذي فاق كل ما ارتسم في خياله، شقراء بعينين واسعتين شع في حدقتيهما اللتين بلون الفيروز نور غريب، شعرها الذهبي الذي استطال حتى كاد يغطي كل جسدها، بياض بشرتها الناصع، ثوبها الذي يذكر بالملكات الأسطوريات،اتسعت ابتسامتها وهمست بكلمات لم يتبينها، فقال بصوت ضعيف متوسلاً : انتظرتك طويلاً جلست على الأرض تحدق في عينيه كأنها تقول له : أعرف ..
فمد وجهه بلا شعور يقبلها، وحين لامست شفتاه فمها شعر أن جحيماً اشتعل في أعماقه، وعاودته حمى الحب التي خبرها في أوقات عنفوانه، تحسس بأنامله كتفيها وظهرها وما إن جذبها برفق يضمها الى صدره، حتى أمسكت بيده مبتسمة في دلال، لم تقل شيئاً لكنه فهم من إيماءتها أنها تريد الإقتراب منه بطريقتها، فتوقف للحظات يحدق مفتوناً، زحفت لتجلس في حجره تطوق رقبته بذراعها البضة فحجبت كل شيء عنه، كانت تلك اللحظة الأولى التي يغادر فيها أحزانه، يحلق منتشياً في سموات فتنتها .
لكن حضورها زاد من آلامه وعزلته، فهو ممدد على الأرض لا يعرف أين هو ؟ هل غادر عالمه القديم أم مازال أحد سكانه الضائعين ؟ آه العالم في الخارج قاع محيط اسود، مرعب ولا مبال على نحو يورث الدوار، مايوقظه من غيبوبته هو حضورها الآسر، والمتوقع مثل ومضة نور في وحدته، ود لو تجالسه طويلاً لتروي له ما احتجب عنه خلف هذه الجدران، غير أنها لا تصغي لكل مايقول، وهذا ماجعله يصرخ متوسلاً في إحدى الليالي : هل ترين حلكة هذه الأوقات ؟ لماذا تختفين حين يطبق الليل على روحي مثل موجة هائلة ؟ أو تنطبق علي جدران هذا المنفى ؟ لكنها أبداً لم تكن تعبأ بما يردده في خلوته، تشع فتنة دون أن تنظر الى عذابات عاشقها، وتباعدت زياراتها فأصابته باللوعة والعطش، فهمس ذات ليلة حين ارتمى حسيراً يقتله الوجد : ما أقسى هذا الظمأ ؟
لم ييأس من مجيئها وظل معلقاً على مشنقة الحلم، تعبث به الخواطر في جحيم الترقب والإنكسارات، كان غائباً عن كل شيء الا مذاق حوريته المحتجبة ، حتى سمع ذات يوم من يوقظه من غيبوبته، كان ابن أخيه الذي يزوره في أوقات متباعدة، يحمل اليه الطعام، استقبله شارد الفكر وظل الشاب يرمقه في فضول متسائلاً إن كان يريد شيئاً، لكنه ظل صامتاً يرمقه في حيرة فظن أنه ليس بحاجة الى أي شيء، غادره فعاد الى وحدته وصمت أوقاته المعذبة، راوده خاطر قديم في العودة الى كتبه وتأملاته القديمة، فسخر من نفسه وافترش الأرض يضحك في تراخ، ذهب كل شيء الى غير رجعة، أنى لهذا العقل أن يصدق ترهات العالم؟ لا مزيد من الأكاذيب، لاحقيقة الا لهذا الهمس المتسرب من لا مكان، ولكن لماذا تغادره ولا تدع له فرصة الإرتواء منها ؟
في زيارتها الأخيرة أمسك بيديها وهمس بكل قواه أنه يحبها، لم تقل شيئاً وظلت تنظر في عينيه وقد بدا عليها الحزن والإشفاق، ذلك الحزن الذي نقرؤه في عيني من يفكر : آه ..إنك لا تفهم توسل بها أن تحدثه عن أي شيء ولا تظل صامتة، وفاجأته بالسؤال عن أفكاره التي ظن أنه نسيها منذ زمن بعيد، والتفتت تشير الى مكتبته التي غطاها الغبار وسمعها تقول بلهجة طفولية : ماذا تصنع بكل هذه ؟
استعرضت عيناه تلك الرفوف وماتضمه من كتب، وابتسم لها وهو يغمغم ساخراً، أن ذلك كان من عهد بعيد حين كان للوقت مذاق الحلم، بيد أنه اليوم غدا كالحاً ولا معنى له، وقفت بحركة مفاجئة فرفع رأسه ينظر اليها متسائلاً فهمست أنها لن تعود اليه بعد اليوم …وليس عليه إنتظارها مثلما كان يفعل دائماً .
نهض مصعوقاً مما سمعه ممسكاً بيدها يرجوها البقاء معه، الا أنها حين همت بالكلام سكتت وارتسمت على وجهها ذات النظرة التي تقول : إنك لن تفهم ..
وبرغم توسلاته مضت تاركة إياه ضائعاً لا يعرف ما يصنع ؟ شعر بالدوار من الضعف وسقط على الأرض، وحين أفاق في اليوم التالي استحوذ عليه الرعب من تذكر ماجرى معه، إنها لن تعود فماجدوى البقاء هنا والإنتظار ؟ نهض من مكانه عابس الوجه حزيناً، مقلباً وجهه في أركان البيت، يستشعر غصة في أعماقه جعلت دموعه تنساب على لحيته، لم يطق البقاء في المكان وصرخ متوسلاً يخاطبها أن ترجع اليه، كان بوسعه أن يراها وهي غائبة، يمسك بظلها ووجهها الذي يستعصي على النسيان، فظهرت له بوجه غاضب هامسة له أن يتبعها اذا كره البقاء في البيت، لم يتردد في الخروج معها فسار خلفها حافياً، يبتسم فرحاً وهو يغادر منزله، سجنه المعتم الذي ماعاد يمنحه السكينة .
وحين عاد ابن أخيه الى البيت ليطمئن عليه كما كان يفعل دائماً لم يجده، سأل عنه الجيران فأخبرته إمرأة أن ولدها الصغير رآه خارجاً، أغلق الباب وقد بدا عليه القلق وأوصى المرأة في رجاء أن تتصل به إن عاد عمه الى البيت، أخذت المرأة الورقة التي كتب عليها الرقم وهي تنظر في استغراب من قصة جارها .
توالت الأيام والشهور دون أن يعرف أحد مصيره، وبعودة ولديه من خارج الوطن لم يجدا سبباً يدعوهما للإبقاء على البيت مع إختفاء الأب واليأس من العثور عليه، فباعاه لتسكن فيه أسرة أخرى قامت بتجديد طلائه وتشذيب السدرة بعد أن أزالت تلك النباتات التي استطالت كثيراً، وانطوت بذلك حادثة اختفاء الكهل بمرور الأوقات وماعاد أحد يتحدث عنها، حتى إبنته الوحيدة التي حملت معها صورة قديمة له، يظهر فيها بكامل إناقته، واقفاً وهو يبتسم الى جوار زوجته الراحلة.