جوكر
لكل حياة إيقاعها الداخلي الخاص بها ، وقد يبدأ هذا الإيقاع بالعمل منذ الولادة أو يأخذ بالدبيب والعمل لاحقا . مثلا ، لا يوجد برأيي سيئو حظ ولا كذلك تعيسون ، هناك اقتراب واستمراء غريزي للنجاح مثلما هناك وقوع حر مقصود في الفشل . ولهذا الإيقاع تمظهرات وأدوات وصور .
إيقاعي الخاص يتراوح ويتناغم بين طاقتين داخليتين مضمرتين تتناوبان ، تتنازعان حتى تتناغمان ، الأولى طاقة سلبية تتبجس من حيث لا أدري وكأنني لا أنتمي لهذا العالم أو تربطني به وشيجة واهية ، فأبددها بطاقة أخرى قد تكون إيجابية أو هروبية فأأخذ بترويض المشاعر العدمية أما بالمشي أو بلعبة تحدثت عنها وهي الولع بجمع أرقام لوحات السيارات وإذا ماكانت تقبل القسمة على ثلاثة ، فإذا ماكانت تلك القابلة للقسمة على ثلاثة هي أكثر من النصف فهذا يوم سعيد ، أو هكذا ما أحسبه فأتفاءل كذبا وبالتالي تتبدد تلك الطاقة السلبية وكأن مفرغة ذكية غير مرئية تأخذها بعيدا ، أصبحت الطرقات معروفة مثل خارطة الكف وفيها سيارات معلومة أحفظ أرقامها أو مجموعها على الأقل ولما اتسعت اللعبة أصبحت لها قوانين فأخذت باحتساب الرقم 20 من ضمن الأرقام القابلة للقسمة على ثلاثة ولا تسألوني لماذا وأصبحت أتشاءم من الأرقام التي تزيد بواحد على معادل القسمة على ثلاثة فهذا يعني أن واحدا سيفيض عن حاجة هذا العالم وإذا العكس فكان الرقم بحاجة لواحد حتى يبلغ هذا المعادل فهو فأل حسن ، بسلامة أو ولادة أو عبور شدة أو مرض . كان الرقم 23 اذا ما ظهر بين لوحات الأرقام فأشعر بغصة إذ أحتسبه خارج المعدل ، يهدأ خاطري عندما أبرر بأنه ينقص واحدا عن المعدل ولايفيض فيتفاقم الشؤم . لم يكفني هذا ، وجدت نفسي تهفو للرقم 23 فكيف الخلاص ، حتى وجدتها ذات يوم بمخرج مناسب .
عدت للماضي وكيف كنت أهرب من تلك الطاقة السلبية بركوب باصات النقل العام ( الأمانات) ، فكانت أربعة باصات تخترق منطقتنا وتذهب بنا إلى حيث نريد ، وهي بالأرقام 23 و 30 و 57 و 69 ، وكلها كما ترون تقبل القسمة على ثلاثة ماعدا الرقم 23 ، كان الباص رقم 69 هو الوحيد بطابق واحد وينطلق من ساحة الشهداء صوب الداوودي الثلاثة الباقية كلها بطابقين ، 57 يبتدئ من الميدان حتى شارع 14 رمضان ، 30 من ساحة التحرير فيمخر عباب منطقة المنصور بدروبها وشوارعها الخلفية المشجرة باحتفال واضح وبهيج مقصود ، الباص رقم 23 يربط ببذخ باب المعظم ومنطقة إسكان غربي بغداد وهذا الباص هو أكثرها استعمالا بالنسبة لي ، وبحسبة بسيطة تمت ترقية الرقم 23 ، بناء على ما تقدم لا ليكون قابلا للقسمة على ثلاثة بل أكثر فيصبح الجوكر ، فإذا ماظهر لي وكأنني مثل إينانا ، دخلت العالم السفلي بتذكرة مرجعة .
لا يرتبط هذا الباص بفكرة الهروب بل بالدفء وكأنه رحم لصغير لا يمل البقاء ويرفض الخروج أو النزول ويتعدى سحر 23 إلى خارج الباص . يذكرني الباص فيما يذكر بالروائي عبد الستار ناصر رغم عدم ركوبه للباص ، لكنني وأنا أنتظر الباص رقم 23 وفي الساعة السابعة وخمس دقائق صباحا بالضبط تأتي سيارة حديثة لنقل الموظفين سعة 18 راكبا يابانبة المنشأ وفي مقعدها الأخير وعلى نافذتها الأخيرة يطل وجه حزين وإن كان حليقا نظيفا ، هو الروائي عبد الستار ناصر عندما كان موظفا في دائرة تابعة لوزارة النفط هي المؤسسة العامه لتوزيع منتجات النفط ، موقع هذه الدائرة في شارع الرشيد قرب سينما الخيام والإتحاد العام لنقابات العمال ، عندما كانت مؤسسات الدولة التي كرهتها على طول الخط مبعثا لفخرهم وفائدة للمواطن . قد يكون هذا بعد العام 1972 حينما كتب ناصر قصته( سيدنا الخليفة ) في مجلة الموقف الأدبي وفيها نقد شجاع مبكر للديكتاتور عندما شبهه بقاتل الاشتراكيين نوسكه في جمهورية فايمار كما أظن . أصبح عبد الستار تحت مجهري فأقرأ ما يكتب وماذا يفعل حتى قرأت له يوما في مجلة الأقلام واصفا نفسه ( وكنت لفرط جمالي ) فتركت الرجل وشأنه ، ذلك العدد من مجلة الأقلام كان دسما بمواضيعه و مضامينه ومن بين المقالات كانت واحدة مطولة لعزيز السيد جاسم أبهرتني وفيها جملة( وكان لفرط عذوبته ) ، وربما كان يتحدث عن شعر أحدهم ، انتبهت لتلك المفارقة والأكثر مفارقة أخرى كانت تهمس بأن عزيزا نفسه هو المسؤول عن وشاية عبد الستار ناصر وكتابة تقرير عن( سيدنا الخليفة) وبالطبع نفى كثيرون ذلك وآخرون ذهبوا إلى عكس ذلك كون عزيز نفسه هو من توسط له لدي السلطات العليا والله أعلم .
في الباص رقم 23 كانت بانوراما لن تتكرر ، طالبات جامعيات جميلات بالزي الموحد أراقبهن وهن يتدرجن سلم التعليم حتى التخرج والتوظيف وربما الزواج ، علاقات حب مفضوحه ومن طرف واحد بعضها بنهايات سعيدة وأخرى سائبة ، طلاب يكملون دراستهم فتأخذهم الجندية الإلزامية ومن ثم دوامة الحرب ، وتنقطع أخبارهم ويتركون مقاعدهم في الباص دون عودة ، هاربون من الحرب أتعقب حذرهم وأدعو لهم بسري ، ناشطون سياسيون ينتقلون من الباص صوب المنافي فلا يعودون ، كل هذا جعل الباص يترهل ويشيخ وتبهت ألوانه حتى يتقاعد نهائيا .
من بين ركابه ، كانت موظفتان بعمري تقريبا تتشابهان لجهة الاكتناز في الحوض والساقين وبياض البشرة ونبل المحتد كمل يلوح ويبدو ، كانتا زبونتين ودودتين إلى حد بعيد فوقعتا تحت مجهري من الباص رقم 23 حتى العمل ، كانتا كمن تبحث عن زوج ، في الحرب و
تحت القمع يكسد هذا السوق وتندر العروض ، كنت أرقبهما يتخطين الشباب بحذر ومقاومة ، لكن للحياة قبضتها القاسية فوقعتا بمخالب العنوسة وكأن ماحصل للباص ولهن ولبغداد يعم ولايستثني شيئا ، آخر مشهد ، كانتا مثل برميلي خل وقد ماتت في العيون بريق الحياة ، حينها كان حتى الباص قد خبا وأحال نفسه للتقاعد وتفرقت كوتشينه اللعب واختفى الجوكر .
كامل عبدالرحيم