جـُرعـَة قـَويَّـة مـفـيدة من الـنـَّـقـد الـذاتي..!!
الدكتورعـبـدالقادرحـسـيـن ياسين
عـرفت الدكتور مصطفى السَّـمان قبل ثلاثين عـامـاً!
عـرفته فـتى نحيلاً خجولاً.. بالغ التهذيب..
يرتدي نظارة طبية سميكة..
لعلها جاءت من طول التحديق في الكتب..
ثم فرقتنا الأيام… بعد أن ضاقت بنا أرض العـرب بما رحبت…
وانتهى بي المطاف في السـويـد…
وحطَّ مصطفى رحالـه في أوسـتراليا…
واكتشفت، فجأة ، أن الفتى النحيل الخجول يملك موهبة أدبية.. جرّت عليه بعض المشكلات..
“ما مـن موهـبة تمرّ دون عـقـاب!”..
هكذا قال محـمـد الماغـوط..
وأقول: “وبقدر ما تقترن الموهـبة بالجرأة بقدر ما يزيد العقاب…وخاصة في دنيا العروبة”..
وتبين لي أن الفتى النحيل الخجول لديه الكثير من الجرأة.. وكان ما كان..
قبل مُدة.. قرأت لمصطفى السـَّمان مقابلة أجـرتـهـا مـعـه صحيفة “العرب” الصادرة في لندن..
وهو لا يجري مقابلات إلا في النادر..
ولعل مقابلته تلك كانت “بـيـضة الديك”..
وأشار إلى مؤلفات له مـُنعـت في معظمم الدول العربية…
وكالعادة مع كل ممنوع مرغـوب..
تحرّك الفضول..
واستنجدت بالصديقة القديمة الدكتورة نبيلة أبوغزالـة في لـنـدن،
أرجوها أن تـرسل لي المؤلفات الممنوعة..
ووصلت الكتب.. وقرأتها.. وأعجبت بما قرأت..
وسأكتفي بالإشارة ـ الإشارة فقط!ـ إلى واحد منها..
مجموعة قصصية اسمها ” قــَمـعـســتـان“..
قبل أن أبدأ الحديث عن هـذه المجموعة ،
أودّ أن أقول أنه آن الأوان لنتخلص من حساسيتنا التي تصل حدود المرض من النقـد..
لقد آن الأوان أن ندرك أن مجتمعنا اليوم ،
ليس أفضل من مجتمع الخلفاء الراشدين والأمويين والعـباسـيين…..
وإذا كان مجتمع الصحابة شهـد من يـَسرق ،
ومن يـَزني ومن يـقـتـل ومن ينافــق ومن يكـذب،
فلماذا نستغرب أن يحتوي مجتمعـنا البشري على هذه الذنوب والخطايا،
وبنسبة تفوق، بالضرورة، ما عرفه العرب قبل 14 قرنا؟؟؟
وإذا كانت قـصص المجتمع الفاضل وصلتنا،
موثقة مفصلة في كتب التاريخ، شعراً ونثراً،
فلماذا نأنف أن نشير في أعمالنا الأدبية إلى شيء من عـيوبنا؟
هل بوسعنا أن نغمض أعـيننا ،
متظاهرين أن مجتمعنا لا يسكـنه سوى الصالحين ،
الأتقـياء ، الأنقـياء ، الورعـين ، الطاهـرين ، الرُّكع السُـجود؟
وهل من حقنا أن نقابل كل نقد اجتماعي يأتي من الداخل أو الخارج،
بتكميم الأفواه وقـطع الألسن (أعني مجازاً بطبيعة الحال!)؟
غـني عن البيان أن من علامات النضج في الفـرد وفي المجتمع (أي مجتمع)،
أن يكون قادراً على مواجهة نـفـسه ونقائصها..
أما آن الأوان أن نبلغ مرحلة النـُضج؟!
قامت الدنيا ولم تقعد لأن روائياً مصرياً ،
كتب رواية تدور حوادثها في مدينة سعودية..
وعـندما قرأت الرواية استغربت قيام الدنيا وعـدم قعودها..
لم أجد في الرواية ما يسيء إلى السعودية أو شعبها..
كانت، ككل رواية، مزيجاً من الخيال والواقع..
ولم تكن إعلاناً مدفوع الثمن..
وقالت الرواية عن المدينة السعودية أشياء ،
بعضها من الخيال وبعضها من الواقع..
وقامت الدنيا مرة ثانية لأن روائية فـلسطينية،
كتبت رواية عن تعـدد الزوجات في المجتمع السعـودي…
وتكلمت الرواية عن أشياء جميلة وقـبيحة،
تحدث في المجتمع السعودي، كما تحدث في أي مجتمع آخر….
نحن لا ننزعج عندما نقرأ أعمالاً أدبية صريحة،
عـن أطفال الشوارع في البرازيل…
أو دعارة الأطفال في تايلاند…
أو فـسـاد الطبقة الحاكمة في ايطاليا…
أو المتاجرة بالـدين في الباكستان..
أو الفضائح الجنسية لكرادلة الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة…
أو…أو….
وحريّ بنا ألا ننزعج إذا قرأنا عن مجتمعاتنا أعمالاً أدبية صريحة..
تضع الإصبع على الجرح..!..
في مجموعـته القصصية “قــمـعــسـتان” ،
يقدم لنا مصطفى السَّمان جرعة قوية مفيدة من النقد الذاتي..
يقدّم لنا ثلاث أقاصيص تصور المجتمع السعـودي ،
لا كما نراه من خلال النظارات الوردية ،
ولا كما تصوره محطة “الـعـربـيـة” أو MBC …
ولا كما تصوره الإعلانات المدفـوعة الأجر في الصحف والمجلات الأمريكية،
ولكن كما يبدو للمراقـب الموضوعي..
حاول مصطفى جهده أن يكون مراقـباً موضوعـياً،
إلى درجة أنه تقـمص شخصية الضيف الفـلسطيني ،
الذي وفد يطلب الرزق في صحراء العرب..
الأقصوصة الأولى عن طبيب فلسطيني ،
جاء يمارس الطب في الرياض ، ويصف تناقضات المجتمع السعودي حوله…
والقصة الثانية عن مهندس بترول فلسطيني،
جاء يعمل في مدينة الظهران.. ،
ويقص علينا قـصة مضحكة مبكية ،
عما يعانيه الفلسطينيون علي أيدي “الأشـقاء العـرب”..
والأقصوصة الثالثة عن امرأة سعودية متزوجة من لواطي ،
تمضي وقتها في رحلات للتسوق بين باريس ولندن ونيويورك …
بينما يمضي زوجها أوقاته متنقلا مع غـلمانه ،
بين بانكوك ومانيلا ولاس فـيغاس …..
حسناً! لا تطمعـوا أن أفـضي إليكم بالمزيد من التفاصيل…
وبعـد..
شربت جرعة قـوية مفـيدة من النقد الذاتي..
وشكرتُ الصديق العزيز مصطفى السـمان ..
وبقيت لي أمنية..
أن يشرب وزراء الثقافة العرب..
جرعة صغيرة مخففة منزوعة الدهـن..
من حليب السباع!
و”يا أمَّـة ضحكت من أجلها الأمم”..!!